32/12/25


تحمیل
  (بحث يوم الثلاثاء 25 ذح 1432 ه 38)
 كان الكلام في رواية أحمد بن الفضل الكناسي الواردة في القسم الرابع التي نصّها :
 " قال : قال لي أبو عبد الله (عليه السلام) : أيّ شيء بلغني عنكم ؟ قلت : ما هو ؟ قال : بلغني أنكم أقعدتم قاضياً بالكناسة ، قال : قلت : نعم جُعلت فداك رجل يقال له عروة القتّات وهو رجل له حظّ من عقل نجتمع عنده فنتكلم ونتساءل ثم يردّ ذلك إليكم ، قال : لا بأس " [1] .
 وتقريب الاستدلال بالرواية باعتبار ظهورها في أن عروة القتّات منصوب من قبل الناس قاضياً فتكون الرواية مشيرة إلى قضاء التحكيم ، وقوله (عليه السلام) : (لا بأس) يدلّ على مشروعية هذا النوع من القضاء ونفوذ الحكم فيه .
 واعتُرض على هذا الاستدلال بأن قول الراوي في ذيل الرواية : (نجتمع عنده فنتكلم ونتساءل ثم يردّ ذلك إليكم) يفسّر القضاء الوارد في صدر الرواية وأن المراد به التباحث في الأمور الفقهية والعلمية فتكون الرواية حينئذ أجنبية عن محلّ الكلام إذ لا إشكال في أنه يجوز لجماعةٍ أن ينصبوا شخصاً يتباحثون معه ويتذاكرون أمور دينهم لاسيما وأنه يردّ أجوبته إلى الأئمة (عليهم السلام) .
 هكذا ذُكر .. ولكنه غير وارد لأنه يُحتمل في المقابل أن المقصود بذيل الرواية [2] ليس ما ادُّعي من كونه تفسيراً للقضاء بل المقصود بيان حالهم مع هذا الشخص المنصوب من قبلهم قاضياً فالسائل بعد أن أجاب الإمام (عليه السلام) بأن الأمر كما بلغه من أنهم نصبوا رجلاً منهم قاضياً شرع في بيان حال هذا الشخص وكونه رجلاً له حظّ من عقل يجتمعون عنده ويتكلمون ويتساءلون فيجيبهم بما يعرف عن الأئمة (عليه السلام) فالرواية ليس لها ظهور في تفسير القضاء كما زًعم بل هي ظاهرة في القضاء بمعنى فصل الخصومة وذيلُها يُبيّن حالهم مع هذا الشخص الذي نصبوه قاضياً .
 نعم .. ما يرد على هذه الرواية أمر آخر وهو أنه ليس فيها ما يدلّ على عدم توفّر الشروط المعتبرة في القاضي المنصوب في ذلك الشخص ليقال بدلالتها حينئذ على قاضي التحكيم أي أننا لا نستطيع أن نستفيد من الرواية أن ذلك الشخص لم يكن واجداً للشرائط المعتبرة في القاضي المنصوب حتى ينفتح المجال للقول بدلالتها على قاضي التحكيم بل المستفاد منها أن هذه الشرائط متوفرة فيه ومنها الذكورة لقول السائل في جوابه للإمام (عليه السلام) : (رجل) ، وكذا الإيمان والعدالة بمعنى ظهور الصلاح وعدم الفسق - لاستبعاد أن يجتمع الشيعة عند شخص وينصبونه قاضياً بينهم ويردّ أجوبته عن مسائلهم إلى الأئمة (عليهم السلام) ثم لا يكون مثلهم شيعياً أو غير ظاهر الصلاح ، ومنها أيضاً العلم بالروايات والأخبار لأنه مقتضى كونهم يجتمعون عنده ويتذاكرون ويتساءلون لديه وكونه يصدر في أجوبته لهم عن منهل الأئمة (عليهم السلام) ، وهذه الشرائط متى ما توفّرت في شخص فيكون منصوباً من قبل الأئمة (عليهم السلام) بالنصب العام ، وقول الإمام (عليه السلام) : (لا بأس) إشارة إلى جواز التحاكم إلى شخص جامع لتلك الصفات لكونه حينئذ منصوباً من قبلهم بالنصب العام فتكون الرواية واردة في القاضي المنصوب لا قاضي التحكيم .
 هذا مضافاً إلى عدم تمامية سند هذه الرواية باعتبار أن كلاًّ من أحمد بن منصور وأحمد بن الفضل الكناسي لم يوثّق بل هما من المجاهيل .
 القسم الخامس :

ما دلّ على التراضي بعدلين واختلافهما في الحكم ، وهما روايتان :
 الأولى : معتبرة داوود بن الحصين :
 " في رجلين اتفقا على عدلين جعلاهما بينهما في حكم وقع بينهما فيه خلاف فرضيا بالعدلين فاختلف العدلان بينهما ، على قول أيّهما يمضي الحكم ؟ قال : يُنظَر إلى أفقههما وأعلمهما بأحاديثنا وأورعهما فينفذ حكمه ولا يلتفت إلى الاخر " [3] .
 ولهذه الرواية طريقان أحدهما عن الشيخ الصدوق (قده) بإسناده عن داوود بن الحصين عن أبي عبد الله (عليه السلام) وهذا السند صحيح لتمامية طريق الصدوق (قده) إلى داوود بن الحصين كما في المشيخة ، والآخر عن الشيخ الطوسي (قده) بإسناده عن محمد بن علي بن محبوب عن الحسن بن موسى الخشّاب عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن داوود بن الحصين عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، وهذا السند ضعيف لأن طريق الشيخ (قده) يمرّ بالحسن بن موسى الخشّاب وهو ممّن لم تثبت وثاقته فالرواية معتبرة بالطريق الأول .
 وتقريب الاستدلال بهذه الرواية من جهة ظهور قوله : (في رجلين اتّفقا على عدلين جعلاهما بينهما في حكم وقع بينهما فيه خلاف فرضيا بالعدلين) في قاضي التحكيم لفرض الاتفاق من المتخاصمين على الحاكم والتراضي به والرواية تدلّ على إمضاء حكمه ومشروعية قضائه فإن جواب الإمام (عليه السلام) بقوله : (فينفذ حكمه) وإن كان وارداً في حالة التعارض بين الحاكمين اللذين يرضى بهما كلا الطرفين إلا أنه حيث حكم (عليه السلام) بتقديم حكم من هو أعدل وأفقه وأورع دلّ على المفروغية عن مشروعية الاتفاق على حاكم والتراضي به غاية الأمر أنه في خصوص المورد لم يتّفق المتخاصمان على حاكم واحد بل على حاكمين ولذا لمّا اختلفا في حكمها احتاج السائل أن يبيّن له الإمام (عليه السلام) أن الحكم يمضي على قول أيّ منهما فظاهر الرواية إذاً المفروغية عن مشروعية قضاء الحاكم مطلقاً - أي سواء كان منصوباً أو لم يكن وسواء كان واجداً للشرائط المعتبرة في القاضي المنصوب أو لم يكن ولا نعني بقاضي التحكيم إلا هذا .
 والحاصل أن قاضي التحكيم لا بدّ فيه من توفر الإطلاق من جهتي النصب والشرائط المعتبرة في القاضي المنصوب فإذا ثبت مثل هذا الإطلاق في مشروعية حكم القاضي ونفوذ حكمه يثبت بها مشروعية قضاء التحكيم ونفوذ الحكم فيه .
 هذا .. ولكن لوحظ على هذا الاستدلال بعدم تمامية الإطلاق لأمرين :
 الأول : ظهور كون الرواية مسوقة سؤالاً وجواباً لبيان حكم التعارض بين الحاكمين فإن السؤال كان منصبّاً على هذه الجهة لا على بيان مشروعية قضاء كلّ من الحاكمين حتى يصحّ التمسّك بإطلاق الرواية لإثبات مشروعية قضاء كلّ منهما ونفوذ حكمه وإن لم يكن منصوباً وواجداً لسائر الشرائط المعتبرة في القاضي المنصوب ولذا لا يصحّ القول بأنها فارغة عن مشروعية قضاء كلّ من الحاكمين .
 وإن أبيت فلا أقلّ من أن هذه الرواية كما يُمكن تفسيرها بقاضي التحكيم يُمكن تفسيرها أيضاً بالقاضي المنصوب إذ لا مشكلة في افتراض أن كلاًّ من الحاكمين كان واجداً للشرائط المعتبرة في القاضي المنصوب ، والتعارضُ بين الحاكمين كما يُمكن فرضه في قاضي التحكيم يُمكن فرضه في القاضي المنصوب أيضاً .. وعلى هذا فتكون الرواية مجملة من هذه الجهة فلا يصحّ الاستدلال بها على المطلوب أعني مشروعية قضاء التحكيم .
 وتجدر الإشارة إلى أن التراضي وحده لا يُشكّل قرينة على النظر إلى قاضي التحكيم إذ لا مانع من فرضه بالنسبة إلى القاضي المنصوب أيضاً .
 الأمر الثاني : مناقضة قوله (عليه السلام) : (يُنظَر إلى أفقههما وأعلمهما بأحاديثنا وأورعهما) له [4] لأن الظاهر من هذه العبارة أن كلاًّ منهما واجد للصفات المعتبرة في القاضي المنصوب حيث إن كلاًّ منهما فقيه وعالم وورع وهي من الصفات المعتبرة في القاضي المنصوب .
 وعلى ذلك فيشكل التمسّك بالإطلاق فلا يمكن الاعتماد على هذه الرواية لإثبات مشروعية قضاء التحكيم .
 الرواية الثانية : رواية موسى بن أكيل :
 " قال : سُئل عن رجل يكون بينه وبين أخ منازعة في حقّ فيتّفقان على رجلين يكونان بينهما فحكما فاختلفا في ما حكما قال : وكيف يختلفان ؟ قلت : حَكَم كل واحد منهما للذي اختاره الخصمان فقال : يُنظَر إلى أعدلهما وأفقههما في دين الله عزّ وجل فيمضي حكمه " [5] .
 وهذه الرواية أوردها الشيخ (قده) في التهذيب بإسناده عن محمد بن علي بن محبوب عن محمد بن الحسين عن ذبيان بن حكيم الأودي عن موسى بن أكيل النميري عن أبي عبد الله (عليه السلام) والسند ضعيف بذبيان بن حكيم فإنه لم يوثّق .
 نعم .. يظهر من النجاشي في ترجمة ابن أخيه وهو أحمد بن يحيى بن حكيم أن ذبيان من المعاريف المشهورين على صعيد الرواة حيث قال في ترجمة أحمد : (أبو جعفر ابن أخي ذبيان) [6] ، ولكن الكلام في كفاية هذا القدر في إثبات الوثاقة والظاهر عدم الكفاية إلا إذا بُني على ما التزم به بعضٌ من وثاقة المعاريف والمشهورين ما لم يرد فيهم قدح ، وهو ضعيف .
 والكلام في هذه الرواية من حيث الاستدلال وما لوحظ عليه من الأمرين نفسه في سابقتها فليُلاحظ .
 هذه هي عمدة الروايات في المقام وتبيّن مما سبق عدم تمامية شيء منها بنحوٍ يمكن الاعتماد عليه لإثبات مشروعية قضاء التحكيم .
 نعم .. تبقى عندنا رواية أجّلنا الكلام عليها إلى هذا المحلّ وهي رواية الحلبي الواردة في القسم الثاني وقد تقدّمت الإشارة إلى تماميتها سنداَ .
 وأما من حيث دلالتها فلا ينبغي التأمل والتشكيك في أنها ظاهرة في جواز التحاكم إلى رجل من أهل الاعتقاد بالولاية مع افتراض تراضي الطرفين به وتقدّم أن هذا يدلّ بالملازمة العرفية الواضحة على نفوذ حكمه فيثبت المطلوب وهو مشروعية قضاء التحكيم ونفوذ الحكم فيه .
 ولكن ثمة تساؤل هاهنا وحاصله أنه ما الذي دعا المتكلّم إلى أن يطرح ما طرحه على الإمام (عليه السلام) من قوله : (ربما كان بين الرجلين من أصحابنا المنازعة في الشيء فيتراضيان برجل منّا) ليقول له الإمام (عليه السلام) : (ليس هو ذلك إنما هو الذي يجبر الناس على حكمه بالسيف والسوط) ، وبعبارة أخرى ما الشبهة التي علقت في ذهن المتكلّم حتى دعاه إلى ذكر ما ذكره للإمام (عليه السلام) ممّا يتضمّن السؤال عن مشروعية هذا النوع من القضاء ؟
 ثمة احتمالان في المقام :
 الأول : أن يكون من جهة ارتكاز الحكم بحرمة التحاكم إلى الطاغوت وهو أمر معروف وشائع فاستدعى من السائل أن يشكّ في أنه هل ينطبق على مثل هذا الترافع أو لا .. فالشكّ في المشروعية ناشئ من احتمال مصداقية المورد للتحاكم إلى الطاغوت المرتكز حرمته في الأذهان .
 الثاني : أن يكون من جهة احتمال التلازم بين نفوذ الحكم ونصب الحاكم من قبل الأئمة (عليهم السلام) فاستدعى من السائل أن يشكّ في أن الحاكم الذي يتراضى به المتخاصمان ولم يكن منصوباً من قبل الأئمة (عليهم السلام) هل يكون نافذ الحكم أو لا .. فالشك في نفوذ الحكم في المورد ناشئ من احتمال اعتبار النصب في كل قضاء .
 والآثار تختلف باختلاف هذين الأمرين وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى .


[1] اختيار معرفة الرجال للشيخ الطوسي مج2 ص669 ، والوسائل الباب الحادي عشر الحديث الواحد والثلاثون مج27 ص147.
[2] أعني قوله : (نجتمع عنده فنتكلم ونتساءل ثم يردّ ذلك إليكم) .
[3] الفقيه مج3 ص8 ، والتهذيب مج6 ص301 ، والوسائل الباب التاسع الحديث العشرون مج27 ص113 .
[4] أي للإطلاق .
[5] التهذيب مج6 ص301 ، والوسائل الباب التاسع الحديث الخامس والأربعون مج27 ص123 .
[6] رجال النجاشي ص81 .