جلسة 30

المفطرات

وفيه: إنّ مادة الأكل قد ذُكرت في الآية الكريمة حيث قالت: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) [1]، والانصراف إمّا أن يُدّعى بلحاظ مادة الأكل المذكورة في المنطوق، أو بلحاظ مادة الأكل المستفادة من المفهوم، وكلاهما لا مجال لدعوى الانصراف فيه.

أمّا الأوّل: فلأنّ مادة الأكل المذكورة في المنطوق يجزم بكون المراد منها خصوص المعتاد، بلا حاجة إلى دعوى الانصراف؛ لعدم احتمال أنّ الترخيص في الأكل شامل للتراب والطين وما شاكلهما، على أنّ الانصراف المدّعى لا معنى لادعائه في المنطوق بل لابدّ من ادعائه بلحاظ المفهوم، ولا يمكن أن يُدّعى الانصراف فيه باعتبار أنّه متفرع على المنطوق، وحيث إنّ المنطوق خاص بالمعتاد فيلزم اختصاص المفهوم بذلك من دون حاجة إلى التشبث بدعوى الانصراف، إذاً الانصراف لا مجال له لا بلحاظ المنطوق ولا بلحاظ المفهوم.

المانع الثاني: التمسّك بصحيحة محمّد بن مسلم المتقدّمة[2]، وقد ذكر صاحب (الجواهر) ـ قدّس سرّه ـ [3] إنّ الآية الكريمة وإن كانت مطلقة ويستفاد منها لزوم اجتناب مطلق الأكل سواءً كان المأكول معتاداً أم لا، إلاّ أنّ هذه الصحيحة تقيّد الآية الكريمة، حيث جعلت المدار على اجتناب الطعام وأنّه لا يضر إلاّ الطعام، ومن الواضح أنّ عنوان الطعام لا يصدق إلاّ على المعتاد، فالطين مثلاً لا يقال له طعام، فالصحيحة المذكورة بما أنّها قد جعلت المدار على اجتناب الطعام وهو لا يصدق إلاّ على المعتاد فتكون مقيّدة لإطلاق الآية الكريمة، هكذا ذكر قدّس سرّه.

وفيه: أنّ ذلك موقوف على تمامية الإطلاق في الآية الكريمة، وقد اتضح عدم تماميته، مضافاً إلى أنّ من المحتمل ـ ويكفينا إبراز الاحتمال الموجب للتردّد والإجمال ـ أن يكون المقصود من الطعام ليس اسم الذات وهو المطعوم أي الخبز مثلاً، بل المراد منه اسم المعنى المرادف للأكل، فأنّه قد جاء استعمال الطعام كذلك، أي بمعنى الأكل كما في قوله تعالى: (وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) [4] فإنّه ليس المقصود من الطعام المطعوم بل المصدر أي الأكل، وكما في قوله تعالى: (أَوْ كَفَارةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ) [5]  أي إطعام المساكين.

وهكذا الحال بالنسبة إلى الشراب، فإنّه ورد استعماله بمعنى الشرب كما في قوله تعالى: (هُوَ الَّذِيَ أَنَزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً لَكُمِْ منْهُ شَرَابٌ)[6] أي منه الشرب، وكقوله تعالى: (وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ) [7] أي سائغ شربه، وما دام يحتمل كون المراد نفس الأكل والشرب خصوصاً بقرينة تعبير الآية الكريمة بالأكل والشرب فلا يمكن الجزم بالتقييد وطرح الإطلاق في الآية الكريمة، هكذا ينبغي الجواب عن الصحيحة المذكورة.

وأجاب السيّد الخوئي ـ قدّس سرّه [8] بجواب آخر قد يكون مشتملاً على شيء من الخفاء في العبارة، وحاصله: أنّ الإمام ـ عليه السلام ـ حينما ذكر لفظ الطعام لا يقصد بذلك التأكيد على عنوان الطعام، وأنّ المدار على العنوان المذكور ليلزم الاختصاص بالمعتاد، فإنّه ـ عليه السلام ـ ليس في هذا الصدد أي ليس في صدد التأكيد على عنوان الطعام، بل في صدد بيان أنّ الأفعال الأخرى كالقيام والمشي وو....، ليست مفطّرة وإنّما المفطّر هو الطعام، فذكر عنوان الطعام هو في الواقع في مقابل بقية الأفعال، ولا يراد بذكره التأكيد على خصوصية الطعام ليختص بالمعتاد، هذا ما أفاده قدّس سرّه.

والتأمّل في ذلك واضح، فأنّه ـ عليه السلام ـ بصدد الحصر، فلو لم تكن للطعام خصوصية من هذه الناحية وكان الحصر إضافياً، أي بلحاظ سائر الأفعال لكان المناسب له ـ عليه السلام ـ التعبير بلفظ أجمع وأعم؛ لأنّ ذلك ممكن له، فالعدول عن التعبير بالأعم مع تيسّر ذلك له وفرض أنّه في مقام الحصر والبيان يساعد على إرادة الحصر بلحاظ كلتا الجهتين، فما ذكره ـ قدّس سرّه ـ مخالفٌ للظاهر.

المانع الثالث: التمسّك بالروايات الخاصة التي قد يستفاد منها كون المدار على الطعام المعتاد وهي ثلاث روايات:

الرواية الاُولى: صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر ـ عليه السلام ـ: في الصائم يكتحل؟ قال: «لا بأس به، ليس بطعام ولا شراب» [9].

ويمكن مناقشتها بأنّ اسم (ليس) ليس هو الكحل، أي أنه ـ عليه السلام ـ ليس مقصود بيان أن نفس الكحل ليس بطعام ليتم الاستشهاد بالصحيحة، بل مقصوده الاكتحال بما هو عملية وفعل، حيث سُئل عليه السلام وقيل يكتحل فيكون جوابه ـ عليه السلام ـ أنّ الاكتحال ليس بطعام، أي بأكل ولا بشراب، أي شرب.

الرواية الثانية: رواية أو صحيحة ابن أبي يعفور قال: سألت أبا عبد الله ـ عليه السلام ـ عن الكحل للصائم؟ فقال: «لا بأس به، أنّه ليس بطعام يؤكل» [10] ، والترديد بين كونها رواية أو صحيحة باعتبار الحسين بن أبي غُنْدَر، فأنّه لم يرد في حقه توثيق، ولكن روى عنه صفوان في هذه الرواية، وبناءً على تمامية كبرى وثاقة كلّ من روى عنه أحد الثلاث تثبت وثاقة الرجل وتصبح الرواية صحيحة، بينما بناءً على إنكار ذلك تبقى الرواية ضعيفة السند من جهة الحسين بن أبي غُنْدر، هذا من حيث السند.

وأمّا من حيث الدلالة فربّما يُفهم منها كون المدار على عنوان الطعام الذي يختص بالمعتاد، حيث سُئل ـ عليه السلام ـ عن الكحل وليس عن الاكتحال، وأجاب بأنّه ليس بطعام يؤكّل، ولو لم يكن قيد يؤكل مذكوراً لأمكن حمل الكحل على الفعل ـ الاكتحال ـ والطعام على الفعل ـ الأكل ـ ولكن القيد المذكور يمنع من ذلك، ولكن بالرغم من هذا يبقى المجال مفتوحاً لاحتمال إرادة ذلك وإلاّ يلزم أن يستفاد من الرواية المذكورة أنّ الاكتحال لو كان بطعام يؤكل ـ كما إذا اكتحل بالزيت أو العسل لكان مفطّراً ـ وهذا شيء بعيد، فلذلك يبقى مجال للاحتمال المذكور كما أشرنا.

الرواية الثالثة: وهي المهمة في المقام، وهي رواية أو صحيحة مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ عن آبائه ـ عليهم السلام ـ: أن علياً ـ عليه السلام ـ سُئل عن الذباب يدخل حلق الصائم؟ قال: «ليس عليه قضاء؛ لأنّه ليس بطعام» [11] ، حيث نفت عنوان الطعام عن الذباب، وهذا يدل على كون المدار في المفطّرية على كون الشيء معتاداً.

________________________

[1] البقرة: 187.

[2] الوسائل 10: أبواب ما يمسك عنه الصائم، ب 1، ح1.

[3] جواهر الكلام 16: 218.

[4] الحاقة: 34.

[5] المائدة: 95.

[6] النحل: 10.

[7] فاطر: 12.

[8] مستند العروة الوثقى 1: 94.

[9] الوسائل 10: 74، أبواب ما يمسك عنه الصائم، ب 25، ح1.

[10] الوسائل 10: 75 ـ 76، أبواب ما يمسك عنه الصائم، ب 25، ح6.

[11] الوسائل 10: 109، أبواب ما يمسك عنه الصائم، ب 39، ح2.