33/03/14


تحمیل
  (بحث يوم الثلاثاء 14 ربيع الأول 1433 ه 70)
 كان الكلام في ذكر ما يمكن أن يُستدلّ به على القول الثالث وهو التفصيل بين صورتي التهمة وعدمها وتقدّم ذكر أدلة ثلاث - كان آخرها الروايات - ، ويُضاف إليها ما يمكن أن يكون مؤيّداً في المقام وهو اتّفاق الفقهاء (رض) في بعض الفروع الفقهية على جواز سماع الدعوى مع التهمة وإن لم تكن جزمية مع وضوح عدم اشتمالها على يد مقتضية للضمان في حدّ نفسها كما لو ادّعى شخص على آخر أنه مدين لمورّثه استناداً إلى كتابة وجدها بهذا المضمون فإن هذه الدعوى عندهم مسموعة والظاهر اتّفاقهم على ذلك [1] بل قالوا إن الحاكم إذا عثر على ما يفيد أن للميت ديناً بذمة شخص فمن حقّه أن يتصدّى لإقامة الدعوى على المدين ولو عند حاكم آخر في ما إذا لم يكن للميت وارث ويظهر اتفاقهم على هذا الحكم مع أن الدعوى فيه غير جزمية وليست مشتملة على يد كما هو ظاهر.
 ولكن ما ذُكر لا يعدو كونه مؤيّداً ولا يمكن الركون إليه بمفرده لإثبات المطلوب ، نعم .. لا بأس به إذا ضُمّ إلى ما ذُكر دليلاً على المدّعى من قيام السيرة العقلائية على عدم عدّ الدعوى مع التهمة سفهية سواء اشتملت على يد مقتضية في حدّ نفسها للضمان أم لم تشتمل .
 هذا .. وقد تقدّم أنه لا يمكن الاستدلال بالروايات المتقدّمة لعدم الجزم بكونها ناظرة إلى محلّ الكلام حيث يُحتمل قويّاً تعلّقها بباب الضمان مع أنّا لو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا تعلّقها بباب القضاء إلا أنها لا تُثبت المطلوب على عمومه إذ لا يمكن التعدّي عن موردها المتضمّن لليد المقتضية للضمان وإن كان داخلاً تحت المطلوب من حيث كون الدعوى فيه غير جزمية .
 هذا .. مضافاً إلى أنه يشكل الاستدلال بها [2] من جهة أخرى وهي اختلاف موردها عمّا نحن فيه فإن موردها هو اتّهام المنكر للمدعي لا اتّهام المدّعي للمنكر الذي هو محلّ الكلام ، وتوضيحه :
 إن مقامنا هو صورة ما إذا كانت الدعوى غير جزمية مع كون المدّعي فيها متّهماً للمدّعى عليه فيُراد إثبات كون هذه الدعوى مسموعة وتُطبّق فيها قواعد باب القضاء استناداً إلى ما تقدّم من الأدلة ومنها الروايات .. إلا أن التأمّل في هذه الروايات يُعطي أن موردها هو اتّهام المنكر للمدّعي وهو خلاف ما نحن فيه فإن ظاهرها أن الذي يبادر بالدعوى ليس هو صاحب المال وإنما هو الطرف الآخر حيث يدّعي أن المال الذي تحت يده سُرق منه وصاحبُ المال يُنكر ذلك ويتّهمه بالتعدّي على المال فصاحبُ المال في هذه الروايات منكر والذي تحت يده المال مُدّعٍ في حين أن صاحب المال في محلّ الكلام مُدّعٍ والذي تحت يده المال منكر ، كما أن المتَّهم [3] في محلّ الكلام هو المنكر في حين أن المتَّهم في تلك الروايات هو المدّعي [4] ، ولمّا كانت القاعدة تقتضي طلب البيّنة من المدّعي فيكون طلبها في مورد الروايات ممن تحت يده المال [5] في حين أن طلبها في محلّ الكلام يكون من صاحب المال [6] ، وأما إذا ادّعى من طُلبت منه البيّنة عدم توفّرها فتصل النوبة إلى طلب اليمين ولكن حيث كان جوازه مشروطاً بالجزم إذ غير الجازم لا يمكنه الحلف وصاحبُ المال في مورد الروايات غيرُ جازم فحينئذ يُردّ اليمين على المدّعي نفسه - بعد عدم وجود بيّنة عنده تشهد على صحة دعواه من كزن المال قد سُرق منه - فيكون هو نفسه المطالَب بالبيّنة والحلف في حين أنه في محلّ الكلام يكون المطالَب بالبيّنة غير من هو مطالَب بالحلف ، نعم .. إذا نكل المنكر هاهنا عن اليمين رُدّ على المدّعي .
 فظهر بما تقدّم الفرق الشاسع بين محلّ الكلام ومورد الروايات بما لا يدع مجالاً للاستدلال بها على المطلوب بوجه .
 والنتيجة أن الجزم من شروط الدعوى المسموعة إلا في صورة التهمة فتُقبل الدعوى ولو لم تكن جازمة ولكن الدليل عليها ليس الأخبار بل ما تقّدمت الإشارة إليه من استقرار سيرة العقلاء وتبانيهم على عدم عدّ الدعوى في مورد التهمة سفهيةً فتُسمع ويُطبّق بشأنها قواعد باب القضاء لاسيما مع افتراض وجود يد مقتضية في حدّ نفسها للضمان .
 هذا كله في تكليف القاضي والحاكم من حيث جواز سماع الدعوى وعدمه [7] .
 وأما بالنسبة إلى المدّعي من حيث جواز إقامته للدعوى تكليفاً فالذي ينبغي أن يقال :
 إن المدّعي بالإضافة إلى ما يدّعيه لا يخلو من حالات ثلاث :
 الأولى : أن يكون قاطعاً بثبوتها فهنا لا إشكال في جواز إقامته للدعوى لأنها سبب في استرداد حقّه.
 الحالة الثانية : أن يكون قاطعاً بعدم ثبوتها فهنا لا إشكال في عدم جواز إقامته للدعوى لاستلزامها الافتراء وطلب ما ليس بحقّ .
 الحالة الثالثة : أن يكون شاكّاً ، وهنا صورتان :
 الأولى : أن يُبرز دعواه بصورة جازمة فلا يجوز لأنه كذب إذ المفروض كونه شاكّاً .
 الصورة الثانية : أن يُبرز دعواه بصورة غير جازمة فإن كان معتمداً على إمارة معيّنة كشهادة شخص أو قراءة المضمون في ورقة - مثلاً فيجوز وإلا فيشكل [8] .
 


[1] وهي دعوى غير جزمية وليست مشتملة على يد .
[2] أي بالروايات المتقدمة في الدليل الثالث وما أضيف عليها من الروايات الأربعة الأخيرة .
[3] بالفتح - بصيغة المفعول - .
[4] نعم .. الذي تحت يده المال يمثّل كلاً منهما في الموردين ففي الروايات هو مدّعٍ وفي محلّ الكلام هو منكر ولكن اختلاف وصفه بين الموردين ظاهر .
[5] لأنه هو المدّعي فيها حيث يدّعي أن المال قد سُرق منه .
[6] لأنه هو المدّعي فيه حيث يدّعي أن الطرف الآخر قد سرق ماله الذي كان تحت يده .
[7] الذي تقدّم أن فيه أقوالاً ثلاثة أوجهها ثالثها وهو التفصيل بين صورتي التهمة وعدمها الذي استُدلّ عليه بما أشير إليه من السيرة .
[8] أي أصل إقامة الدعوى في هذه الحالة .