جلسة 28

المفطرات

وهي اُمور:

(الأوّل، والثاني): الأكل والشرب مطلقاً، ولو كانا قليلين أو غير معتادين.

لا إشكال في مفطريّة الأكل والشرب، بل يمكن عدّ ذلك من ضروريات الدين بحيث يعرفه الصغير والكبير والعالم والجاهل، فالكل يعرف ثبوت الصوم في الإسلام، وأنّ الصوم لابد أن يكون على الأقل عن الأكل والشرب، وكيف لا يكون ذلك ضرورياً والكتاب العزيز يقول: (وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إلَى الَلّيلِ)[1].

إذاً مفطريّة الأكل والشرب هي في الجملة مُسلّمة وضرورية، ولا كلام من هذه الناحية، وإنما الكلام وقع من جهات جانبية اُخرى من قبيل:

ـ هل الحكم بالمفطريّة يعمّ ما إذا كان الطعام والشراب قليلين جداً؟

ـ هل الحكم بالمفطريّة يعمّ ما إذا كان الطعام والشراب غير معتادين؟

ـ هل الحكم بالمفطريّة يعمّ ما إذا وصل الطعام والشراب إلى الجوف من غير طريق الفم؟

ـ هل الحكم بالمفطريّة يعمّ مثل تزريق الإبرة وتقطير القطرة في الأذن أو الأنف أو العين؟

ـ هل الحكم بالمفطريّة يعمّ مثل ابتلاع البصاق وما شاكله.

إلى غير ذلك من الجهات التي قد يكون بعضها داخلاً في البعض الآخر وليس مستقلاً في مقابله.

وكان من المناسب للسيد الماتن ـ قدّس سرّه ـ التعرّض لهذه الجهات أجمع تحت عنوان هذا المفطّر، فمثلاً كان من المناسب أن يتعرّض لتزريق الإبرة أو بلع البصاق وما شاكل ذلك هنا أو لا أقل بعد إتمام جميع المفطّرات، فتُذكر بعد ذلك الجهات الجانبية لكل مفطّر، ولكنه ـ قدّس سرّه ـ لم يفعل هذا ولا ذاك بل أخذ بالتعرّض لهذه الجهات الجانبية في وسط المفطّرات، فعند التعرّض للمفطّر التاسع ـ الاحتقان بالمائع ـ تعرّض إلى مسألة التزريق والقطرة وما شاكل ذلك، والحال أنّ ذلك ليس هو الموضع المناسب بل المناسب هو ما أشرنا إليه، وهذه قضية فنية لا أكثر.

ونحن نتعرّض إلى الجهة الاُولى والثانية هنا حيث تعرّض لهما قدّس سرّه، وسوف نتعرّض إلى الجهة الثالثة ـ وصول الطعام والشراب إلى الجوف من غير طريق الفم ـ هنا أيضاً وإن لم يتعرّض لها قدّس سرّه، وذلك لأنّها مرتبطة تمام الارتباط بالمقام كما سيتضح، وأما بقية الجهات فسوف نتعرّض لها تبعاً لتعرّضه ـ قدّس سرّه ـ بعد ذلك تحفظاً من عدم حصول التشويش بسبب التقديم والتأخير، وعلى هذا الأساس نتعرّض هنا إلى جهات ثلاث:

الاُولى: التعميم للطعام والشراب القليلين.

الثانية: التعميم لغير المعتادين.

الثالثة: البحث عمّا يدخل إلى الجوف من غير طريق الفم.

أما الجهة الاُولى فينبغي عدم الإشكال في التعميم تمسكاً بإطلاق الأدلة، فأنّ عنوان الطعام والشراب أو الأكل والشرب مطلق ولم يقيّد بالكثير، والمسألة من هذه الناحية واضحة.

وهناك قضية جانبية أو بالأحرى مثال خاص تعرّض إليه السيد اليزدي[2]، وهو ما إذا بل الخيّاط الخيط بريقه ثمّ ردّه إلى الفم وابتلع ما عليه من الرطوبة، وكذلك لو استاك الصائم وأخرج المسواك من فمه وكان عليه رطوبة ثم ردّه إلى الفم وابتلع ما عليه من الرطوبة، فقد حكم بعدم الجواز ما دامت عليه رطوبة إلاّ إذا كانت تلك الرطوبة مستهلكة.

وقد أشكل السيد الحكيم ـ قدّس سرّه ـ [3] وحكم بعدم الجواز مطلقاً من دون تقييد بعدم الاستهلاك مستدلاً على ذلك: بأنّ الاستهلاك لا يتصور مع وحدة الجنس، فأنّ الاستهلاك يكون ما بين الجنسين كالحليب في الماء، وأما الماء في الماء فلا يتصور فيه الاستهلاك بل تحصل زيادة وليس ذلك استهلاكاً، وعليه فإدخال الخيط ثانيةً في الفم يكون مفطّراً مطلقاً، وعلّق السيد الخوئي ـ قدّس سرّه ـ:[4] بأنّ الاستهلاك بلحاظ الذات وإن كان موقوفاً على اختلاف الجنس إلاّ أنّه بلحاظ الوصف العنواني لا يتوقف على ذلك، فلو كان لدينا ماء قليل مغصوب فمزجناه بماء البحر فالاستهلاك بلحاظ ذات الماء لا يتحقّق، بل نقول: ازداد الماء لا أنّ أحدهما استهلك في الآخر، إذ الذات واحدة فكيف يُعقل الاستهلاك؟

نعم، بلحاظ الوصف العنواني يتحقّق الاستهلاك، فوصف المغصوب قد استهلك والماء بوصف غصبيته لا تحقّق له الآن، وهذه قضية وجدانية وإلاّ يلزم عدم جواز التوضؤ من ماء البحر إذا مُزج به إناء صغير من الماء المغصوب، وهكذا الحال في المقام فأنّ البصاق الموجود في داخل الفم يجوز ابتلاعه بينما الموجود على الخيط لا يجوز ابتلاعه، فالذات واحدة إلا أنّ إحداهما متصفة بجواز الابتلاع والاُخرى بعدم ذلك، ومعه فإذا كان ما على الخيط من الرطوبة قليلاً جداً فسوف يتحقّق الاستهلاك بلحاظ الوصف وإن كان لا استهلاك بلحاظ الذات، ومعه فيجوز إدخال الخيط إلى الفم وإن كانت عليه رطوبة قليلة مستهلاكة. هذا ما دار بين الأعلام من الحوار.

والمناسب عدم ربط المسألة بذلك، وذلك بأن يقال: إنّ المنهي عنه عنوان الأكل والشرب، وما على الخيط من الرطوبة لا يصدق عليه العنوان المذكور ما دام قليلاً، سواءً صدق الاستهلاك دقةً أم لم يصدق، فإنكار السيد الحكيم ـ قدّس سرّه ـ للاستهلاك لا وجه له، كما أنّ إثبات السيد الخوئي ـ قدّس سرّه ـ لذلك لا وجه له أيضاً، فأنّ الرطوبة الثابتة على الخيط ما دامت قليلة فلا يصدق أنّ الشخص قد أكل أو شرب، فإذن نحن نوافق السيد الخوئي ونسلّم بما أفاده من جواز إدخال الخيط ثانيةً ما دامت الرطوبة قليلة، لكن لا من حيث مسألة الاستهلاك فأنّ هذا ليس فنياً بل لعدم صدق الأكل والشرب عرفاً على ذلك.

ومما يؤكد ما أشرنا إليه الروايات الدالة على جواز مصّ لسان الزوجة، كصحيحة أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله ـ عليه السلام ـ: الصائم يقبّل؟ قال: «نعم، ويعطيها لسانه تمصّه» [5] فأنّه بناءً على ما أفاده السيد الحكيم ـ قدّس سرّه ـ يلزم البطلان لوجود الرطوبة القليلة وهي بنظره ليست مستهلكة، وهكذا يلزم البطلان على رأي السيد الخوئي؛ لأنّه وإن كان يعتقد بفكرة الاستهلاك بلحاظ الوصف العنواني إلاّ أنّ ذلك خاص بما إذا كانت إحدى الرطوبتين أكثر من الاُخرى، أما مع فرض التساوي كما هو المتعارف في فم الزوجين أو لسانهما في شهر رمضان فلا استهلاك، والحال أنّ الرواية لم تحكم بالبطلان وما ذاك إلاّ لما أشرنا إليه من عدم صدق الأكل والشرب.

إن قلت: صحيح لا يصدق عنوان الأكل والشرب بعد فرض قلة الرطوبة على الخيط والمسواك، ولكن ورد في بعض الروايات التعبير بالطعام والشراب كما في صحيحة محمد بن مسلم أنّه قال: سمعت أبا جعفر ـ عليه السلام ـ يقول: «لا يضر الصائم ما صنع إذا اجتنب ثلاث خصال: الطعام والشراب، والنساء، والارتماس في الماء»[6] ، فأنّ عنوان الطعام والشراب صادق حتى مع فرض قلة الرطوبة.

________________________

[1] البقرة: 187.

[2] العروة الوثقى 2: 14.

[3] مستمسك العروة الوثقى 8: 235.

[4] مستند العروة الوثقى 8: 97.

[5] الوسائل 10: 102، أبواب ما يمسك عنه الصائم، ب 34، ح 2.

[6] الوسائل 10: 33، أبواب ما يمسك عنه الصائم، ب 1، ح 1.