37/01/17


تحمیل
الموضـوع:- مسألة ( 17 ) - المكاسب المحرمة -كتاب التجارة.
روايات المسألة:-
ذكر صاحب الوسائل مجموعة كبيرة من الروايات لعلّها تتجاوز الثلاثين[1]، إلّا أن سبعاً منها أو أكثر قد يصلح التمسّك به للاستدلال على حرمة الغناء، ونحن نتعرّض إلى هذه الروايات ونلاحظ هل فيها دلالة على الحرمة أو لا وهي:-
الرواية الأولى:- وهي رواية عبد الأعلى:- ( سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الغناء وقلت:- أنهم يزعمون أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله رخّص في أن يقال " جئناكم جئناكم حيّونا حيّونا نحييكم "، فقال:- كذبوا إنّ الله عزّ وجلّ يقول "وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين لو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه من لدنا إن كنّا فاعلين بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهقٌ ولكم الويل مما تصفون[2]" ثم قال:- ويل لفلان مما يصف، رجلٌ لم يحضر المجلس )[3].
وقوله عليه السلام ( ويلٌ لفلان ممّا يصف ) لعلّه إشارة إلى ذلك الشخص الذي نسب إلى الرسول الترخيص فيقول عليه السلام ويلٌ له ولكن لم يذكر اسمه تأدّباً.
والكلام تارةً يقع في دلالة الرواية وأخرى في سندها:-
أمّا بالنسبة إلى دلالتها:- فالشيخ قَبِلَ دلالتها، والاشكال الذي كان يسجلّه على الآيات لم يسجّله عليها - فإنّ الاشكال الذي سجله على الآيات هو أنّه قال إنّ الآيات الكريمة تدلّ على حرمة الغناء بمعنى القول والمضمون فإنّ الآية الكريمة الأولى مثلاً قالت ﴿ واجتنبوا قول الزور ﴾ والزور فسّرته الروايات بالغناء يعني اجتنبوا قول الغناء فأقصى ما يثبت بالآية بضم الرواية هو أنّ الغناء المحرّم هو من مقولة الكلام واللفظ يعني أنَّ الكلام واللفظ إذا كان مضمونه زوراً وباطلاً وليس حقاً فهو حرام، وهذا لا إشكال في حرمته لأنّه كذبٌ ولكن هذا ليس محلّ كلامنا بل محلّ كلامنا في الغناء بمعنى الكيفيّة بقطع النظر عن المضمون وأنّه صادقٌ أو كاذبٌ، فالكيفية نريد أن نثبت حرمتها والآية الكريمة بضمّ الرواية لا تثبت حرمة الكيفيّة فتكون أجنبية عمّا نريد، فهي تثبت حرمة شيء واضح وهي حرمة الكلام الذي مضمونه مضمونٌ باطل وزور وكذب . هذه مناقشة الشيخ كانت لكل الآيات ولكن مع اختلاف المفردات -.
والوجه في ذلك:- هو أنّه ذكر أنّ المضمون الوارد في الرواية وهو ( جئناكم جئناكم حيّون احيّونا ) ليس مضموناً باطلاً وزوراً وكذباً، فإّنّ الرواية حينما رفضت نسبة الرخصة إلى النبي صلى الله عليه وآله لابد وأن يكون سبب الإباء عن نسبة الترخيص إلى النبي صلى الله عليه وآله هو بطلان الكيفيّة، فلابد وأنّ الكيفيّة كانت بنحوٍ لهويٍّ أو غنائيٍّ[4] فدلّت هذه الراية على حرمة الكيفيّة لأجل أنها قالت:- ( كذبوا إنّ الله عزّ وجلّ يقول " وما خلقنا السماء الأرض .... " ) ،فالتوبيخ على هذه النسبة يدلّ على أنّ هذه النسبة باطلة، ومنشأ الإباء ليس بطلان المضمون بل بطلان الكيفيّة، وهو ما نريد.
إذن هذه الرواية جيّدة في إثبات ما نريد وهو حرمة الغناء بمعنى الكيفيّة الغنائية المتعارفة عند أهل الفسق والفجور.
وفيه:- نسلّم أنّ المضمون ليس كذباً وباطلاً ولكنّه عبثيّ وفضولٌ من الكلام ولغوٌ لا يناسب المؤمن، فالمؤمن لا يتكلّم بمثل هذا الكلام الذي ليس فيه مضمونٌ صحيحٌ وليس فيه فائدة بل هو مجرد لغوٌ، فالإباء عن نسبة ذلك إلى النبي صلى الله عليه وآله لعلّه من هذه ناحية، خصوصاً إلى لاحظنا أنَّ الرخصة قد نسبت إلى النبي صلى الله عليه وآله، فهو قد رخّص في صدور هذا الكلام العبثي وهذا نحو دعمٍ للّغو والكلام العبثي وذلك لا يناسب مقام النبوّة.
فمثلاً توجد بعض الأشياء المباحة كالرجل يمسك بيد زوجته ويسيرا في الشارع وهما محتشمان فلعلّه نحن لا نريد أن يصدر منّا كلامٌ بنحو الفتوى بالترخيص في هذه المسألة، فصحيحٌ أنَّ هذا شيءٌ مباحٌ ولكن أن نذكره في الرسالة العملية ونقول ( يجوز أن يضع الرجل يده بيد زوجته ... ) فهذاّ هذا ليس بصحيح فإنّه نحو دعمٍ لظاهرةٍ ليست محبّذة ولا يناسب صدورها.
وهنا أيضاً نسبة ذلك إلى النبي صلى الله عليه وآله ليس بصحيح لأنّ هذه الظاهرة - وهي ظاهرة الكلام اللغوي - ليست مناسبة، فنسبة الترخيص إلى النبي صلى الله عليه وآله نحو دعمٍ.
ونحن نبرز هذا كلّه على مستوى الاحتمال، وبالتالي لعلّ الإمام عليه السلام قال ( كذبوا ) لأجل هذه النكتة وليس لأجل أنّ الكيفيّة كانت باطلة، فأصبحت الرواية ذات احتمالين، فهي مجملة فلا يصحّ التمسّك بها لإثبات حرمة الغناء.
خصوصاً وأنّ الرواية لم يفترض فيها أنّ الكيفية كانت كيفيّة لهوية - أي غنائية - فمن أين تحمل أنت هذا المعنى على الرواية وهو أن الكيفية كانت باطلة ؟! وكيف فهم الإمام أنّ الكيفية كانت باطلة ؟! فإن الرواية قالت هكذا:- ( إنهم يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله رخّص في أن يقال جئناكم جئناكم حيّونا حيّونا نحييكم، فقال:- كذبوا )، فلم يفترض السائل أنّ الكيفيّة كانت كيفيّة باطلة، بخلاف ما نحن أشرنا إليه فإنّ عبثيّة المضمون شيءٌ مفروض، فلو كان المقصود أنّ الكيفية كانت لهويّة لكان من المناسب أن يشير الراوي إلى ذلك، وحينئذٍ تصير الدلالة لا بأس بها، أمّا إذا لم يشر إلى ذلك فهذا معناه أنّ الكيفيّة لم تكن كيفيّة لهوية، ولا أقل تبقى الرواية مردّدة ما بين الاحتمالين ومجملة وهذا يكفينا لردّها.
إذن دلالة الرواية محلّ إشكال من هذه الناحية كما هو واضح.
وأمّا بالنسبة إلى سندها:- فقد راها الشيخ الكليني عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن ابن فضّال عن يونس بن يعقوب عن عبد الأعلى.
وجميع رجال السند لا إشكال فيهم إلا من ناحية عبد الأعلى، فإن محمد بن يحي هو العطار الأشعري القمّي وهو الثقة الجليل، وأمّا أحمد بن محمد فإذا روى عنه محمد بن يحيى فسوف يصير مردّداً بين أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري القمي وبين ابن خالد البرقي وكلاهما ثقة، ولكن في خصوص مثل هكذا موارد يقال هو الأشعري القمّي، وأمّا ابن فضّال فهو ثقة[5]، أمّا يونس بن يعقوب فهو من ثقاة أصحابنا، أمّا عبد الأعلى ففيه مشكلة حيث لم يصدر في حقّه توثيقٌ واضح فلعلّه لأجل هذا قال الشيخ الأعظم في المكاسب:- ( رواية عبد الأعلى وفيها ابن فضّال )، فكأنه يريد أن يقول لا تتوقّف من ناحية عبد الأعلى.
وعلى أيّ حال عبد الأعلى اسمٌ لأشخاص متعدّدين، بيد أنّ المعروف منهم اثنان، وهما عبد الأعلى بن أعين العجلي، وعبد الأعلى مولى آل سام.
أما عبد الأعلى بن أعين العجلي فربما يمكن توثيقه باعتبار أنَّ الشيخ المفيد قد ذكره في الرسالة العدديّة حيث ذكر هناك عنواناً وقال:- ( من فقهاء أصحاب الصادقين عليهما السلام والأعلام والرؤساء المأخوذ عنهم الحلال والحرام والفتيا والأحكام والذين لا يطعن عليهم ولا طريق إلى ذمّ واحدٍ منهم ) وذكر جملة من هؤلاء الاشخاص وأحدهم عبد الأعلى العجلي.
هذا مضافاً إلى وروده في أسناد تفسير القمّي بناءً عل كفاية ذلك في إثبات الوثاقة.
وأمّا عبد الأعلى مولى آل سام الذي ورد اسمه في الرسائل حيث كانت له رواية نصّها:- ( عثرت فانقطع ظفري فجعلت عليه مرارة، أمسح عليه ..... ؟ ) فهذا لا يوجد توثيق في حقّه.
يبقى كيف نثبت أنّ عبد الأعلى هذا هو العجلي إذ لعله الثاني ؟
والجواب:- يمكن أن نتمسّك لذلك بهذه القضية الكبروية التي يمكن أن يستفاد منها في مجالات متعدّدة، وهي أنّه لو رجعنا إلى الروايات وجدنا كثيراً ما يروي يونس بن يعقوب عن عبد الأعلى بن أعين العجلي، فهو بهذا الاسم وبهذا اللقب يروي عنه يونس بن يعقوب، ولكن يونس لا يروي عن عبد الأعلى مولى آل سام، وهذا قد يُجعل قرينةً على كون عبد الأعلى هو العجلي، فإنّ حصل الاطمئنان بهذا فلا بأس، وأمّا إذا لم يحصل الاطمئنان فالرواية تكون ساقطة عن الاعتبار.
إذن السند يمكن تصحيحه واعتباره من هذه الناحية التي أشرنا إليها.