37/06/09


تحمیل

الموضوع:- الولاية للجائر – مسألة ( 36 ) – المكاسب المحرمة.

وجه الاحتمالين الآخرين:-

وأما بالنسبة إلى الوجه الآخر[1] - أعني مراعاة أقل الضررين - فقد يوجّه:- بأنّ ذلك هو ما تقتضيه القواعد العقلائية والذوق العقلائي والسيرة العقلائية ، فإن العقلاء عند دوران الأمر بين ضررين أحدهما أكبر من الآخر يرجحون بنحو الإلزام ما كان ضرره أقل ، وهنا أيضاً يلزم ذلك ، وحيث إنّ الشرع في هذا المجال ليست له طريقة أخرى ولم ينهَ عن هذه الطريقة العقلائية فيدلّ ذلك على إمضائه لهذه الطريقة العقلائية ، فيثبت بذلك المطلوب.

وفيه:- إنّا نرفض الصغرى - أعني أنّ الطريقة العقلائية هي مراعاة أقل الضررين - فإنّ مراعاة أقل الضررين وإن كان شيئاً عقلائياً ولكنه في مجاله الخاص وليس في مجالنا ، إنّ ذلك شيءٌ مقبولٌ فيما إذا فرض أن الشخص الواحد دار أمره بلحاظ نفسه بين ضررين أحدهما أكبر والآخر أصغر ، يعني بتعبير آخر أني أصبت بمرضٍ وشخّص الأطباء بأنّه لأجل الشفاء منه يدور الأمر بين قطع هذا العضو أو ذاك فالطريقة العقلائية هنا هي أنه يلزم اختيار أقل الضررين إذا كان كلا الضررين عائد إلى نفسي ، وهي مقبولة أيضاً في موردٍ آخر وهو إذا كان كلا الضررين راجعين إلى الغير وأنا كنت خارج القضيّة ، كما لو فرض أنه حصل حادث سماوي أو أرضي وتوقّف العلاج على أحد شيئين إمّا أن أكسر يد هذا الشخص أو أكسر رأس ذاك حتى أرفع هذا الضرر ، فدوري هو دور المعالج والمساعد فقط وكان تخليص أحدهما يستلزم ضرراً كثيراً وكان تخليص الآخر يستلزم ضرراً قليلاً ، فهنا القضية العقلائية تقضي بانتخاب أقلّ الضررين.

وهذا بخلافه في مقامنا - أعني لو دار الأمر بين ضرري أنا الوالي وضرر الغير - فإني لو لم أحبس ذلك الشخص فأنا الوالي سوف يحبسني السلطان وسوف أتضرر فالأمر دائر بين ضرري أنا وبني ضرر الغير ، وهنا هل يقول العقلاء بجواز إدخالي الضرر على الغير مادام ضرره أقل من ضرري ؟ وهل العقلاء يرجّحون دفع الضرر عن نفسي باعتبار أنّه أكثر من ضرر ذاك ؟ إنّ هذا أوّل الكلام ، ومن أين تثبت هذه السيرة العقلائية ، بل عليّ أنا الوالي أن تحمل الضرر ، فلم تثبت قاعدة عقلائية وسيرة عقلائية من هذا القبيل في مثل مقامنا ، ولا أقل من الشك في انعقاد السيرة المذكورة.

إذن لا يمكن التمسّك بهذا البيان وبهذا التوجيه لترجيح أقلّ الضررين.

نعم نستثني من ذلك بعض الحالات كما سوف نشير إلى ذلك بعد قليل.

ومن خلال هذا كلّه اتضح أن الأرجح من الاحتمالات الثلاثة هو الاحتمال الثالث.

وأما الاحتمال الثالث - أعني حصر دليل نفي الإكراه بحقوق الله وعدم تعميمه لحقوق الناس -:- فقد اتضح بعد بطلان الاحتمالين السابقين أنه هو الأوجه ، فحديث نفي الاكراه لا يمكن تطبيقه في حقوق الناس وحينئذٍ يكون إدخال الضرر على الناس يحتاج على مبرّر فإنه فعلٌ حرامٌ وحديث نفي الإكراه كما قال هو حديث امتناني ولا معنى لأن يرفع الشرع عنّي الضرر أنا الوالي بإدخاله على الآخر فإنّ هذا خلاف الامتنان على الأمة ، فالحديث لا يشمل حقوق الناس ويختصّ بحقوق الله عزّ وجلّ فقط ، ومعه يكون إدخال الضرر على الغير يحتاج إلى دليل يجوّز ذلك ولا دليل ، فيحرم إذن إدخال الضرر على الغير.

نعم نستثني من ذلك حالة - وهذا ما أشرنا إليه قبل قليل - وهو فيما إذا فرض أنّ الأمر دار بين أن أُقتَل أنا الوالي وبين أن يحبس ذاك الآخر ، فهنا يمكن أن يقال يجوز لي أحبس الآخر وذلك باعتبار أنّ المورد يدخل تحت باب التزاحم؛ إذ تعريض نفسي إلى القتل حرام وحبس الآخرين حرام أيضاً فتحصل مزاحمة بين الحرامين ، وفي مثل ذلك يرجّح ما كان ملاكه أهم جزماً أو محتمل الأهمية ، وإذا لم نحتمل أهمية الحفاظ على النفس من القتل فلا أقل من التخيير ، فيجوز لي حينئذٍ أن أدفع ضرر القتل عن نفسي وذلك بحبس الآخرين ، وهذا يجوز لا لحديث نفي الإكراه وإنما لكون المورد من باب التزاحم.

إن قلت:- لـِمَ لم تطبّق قانون التزاحم في حالة الدوران بين الحبسين - يعني بين أن أحبس أنا الوالي وبين أن يحبس ذلك الآخر - وطبقته في الوران بين أن أقتل أنا الوالي وبين أن يحبس ذاك ؟

قلت:- إنّه لو دار الأمر بين الحبسين لا يمكن أن نطبّق قانون التزاحم باعتبار أنّ حبس الآخر حرام ، وأمّا أن أتعرض أنا الوالي للحبس فهذا لم يثبت تحريمه ، فالأمر لا يدور بين حرامين ، بل يدور بين حرامٍ وشيءٍ مباحٍ ، ولا إشكال في أن المحرّم مقدّمٌ ، فيلزم أن أحافظ على الآخرين من الحبس ، فقانون التزاحم لا يمكن تطبيقه هنا ، وهذه نكتة يجدر الالتفات إليها وهي أنه إنما يتحقق التزاحم بين التكليفين الإلزاميين ، وأمّا إذا كان أحدهما إلزامي والآخر ليس بإلزامي فهنا إمّا أن نقول بأنه لا ينطبق قانون التزاحم أصلاً ، أو نقول هو ينطبق ولكن المقدّم هو الإلزامي ، وهذا واضحٌ ، ونحن نريد أن نجوّز حبس الآخر من خلال فكرة التزاحم فيلزم لأجل أن نجوّز حبس الآخر أن نفترض أنّ الطرف الثاني هو تكليفٌ الزاميّ أيضاً كالقتل فيدور الأمر بين أن أقتل أنا الوالي وبين حبس الآخر فهنا يمكن تطبيق قانون التزاحم ولا بأس آنذاك بحبس الآخر.

إذن اتضحت النتيجة النهائية التي انتهينا إليها من خلال هذا العرض وهي أنّ لوازم الولاية مثل حبس الآخرين أو ضربهم أو ما شاكل ذلك لا تجوز إلا في حالة واحدة وهي فيما إذا دخل المورد تحت باب التزاحم بأن دار الأمر بين أن يحبس ذاك أو أقتل انا الولي - يعني دار الأمر بين تكليفين الزاميين - فيمكن حينئذٍ أن أحبس الآخرين ، أما إذا فرض أنّ الدوران لم يكن بين تكليفين الزاميين فحينئذٍ لا يجوز حبس الآخرين لأنّ المجوّز للحبس هو إمّا إطلاق حديث نفي الإكراه كما صنع الشيخ(قده) وقد عرفت أنه لا يمكن تطبيقه لأنّه امتناني ، أو نفترض أنا نتمسّك بقاعدة أقل الضررين وأنّ العقلاء يرجّحون أقلّ الضررين وقد قلنا أنّ هذه القاعدة تامّة في المساحة التي أشرنا إليها ولا تشمل مثل مقامنا.

إذن المناسب هو التفصيل بين ما إذا فرض أنّ الأمر دار بين حبسين أو ما هو شبيه بذلك ففي مثل هذه الحالة لا يمكن تطبيق حديث نفي الإكراه بل لابد وأن يتحمّل الوالي السجن وما شاكله ، وأمّا إذا دار الأمر بين حبسٍ وقتلٍ فهنا يجوز للوالي أن يحافظ على نفسه من خلال حبس الآخرين لدخول المورد آنذاك تحت باب التزاحم.

ونشير إلى قضيّة فنية:- وهي أنه يجوز تطبيق قانون التزاحم فيما إذا كان يوجد إطلاق لدليل كلا الحكمين - يعني دليل حرمة الحبس فيه إطلاق ودليل حرمة قتل النفس فيه إطلاق أيضاً بأن كانا معاً لفظيين وكانا مطلقين - فإذا كان الدليلان مطلقين ففي مثل هذه الحالة نطبّق قانون التزاحم فيقدّم الأهم جزماً أو محتمل الأهمية ، وإذا لم يكن هناك أهميّة جزميّة ولا احتمالية فالحكم هو التخيير ، وأما إذا فرض أنهما كان معاً غير مطلقين كما لو كان مستند هذا لبّياً وكان مستند ذاك لبّياً أيضاً - من إجماعٍ مثلاً - ففي مثل هذه الحالة الدليل اللبّي لا إطلاق فيه لمورد الاجتماع مع الآخر والمزاحمة وفي مثل هذه الحالة نرجع إلى مقتضى الأصل العملي - لأنه لا يوجد إطلاقٌ لمورد المزاحمة - من البراءة عن هذا والبراءة عن ذاك وتكون النتيجة هي التخيير.

وأمّا إذا فرض أنه كان يوجد لأحدهما إطلاق والآخر لا إطلاق فيه فيؤخذ بما كان يشتمل على الإطلاق كما هو واضح لأنّ ذاك قاصرٌ فيبقى الذي فيه إطلاقٌ من دون معارضٍ فيؤخذ به.


[1] والاحتمال الآخر هو أنّ حديث نفي الإكراه لا يشمل حقوق الناس وإنما يختصّ بحقوق الله عزّ وجلّ.