33/03/20


تحمیل
 (بحث يوم الاثنين 20 ربيع الأول 1433 ه 74)
 استدراكات ترتبط بما تقدّم :
 أولاً :

في ما يخصّ رواية جرّاح المدائني [1] التي ضعّفناها من جهة عدم توثيق الراوي المباشر نفسه [2] وكذلك من جهة عدم توثيق رجل آخر ممن وقع في السند وهو القاسم بن سليمان فقد وجدنا أن مضمون الرواية نفسه مذكور في ما رواه الشيخ الصدوق بسند تام عن محمد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : " كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول : لا آخذ بقول عرّاف ولا قائف ولا لصّ ولا أقبل شهادة الفاسق إلا على نفسه " [3] .
 وثانياً :

بالنسبة إلى رواية إسحاق بن عمار [4] التي ضعّفناها من جهة الإرسال والتي نقلناها عن كتاب الإقرار فقد وجدنا أن هذه الرواية نفسها مروية في كتاب الوصايا بسند معتبر [5] ينقلها صاحب الوسائل عن الفقيه والكافي والتهذيب .
 وسند الفقيه في الوسائل هكذا : " وبإسناده [6] عن ابن أبي عمير عن محمد بن أبي حمزة وحسين بن عثمان عن إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) " .
 وهذا السند معتبر فإن طريق الشيخ الصدوق إلى ابن أبي عمير تام ، ومحمد بن أبي حمزة يمكن توثيقه من جهتين :
 الأولى :

كونه من مشايخ ابن أبي عمير الذي ثبت أنه لا يروي إلا عن ثقة .
 الثانية :

بالاعتماد على ما نقله الكشي عن شيخه حمدويه بن نصير حيث سأله عن أولاد أبي حمزة الثمالي وهم علي والحسين ومحمد فقال : (كلهم ثقاة فاضلون) .
 وأما حسين بن عثمان فهو وإن كان مشتركاً بين جماعة إلا أنهم جميعاً ثقاة ، ومع قطع النظر عن هذا فلا يضرّ وروده في السند في كون الرواية صحيحة سنداً لكونه معطوفاً فيه [7] على محمد بن أبي حمزة ، وأما الراوي المباشر عن الإمام (عليه السلام) أعني إسحاق بن عمار فهو ثقة أيضاً فالرواية تامة بسند الشيخ الصدوق .
 وكذلك هي تامة أيضاً بسند الشيخ الكليني حيث يرويها عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن محمد بن أبي حمزة وحسين بن عثمان عن إسحاق بن عمار والسند تام بل الشيخ الطوسي الذي اشتمل سنده على الإرسال يروي الرواية نفسها بطريق آخر خالٍ عن الإرسال وذلك بإسناده عن أحمد بن محمد بن عيسى عن محمد بن أبي عمير [8] لأن الإرسال كان واقعاً في ذلك السند قبل ابن أبي عمير [9] .
 وثالثاً :

كنّا قد استدللنا على نفوذ الإقرار بالارتكاز العقلائي وقد يُدّعى مضافاً إليه الاستدلال بارتكاز المتشرعة وسيرتهم الممتدّة إلى زمان الشارع .. وهذا إذا تمّ يكون كاشفاً عن الدليل الشرعي من غير احتياج إلى ضميمة عدم الردع للدلالة على الإمضاء لأن سيرة المتشرّعة معلولة للدليل الشرعي .
 ولكن هذا الاستدلال يتوقف على انحصار تفسير السيرة - أو الارتكاز المتشرّعي - بالدليل الشرعي بحيث لا يوجد أيّ تفسير آخر لانعقاد سيرة المتشرّعة - أو ارتكازهم - على ما ادُّعي قيامها عليه إلا بالتلقّي من الشارع فتكون كاشفة عنه حينئذ كشفاً إنياً من باب كشف المعلول عن العلة ، وأما إذا أمكن تفسيرها بغير ذلك فلا يتمّ كشفها عنه لأنها لا تكون معلولة له حينئذ وإنما تكون معلولة لما المُدّعى تفسيرها به وهو في المقام الارتكاز العقلائي المتقدّم لأن المتشرّعة بعضٌ من العقلاء فإذا فُرض أنه كان هناك ارتكاز عقلائي على نفوذ إقرار المقرّ على نفسه وفي الوقت نفسه كان هناك سيرة - أو ارتكاز متشرّعي - على ذلك فمن المحتمل أن تكون مستندة في ذلك إليه فلا تكشف حينئذ عن دليل شرعي بل هذه السيرة بناءً على هذا الاحتمال هي سيرة عقلائية غاية الأمر أنها سيرة عقلائية امتدّت للمجال الشرعي فهي سيرة صادرة من المتشرّعة بما هم عقلاء لا بما هم متشرّعة فيشملها حينئذ ما يشمل سيرة العقلاء من أنها لا تكون كاشفة على الدليل الشرعي مباشرة وإنما تحتاج إلى توسّط عدم الردع ، ولا ضرورة لإحراز استنادها إلى ذلك [10] فإن احتماله كافٍ في المنع من الاستدلال .
 هذا .. وقد كان الكلام في أن مقتضى إطلاق الأدلة المتقدّمة نفوذ الإقرار حتى بعد التعقّب بالإنكار لكن قلنا إنه لا بد من تقييد ذلك بما دلّ على عدم نفوذ الإقرار بعد الانكار في موارد معينة وردت في بعض الروايات :
 منها : معتبرة الحلبي المتقدّمة - عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) :
 " في رجل أقرّ على نفسه بحدّ ثم جحد [11] بعدُ ، فقال : إذا أقرّ على نفسه عند الإمام أنه سرق ثم جحدّ قطعت يده وإن رغم أنفه وإن أقرّ على نفسه أنه شرب خمراً أو بفرية فاجلدوه ثمانين جلدة ، قلت : فإن أقرّ على نفسه بحدّ يجب فيه الرجم أكنت راجمه ؟ فقال : لا ، ولكن كنت ضاربَه الحدّ " [12] .
 ومنها : رواية أخرى للحلبي بالمضمون نفسه عن أبي عبد الله (عليه السلام) :
 " قال : إذا أقرّ الرجل على نفسه بحدّ أو فرية ثم جحدّ جُلد ، قلت : أرأيت إن أقرّ بحدّ على نفسه يبلغ فيه الرجم أكنت ترجمه ؟ قال : لا ولكن كنت ضاربه " [13] .
 ومنها : رواية محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) :
 " قال : من أقرّ على نفسه بحدّ أقمته عليه إلا الرجم فإنه إذا أقرّ على نفسه ثم جحدّ لم يُرجم " [14] .
 فلا بد من تخصيص إطلاقات الأدلة المتقدّمة الدالة على نفوذ الإقرار حتى بعد الإنكار بمقتضى هذه الأدلة من استثناء الرجم من ذلك كما أنه لا بد من تقييدها أيضاً بما دلّ على عدم نفوذ الإقرار إذا كان إقراراً واحداً بل لا بد من أن ينضمّ إليه إقرارٌ آخر أو عدّة إقرارات كما في حدّ الزنا واللواط بل ادُّعي ذلك في السرقة أيضاً .
 ثم بعد الفراغ عن حجية الإقرار ونفوذه والاستدلال لذلك بما تقدّم نقول :
 إنه يترتب على ذلك إمكان استناد الحاكم إليه في باب القضاء فيحكم بناءً عليه بثبوت الحقّ للمقرّ له وإلزام المقرّ بما أقرّ به فإذا كان قد أقرّ بمالٍ - مثلاً - وكان واجداً للمال حكم عليه الحاكم بدفعه وإذا امتنع فبإمكانه أن يجبره على أدائه فيكون الإقرار من طرق الاثبات في باب القضاء على حدّ البيّنة واليمين .
 ثم إن هاهنا أبحاثاً أربعة طُرحت في كلماتهم ترتبط بالإقرار ، وهي :
 الأول : إذا ثبت الحقّ بالإقرار فهل يمكن للمُقَرّ له استيفاؤه بنفسه أم يتوقّف ذلك على حكم الحاكم ؟
 الثاني : هل يُشترط في استناد الحاكم إلى الإقرار وقوعه أمامه أم يكفي ثبوته عنده بحجة ولو لم يقع أمامه ؟
 الثالث : هل يتوقف حكم الحاكم بالمُقَرّ به استناداً إلى الإقرار على طلب المدّعي أم لا بل هو من وظيفة الحاكم ولا يتوقف على طلب المُقَرّ له ؟
 الرابع : هل يلزم في كتابة الإقرار بعد الحكم معرفة المُقِرّ باسمه ونسبه بدعوى الخشية من أن ينتحل إنسان مّا شخصية آخر ويقرّ لثالث تواطأ معه لينال هذا الأخير من أموال الثاني بمقتضى الإقرار [15] ما ليس له بحقّ أم لا يُعتبر ذلك ؟
 ولنعقد الكلام حول هذه الأبحاث بإيجاز :
 أما الأول : فالظاهر أنه لا يوجد خلاف بينهم في أن استيفاء الشخص لما أُقِرّ له به لا يتوقف على حكم الحاكم فبإمكان الشخص إذا سمع من يُقِرّ له بمال - مثلاً أن يرتّب الأثر على هذا الإقرار ويطالبه بذلك الحقّ ويلزمه بأدائه وبإمكانه أن يستوفي حقّه منه بالطرق المشروعة من دون أن يتوقف ذلك على حكم الحاكم ، وقد صرّح بهذا جملة من الفقهاء (رض) كالشهيد في المسالك من المتقدّمين والشيخ صاحب الجواهر والسيد صاحب العروة (قدهما) من المتأخرين بل إن هناك خلافاً طُرح في كلماتهم يلوح منه المفروغية عن ثبوت الحقّ بالإقرار [16] ولا يتوقف على حكم الحاكم حيث قالوا بأن البينة هل هي كالإقرار في ذلك فيثبت الحقّ بها ولا يتوقف على حكم الحاكم ؟
 وقد ذهب إلى التفريق بين البابين [17] الشهيد في المسالك والأردبيلي في مجمع الفائدة فقالوا بأن ما يجري في الإقرار من ثبوت الحقّ به من غير توقف على حكم الحاكم لا يجري في البينة بل ثبوت الحقّ بها يحتاج إلى حكم الحاكم وإعمال نظره فليس بوسع من قامت عنده البينة على أن له حقّاً عند شخص أن يستوفيه منه مباشرة بل لا بد من أن يقيم الدعوى أولاً ويثبت الحقّ عند الحاكم بموجب شهادة البينة ويحكم به ثم يستوفيه له من المقرّ .
 والوجه في الفرق بينهما أن ثبوت الحقّ بالبينة منوط باجتهاد الحاكم في قبولها أو ردّها وهذا غير معلوم للمقرّ له إلا بعد الترافع بخلاف الإقرار فإنه يكون مقبولاً ونافذاً من غير توقف على اجتهاد الحاكم ونظره ، وبعبارة أخرى إن الإقرار حجة مطلقاً بينما البينة ليست حجة إلا عند الحاكم .
 وذكر الشيخ الأنصاري (قده) نكتة أخرى في التفريق بين البينة والإقرار وهي أن أدلة حجية البينة [18] لا دلالة فيها على فصل الخصومة بها فلا تنافي الأدلة الدالة على أن الخصومة لا تُفصل إلا عند الحاكم وبضمّ أحد الدليلين إلى الآخر ينتج أن البينة لا تكون حجة إلا عند الحاكم ولا يترتّب الأثر عليها إلا عنده منوطاً بقبولها لديه .
 وأما الاقرار فليس كذلك إذ ليس فيه خصومة أساساً حتى يقال إنه لا دلالة لأدلة حجيته على أن الخصومة لا تُفصل به لأن أحد الطرفين يعترف من الأول أن للآخر حقّاً في ذمته ولا يُنازعه في ذلك ومن هنا يكون الإقرار حجة مطلقاً ولا يتوقف استيفاء الحقّ في مورده على حكم الحاكم بل للمُقَرّ له أن يستوفيه بالطرق المشروعة ، وفي مقابل ذلك من يرى عدم الفرق بينهما كالشيخ صاحب الجواهر والسيد صاحب العروة (قدهما) فكل منهما يثبت به الحقّ من دون أن يتوقف على حكم الحاكم .
 والظاهر أن الاختلاف ناشئ ممّا أشار إليه بعضهم وهي أن حجية البينة هل هي مطلقة فلا تحتاج في ثبوت مضمونها إلى حكم الحاكم أو غير مطلقة فتحتاج .
 ولكن الصحيح هو الإطلاق فإن أدلة البينة ليس فيها ما يشير إلى اختصاصها وتقييدها بأن تقوم عند الحاكم وبناء على إطلاق الأدلة فالمسألة محسومة في عدم الفرق بين الإقرار والبينة حينئذ .
 وكيف كان فلا إشكال ظاهراً في ثبوت الحقّ بالإقرار واستيفاؤه من قبل المُقَرّ له بلا توقف على حكم الحاكم .
 ولكن هذا في ما إذا لم يمتنع المُقِرّ من أداء ما أقرّ به وإلا استحالت القضية إلى خصومة لا ترتفع إلا بحكم الحاكم حيث يتكفّل القضاء بإلزامه بالدفع والأداء وفق الخطوات المناسبة لتحقيق ذلك حسب ما هو مذكور في محلّه .
 هذا ما يرتبط بالأمر الأول وستأتي بقية الكلام إن شاء الله تعالى .


[1] مرّ ذكرها في بحث يوم السبت 18 ربيع 2 .
[2] أي جرّاح المدائني .
[3] الفقيه مج3 ص50 .
[4] مرّ ذكرها في بحث يوم الأحد 19 ربيع 2 .
[5] الوسائل الباب السادس والعشرون الحديث الثالث مج23 ص324 .
[6] أي الشيخ الصدوق (قده) .
[7] أي في السند .
[8] أقول : لا بد أن يكون هذا بضميمة صحة طريق الشيخ (قده) إلى أحمد بن محمد بن عيسى .
[9] أقول : قد تبيّن لك مما ذكرناه في هامش سابق أن جملة الإرسال أعني قوله (عمن رواه) مزيدة في الوسائل كما هو الظاهر (يُلاحظ بحث الأحد 19ر2 ص1 هامش4) .
[10] أي إلى الارتكاز العقلائي .
[11] أي رجع وأنكر ما أقرّ به .
[12] الكافي مج19 ص220 ، الوسائل مج28 ص26 .
[13] الكافي مج7 ص219 ، الوسائل أبواب مقدمات الحدود الباب الثاني عشر الحديث الثاني مج28 ص26 .
[14] الكافي مج7 ص220 ، الوسائل أبواب مقدمات الحدود الباب الثاني عشر الحديث الثلث مج28 ص27 .
[15] أي الزائف .
[16] ويتبع ثبوت الحقّ بالإقرار استيفاؤه من المقرّ به فكلما توقف الأول على حكم الحاكم توقف هذا عليه أيضاً وإذا لم يتوقف لم يتوقف هذا ايضاً .
[17] يعني باب الإقرار وباب البينة .
[18] وبعبارة أخرى أن أدلة حجية البينة في حدّ ذاتها مطلقة تُثبت كون البينة حجة عند الحاكم وغيره كالمقرّ له - .