37/11/26


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

37/11/26

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- مسألة ( 20 ) حرمة السحر - المكاسب المحرمة.

هذا والأجدر التمسّك في توجيه حل السحر بالسحر بالوجوه التالية:-

الوجه الأوّل:- دعوى الانصراف وذلك بأن يقال:- إنّ الروايات الناهية عن السحر وأن الساحر يقتل منصرفة إلى السحر الذي تكون نتائجه سيئة ووخيمة ، أما إذا لم تكن نتائجه كذلك بل على العكس كانت نتائجه محبّبة لأنه سوف يرفع لنا مشكلة فهنا يمكن أن يدّعى أنّ اطلاقات حرمة السحر - يعني تلك الروايات الخمس التي ذكرناها - منصرفة عن مثل هذه الحالة ومعه نتمسّك بالبراءة لإثبات الجواز بعد فرض الانصراف ، وممّن مال إلى انصراف مفهوم السحر عن مثل هذه الحالة الشيخ الأعظم(قده)[1] .

إن قلت:- إنّ الانصراف إنما يكون حجّة إذا كان ناشئاً من كثرة الاستعمال وليس ناشئاً من كثرة الوجود ، وهنا الانصراف المدّعى لم يثبت أنه ناشئ من كثرة الاستعمال ، بل يمكن أن يقال إنّه ناشئ من كثرة الوجود فإنّ الغالب في أفراد السحر أن تكون سيئة ، فهذا الانصراف ناشئ من هذا وليس ناشئاً من كثرة الاستعمال ، فلا يكون مثل الانصراف المذكور حجة.

قلت:- إنّ هذا إشكال قد تكرّر ذكره في موارد دعوى الانصراف ، ونحن أجبنا عن ذلك وقلنا إنَّ المهم هو أن يثبت الانصراف ، فإذا كان الانصراف ثابتاً حقاً وشعرنا به بالوجدان ففي مثل هذه الحالة يكون حجّة ولا داعي إلى التفتيش عن سببه ، لأنه حينما نشعر بالانصراف يعني أنّ دليل ( الساحر يقتل ) مثلاً نفهم منه وظاهره هو خصوص السحر السيء ، وإذا كان ظاهره هو هذا فتمسّك بالظهور وخذ به فلماذا تتوقّف وتقول لا آخذ بالظهور إلا إذا كان ناشئاً من كثرة الاستعمال دون كثرة الوجود فإن هذا لا معنى له !! ، إنه إذا شعرنا بوجود انصرافٍ يعني أنّ اللفظ ظاهرٌ في هذه الحصّة - أي السحر الذي له أثر سيء - دون ما زاد على ذلك فحينئذٍ نأخذ به ولا داعي إلى الفحص عن سببه ، وهذه قضية مهمّة لها آثارها في موارد متعدّدة ، وهنا نحن نشعر بالانصراف ، ولعلّ سبب الانصراف - وبيان سبب الانصراف ليس بلازم - هو أنّ من يقرأ الرواية يفهم أنّ السحر المقصود هو خصوص السيء الذي عليه القتل فإنه ليس من البعيد أنّ منشأ الانصراف يتناسب مع من يعمل قضيةً غير جيدة ، أما إذا فرض أنّ هذا الشخص يرفع بعمله هذا مشكلةً فهذا لا يناسبه القتل ، فمناسبات الحكم والموضوع المركوزة في أذهان العقلاء والعرف ليس من البعيد أنها هي المنشأ لهذا الانصراف ، والمهم عندي إمّا أن تقول يوجد انصراف أو تقول لا يوجد ، فإن قلت نعم فلا داعي للتفتيش عن السبب فإنّ هذا ليس بمهم ، نعم إذا شككّ أحدٌ في أصل الانصراف فهذا حقٌّ له وحينئذٍ لا موجب لترك الاطلاق.

إن قلت:- إنه إذا قبلنا هذا الانصراف يلزم من ذلك محذور وهو أنّ السحر الذي يورث محبّةً بين طرفين كالرجل والمرأة أو بين صديقٍ وصديق حصلت بينهما شحناء وهو يعمل بالسحر ما يورث المحبّة بينهما يلزم أن يكون هذا جائزاً لأن أثر هذا السحر ليس سيئاً فحينئذٍ يلزم الحكم بجوازه والحال أنه لا يُظَنّ بالفقهاء الالتزام بذلك فإنّ المعروف بينهم أنّ السحر حتى الذي يورث المحبّة محرّم وهذا معناه أنّ حرمة السحر لا تختصّ بما إذا كان أثره سيئاً ؟

وقد يقول قائل:- إنّ فهم الفقهاء ليس حجّة علينا.

فنقول:- نعم لو كان فهم فقيه واحدٍ أو اثنين أو ثلاثة أو أربعة فالأمر كما تقول ، أما إذا كان هو الطابع العام بين الفقهاء وأنهم يعمّون حرمة السحر فمن الصعب أن يتجاوز فهمهم ، فيحصل للإنسان الاطمئنان بأنّ هذا الحكم هو الصحيح - يعيني أنّه لا فرق بين كونه سحراً نافعاً أو مضرّاً مادام الفقهاء يذهبون إلى هذا بشكلٍ عام -.

قلت:-

أوّلاً:- لعلّهم لم يفهموا ذلك من اطلاق روايات السحر - أي لا لأجل أنهم فهموا من طلاق أدلة حرمة السحر أي تلك الرايات الخمس الشمولية لما إذا كان الأثر حسناً وليس سيئاً -وإنما ذهبوا إلى ذلك لأجل وجود رواية خاّصة تدلّ على أنّ ما يورث المحبّة من السحر هو حرام ، والرواية هي ما رواه الشيخ الصدوق(قده) بإسناده عن اسماعيل بن مسلم[2] عن جعفر بن محمد عن ابيه عن آبائه عليهم السلام :- ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله لامرأة سألته إنّ لي زوجاً وبه عليَّ غلظة وإني صنعت شيئاً لعطفه عليِّ ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله:- أفٍّ لكِ كدَّرتِ البحار وكدَّرتِ الطين ولعنتك الملائكة الأخيار وملائكة السموات والأرض ، قال:- فصامت المرأة نهارها وقامت ليلها وحلقت رأسها ولبست المسوح فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله فقال:- إنّ ذلك لا يقبل منها )[3] ، فلّعل الفقهاء حينما عمّموا حرمة السحر لما يورث المحبّة استندوا إلى هذه الرواية وليس إلى تلك الاطلاقات ، ومادام هذا الاحتمال موجوداً فلا يعود لدينا ما يوجب التشكيك أو ما يوجب الاشكال على الانصراف الذي تمسّكنا به.

نعم هذه الرواية إنما يتمسّك بها بناء على كونها ناظرة إلى السحر فإنها قالت:- ( وإني صنعت شيئاً لأعطفه عليَّ ) ولم تقل ( صنعت سحراً ) فلابدّ وأن نقول إنَّ المقصود هو السحر ، والفقهاء فهموا السحر كما فهمم ذلك الشيخ الصدوق(قده) فإنه ذكرها في الفقيه تحت عنوان ( عقوبة المرأة على أن تسحر زوجها )[4] وذكر هذه الرواية فيدلّ ذلك على أنه فهم منها صناعة السحر.

إذن الفقهاء حينما عمّموا حرمة السحر لعلّهم استندوا إلى هذه الرواية وليس إلى اطلاقات حرمة السحر.

ثانياً:- لعلّ الفقهاء حينما منعوا من السحر المورث للمحبة ذلك السحر الذي يورث محبّةً شديدة ، فإن ما يورث المحبّة الشديدة أيضاً يكون سيئاً ، فلعلهم منعوا من السحر المورث للمحبّة والمودّة يقصدون وينظرون إلى ذاك لا المحبّة الطبيعية فإنّ هذا الاحتمال موجود . إذن لا يكون فهمهم المذكور ردّاً على هذا الانصراف بعدما كان يحتمل أن يكون المقصود ممّا فهموه هو المحبّة الشديدة.

والخلاصة:- الوجه الأوّل الذي قد يتمسّك به لإثبات جواز السحر الذي يُحَلُّ به السحر هو انصراف أدلّة حرمة السحر إلى السحر الذي له أثر سيء دون السحر الذي له أثر حسن . والذي أأكد عليه وهو أنك لابدّ وأن تجزم بدعوى الانصراف ، فإذا شككت فلا ينفعك ذلك والأمر إليك ، فمن يؤمن بهذا الانصراف فبها.

الوجه الثاني:- التشكيك في صدق مفهوم السحر بأن يقال إنَّ السحر لغةً وعرفاً قد أخذ فيه عنصر الإضرار ، فما لا يكون مضرّاً لا يكون سحراً.

وفرقُ هذا الوجه عن سابقة أنه في الوجه السابق كنّا نقول إنّ السحر مفهومه وسيع ولكن روايات السحر منصرفة إلى حصّةٍ منه ، أما في هذا الوجه فنقول إنّه أصلاً السحر لغةً وعرفاً هو من البداية يختصّ بالسحر الذي يكون أثره سيء ، وهنا لا نحتاج إلى الجزم بل يكفينا الشك ، وهذا أيضاً فارقٌ بين الوجهين ، يعني نحتمل أنّ السحر وعنوان السحر قد أُخِذَ فيه النتيجة السيئة والأثر السيء ومادمنا نحتمل ذلك فسوف يصير المورد من باب الشبهة المفهوميّة ، يعني مفهوم السحر سوف يكون مردّداً بين السعة والضيق بين ما يختصّ بخصوص المضرّ وبين ما يعمّ المضرّ أيضاً ، فإذا صارت شبهة مفهومية فالدليل لا يمكن التمسّك به في موارد الشبهة المفهوميّة إلا بمقدار القدر المتيقّن دون ما زاد على ذلك - والنكتة أيضاً واضحة باعتبار أنّ الحكم كما قلنا مراراً لا يثبت موضوع نفسه فالدليل يقول لك إنّ السحر حرام أما ما هو السحر فهل الذي نتيجته حسنة سحر أو ليس بسحر ؟ فهو يقول عليك أن تثبت من الخارج أنه سحر فإذا أثبتَّ أنه سحر فأنا أقول لك هو حرام أما أنا فلا أقول هذا سحر أو ليس بسحر مثل أكرم العالم فأكرم العالم لا يقول لك هذا عالم بل يقول إذا كان عالماً فأكرمه أما أنه عالم أو لا فلا شغل له بذلك فإنّ الحكم لا يثبت موضوع نفسه - ، فهنا إذا ادعينا هذا الشيء ولا نحتاج إلى الجزم بل يكفينا الاحتمال الوجيه - أن يدّعى أنّ مفهوم السحر هو من الأوّل نحتمل أنّه مختصّ بما كان مضرّاً دون الأعم - فلا يمكن حينئذٍ التمسّك بالإطلاقات فنرجع آنذاك إلى أصل البراءة.

الوجه الثالث:- إنه ورد في آية هاروت وماروت أنهما كانا يعلّمان السحر ، وهذه الآية الكريمة يظهر منها أنّ تعليم السحر شيء جائز وإلا كيف أنزلهما الله عزّ وجلّ وهما يعلّمان السحر ؟ ، نعم لا يمكن أن نتمسّك بالإطلاق ونقول إنّ تعليم السحر بكلِّ أنحائه وأصنافه جائز ، بل هنا نطبّق قضية حكمٌ في واقعة ، فالآية الكريمة دلّت على أنّ الله تعالى أنزل ملكين يعلّمان السحر وهذه قضية في واقعة ، ولم تقل تعليم السحر يجوز ، فلو كانت تقول هكذا فسوف نتمسّك بالإطلاق ، أما إذا قالت إنّ الله أنزل ملكين يعلّمان فهذه قضيّة في واقعة ولا يمكن التمسّك بالإطلاق ، وهذا صحيح ولكن نتمسّك بالقدر المتيقّن فنقول هناك حصّة لابدّ وأنها تجوز وهي التي يصنعها الملكان ويأمران بها ، وما هي تلك الحصّة الجائزة ؟ إنّ القدر المتيقّن الحتمي هو ما إذا كان من باب حلّ السحر بالسحر فإنّ هذه هي الحصّة المتيقّنة ، فيثبت بمقتضى الآية الكريمة الجواز فنتمسّك بها غايته نجعل الروايتين مؤيداً لها لا أن نجعلهما دليلاً على تفسير هذه الحصّة فإنهما ضعيفتا السند.

هذه وجوه ثلاثة يمكن التمسّك بها لإثبات جواز حلّ السحر بالسحر ، وذلك ينتهي حديثنا عن الأمر الأوّل.


[2] واسماعيل بن مسلم الشعيري وهو السكوني.