33/12/20


تحمیل
  (بحث يوم الاثنين 20 ذو الحجة 1433 هـ 189)
 الموضوع : الكلام في المسألة الرابعة والخمسين : في مدى جواز استقلال المدّعي بانتزاع ماله أو التقاصّ من مال آخر في صورة ما إذا كان المال ديناً / كتاب القضاء للسيد الخوئي (قده) .
 
 تقدّم الكلام في ما إذا كان المال عيناً ويقع الكلام في هذا البحث في ما لو كان المال ديناً فالسؤال هنا أيضاً حول مدى جواز المقاصة من مال الخصم فهل يجوز للدائن أن يقتص من مال المدين بمقدار دينه في ما لو وقع مالٌ للمدين في يده أم لا ؟
 والكلام هنا تارة يكون بلحاظ مقتضى القاعدة وأخرى يكون بلحاظ مقتضى الروايات :
 أما بلحاظ مقتضى القاعدة فالظاهر عدم الجواز وذلك باعتبار أن الدائن وإن كان يملك المقدار المعيّن لكنه يملكه في ذمة المدين ومن الواضح أن انطباق ما في الذمة على ما في الخارج ليس انطباقاً قهرياً بل يحتاج إلى قصد من الدافع وقبض من المدفوع له فالدافع إذا قصد بالمال الخارجي الذي يدفعه للدائن أن يكون أداء عما في الذمة فحينئذ يتعيّن أن يكون أداء عما في الذمة وبدلاً عنها وأما إذا لم يقصد [1] ذلك فحينئذ لا يتحقق انطباق ما في الذمة على ما في الخارج بل تبقى الذمة مشغولة وما يأخذه الدائن لا يصدق عليه أنه أداء للدين .
 وبعبارة أخرى : أن أداء الدين من العناوين القصدية التي لا بد من قصدها حتى تتحقق فإذا أُدّى المدين الدين قاصداً أداء ما في ذمته بهذا المال الذي دفعه فحينئذ يقال إن ما في الذمة ينطبق على الذي دفعه فيحصل الأداء ويسقط ما في الذمة وأما من دون هذا القصد فلا يتحقق الانطباق المزبور ولا تفرغ الذمة المشغولة كما لو وقع اتفاقاً مال للمدين في يد الدائن من غير أن يكون المدين قد قصد به أداء ما في ذمته ولكن الدائن اعتبره كذلك فمثل هذا لا يتحقق به الانطباق ولا يسقط ما في ذمة المدين له بل يبقى المال المأخوذ من قبل الدائن مملوكاً للمدين .
 ومن هنا فإن مقتضى القاعدة أن الانطباق لا يتحقق بالتقاصّ من دون علم المدين ورضاه وقصده وبالتالي فإن المال الذي وقع تحت يد الدائن لا يكون بدلاً عمّا يملكه في ذمة المدين .
 وأما بلحاظ الروايات فلا إشكال في أنها تدل على جواز التقاصّ في الجملة وبنحو القضية المهملة في محلّ الكلام - وهو ما إذا كان المال ديناً - وبهذه الروايات نخرج عن مقتضى القاعدة المتقدّم وهذا ليس محلاً للإشكال وإنما الكلام يقع في مقدار ما تدل عليه هذه الروايات فهل تفيد جواز التقاصّ في جميع الصور المتصوّرة التي سيأتي استعراضها أم أنها تدل على الجواز في بعض هذه الصور ولذا لا بد أولاً من ذكر الصور المتصوّرة في المقام ثم عرضها على الروايات لنرى أنها هل تدل على جواز التقاصّ في كل صورة من هذه الصور أم أنه ليس لها دلالة على ذلك :
 الصورة الأولى : ما إذا فُرض أن الخصم وهو المدين مقرّ بالدين وباذل له فيقع الكلام في أنه هل يجوز للدائن في هذه الحالة التقاصّ منه أم لا .
 الصورة الثانية : ما إذا فُرض أن الخصم جاحد للدين أو مماطل به [2] وليس للمدّعي بيّنة تُثبت دينه أو كانت له بينة ولكنه كان يتعذّر عليه الوصول إلى الحاكم لإثبات حقّه ، وبعبارة أخرى : أن المدّعي للدين ليس له طريق لكي يُثبت حقه عند الحاكم إما لتعذّر الوصول إليه أو لعدم توفّر البيّنة وإن تيسّر الوصول إليه فيقع الكلام هنا في أنه هل يجوز للدائن التقاصّ أم لا .
 الصورة الثالثة : ما إذا فُرض أن الخصم جاحد للدين أو مماطل به وكان للمدّعي بينة وأمكنه الوصول إلى الحاكم وإثبات حقّه عنده وفي هذه الصورة يقع الكلام أيضاً في أنه هل يجوز للدائن التقاصّ أم لا يجوز له ذلك .
 الصورة الرابعة : ما إذا فُرض أن الخصم مقرّ بالدين ولكنه كان ممتنعاً من الأداء فهل يجوز للدائن في هذه الحالة التقاصّ أم لا يجوز له .
 وهذه الصورة قد دخلت ضمناً في الصورتين الثانية والثالثة ولذا لا داعي للخوض فيها بهذا الطرح لأننا ألحقنا الممتنع المماطل بالجاحد في تَيْنِكَ الصورتين .. ولكن يمكن طرحها بشكل لا تكون داخلة في الصورتين المذكورتين وهو ما إذا كان الخصم ممتنعاً بحقّ بأن كان لا يعلم بثبوت المال بذمته لهذا الدائن - كما لو كان ناسياً أو كان يعتقد الأداء - في مقابل الممتنع بغير حقّ وهو المماطل .
 هذه هي الصور المتصوّرة في المقام وأقول :
 أما الصورة الأولى وهي ما إذا كان الخصم مقرّاً بالدين باذلاً له فهنا لا خلاف ولا إشكال في عدم جواز التقاصّ وذلك لأن اختيار كيفية قضاء الدين وتعيين ما في الذمة في المال الخارجي إنما يكون بيد المدين فلا يحق للدائن حينئذ التقاصّ مما يقع بيده من ماله كما لا يجوز إجباره [3] على كيفية قضائه للدين بل قالوا بأنه لا إشكال في عدم الجواز حتى في ما لو كان المدين غائباً أو محبوساً ما دام مقرّاً بالدين وباذلاً له فيلزم الدائن حينئذ انتظار عوده من غيبته أو إطلاق سراحه من حبسه ، نعم .. استُثني من ذلك ما لو كان يتضرر الدائن بالانتظار فهنا يجوز التقاصّ ولكن بعد مراجعة الحاكم الذي يحقّ له تعيين ما في ذمة المدين بالمال الخارجي في هذه الحالة فيأخذ الدائن الإذن منه في التقاصّ لأن التعيين - كما ذكرنا - حقّ للمدين .
 وأما بالنسبة إلى الصورة الثانية - وهي ما إذا كان الخصم جاحداً أو مماطلاً مع عدم قدرة الدائن على إثبات حقّه عند الحاكم إما لعدم وجود بينة أو كان لا يتمكن من الوصول إلى الحاكم فالظاهر عندهم أيضاً عدم الخلاف في أنه يجوز له التقاصّ بمقدار حقّه بل ادّعي قيام الإجماع بقسميه [4] على ذلك بل يمكن أن يقال إن هذه الصورة هي القدر المتيقَّن من مفاد النصوص ، ولو كان ثمة شك فإنما هو في شمول النصوص للصورة الثالثة الآتية وهي صورة تمكن المدين من انتزاع حقّه عن طريق الترافع فيقال إنه إذا كان متمكناً فلماذا يُجوَّز له التقاصّ - .
 واستُدل على ذلك بإطلاق النصوص وشمولها لهذه الصورة الثانية أو لكون هذه الصورة هي القدر المتيقَّن من موردها وعلى كلا التقديرين يصح الاستدلال بها وعمدتها من حيث السند معتبرة أبي بكر الحضرمي عن أبي عبد الله (عليه السلام) :
 " رجل كان له على رجل مال فجحده إيّاه وذهب به ثم صار بعد ذلك للرجل الذي ذهب بماله مال قبله أيأخذه منه مكان ماله الذي ذهب به منه ذلك الرجل ؟ قال : نعم .. ولكن لهذا كلام يقول : (اللّهم إني آخذ هذا المال مكان مالي الذي أخذه مني وإني لم آخذ ما أخذت منه خيانة ولا ظلماً) " [5] .
 والتعبير بـ(رجل كان له على رجل مال) يُفهم منه الدين فتتعلق هذه الرواية بمحل الكلام .
 أما سند هذه الرواية فمعتبر كما وصفنا وإن كان هناك كلام في أبي بكر الحضرمي ولكننا نبني على وثاقته باعتبار رواية بعض المشايخ عنه بأسانيد صحيحة فقد روى عنه ابن أبي عمير في الوسائل الباب 17 من أبواب النكاح المحرّم الحديث الأول وروى عنه صفوان في الباب 17 من أبواب حدّ القذف الحديث السابع وهذا بنظرنا يكفي لإثبات توثيق الرجل .. مضافاً إلى أن هناك روايات موجودة في الكشي يظهر منها حسن الرجل وهي إن نوقش في صحة سندها فلا أقلّ من صلاحيتها للتأييد حينئذ والمقدار المذكور من رواية بعض المشايخ عنه بأسانيد صحيحة كافٍ في القول بوثاقته ولا داعي للخوض في كلام خاضوا فيه كثيراً حول هذا الرجل .
 نعم .. هناك شيء وهو أن أبا بكر الحضرمي بهذا العنوان مشترك بين شخصين أحدهما عبد الله بن محمد الحضرمي والآخر محمد بن شريح الحضرمي وهذا الثاني كنّاه الشيخ (قده) بأبي بكر فيثبت له عنوان أبي بكر الحضرمي أيضاً والأول مكنّى أيضاً بأبي بكر فيشترك هذا العنوان بين هذين الشخصين إلا أنه مع ذلك لا مشكلة في البين لأن محمد بن شريح قد نصّ النجاشي على وثاقته مضافاً إلى أن المعروف بهذه الكنية والذي تنصرف هذه الكنية إليه عند الإطلاق هو عبد الله بن محمد الذي روى عنه ابن ابي عمير وصفوان فالنتيجة أن أبا بكر الحضرمي ثقة سواء كان هو عبد الله بن محمد أو كان هو محمد بن شريح .
 هذا بالنسبة إلى سند هذه الرواية ، وأما بالنسبة إلى دلالتها فهي إما مطلقة فتشمل الصورة الثانية أو أن القدر المتيقَّن من مفادها هو ذلك لأنّا قلنا إن المصير إلى التقاصّ عندما يكون هناك طريق آخر للوصول إلى الحقّ وتحصيل الدين عن طريق الترافع فهذا يكون أصعب إثباتاً مما إذا كان لا يمكنه الترافع وبالتالي لا يمكنه من الوصول إلى حقّه بالوصول إلى الحاكم وحيث إن محلّ الكلام هو صورة عدم التمكن من الترافع فمن هنا تكون هذه الصورة هي القدر المتيقَّن من مفاد هذه الروايات فتدل هذه الروايات على جواز التقاصّ فيها .
 هذه هي الرواية العمدة في المقام وهناك روايات أخرى غيرها إلا أن أسانيدها ليست بذلك الوضوح :
 منها : رواية جميل بن درّاج :
 " قال : سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يكون له على الرجل الدين فيجحده فيظفر من ماله بقدر الذي جحده أيأخذه وإن لم يعلم الجاحد بذلك ؟ قال : نعم " [6] .
 وهذه الرواية يرويها الشيخ الطوسي (قده) بإسناده عن أحمد بن محمد بن عيسى (الذي هو ثقة بلا إشكال وطريقه إليه لا بأس به) عن علي بن حديد عن جميل بن درّاج عن الإمام الصادق (عليه السلام) ، والمشكلة في علي بن حديد فإنه لم يُوثّق وليس هناك شيء واضح يدل على وثاقته .
 ومقتضى إطلاق هذه الرواية الشمول لما إذا كان متمكناً من الترافع أو كان غير متمكن منه فتكون الصورة الثانية مشمولة لها إما بالإطلاق أو لكونها هي القدر المتيقَّن من مفادها .
 ومنها : رواية علي بن جعفر :
 قال : " سألته عن الرجل الجحود أيحل له أن يجحده مثل ما جحده ؟ قال : " نعم ، ولا يزداد " [7] .
 وهذه الرواية مروية في الوسائل في الباب 48 من كتاب الأيمان الحديث الرابع وهو شبيه بما نقله (قده) في هذا الباب أيضاً في الرواية الأخيرة وهي الحديث الثالث عشر وقد نقلها عن قرب الإسناد عن عبد الله بن الحسن عن جدّه علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) في حين أنه في باب الأيمان نقلها مباشرة عن كتاب علي بن جعفر فمن يبني على أن طريق الشيخ صاحب الوسائل (قده) إلى كتاب مسائل علي بن جعفر هو طريق صحيح بأمارات مذكورة في محلّها فالرواية تكون معتبرة عنده سنداً بذاك الطريق وأما بهذا الطريق الثاني ففيه محمد بن الحسن ولم تثبت وثاقته ظاهراً ونحن نستشكل في وجود طريق صحيح لصاحب الوسائل إلى كتاب علي بن جعفر وهو بحث ذكرناه سابقاً وقلنا فيه إن صاحب الوسائل عندما ينقل حديثاً عن كتاب علي بن جعفر فهناك نحوان من النقل فتارة ينقله بتوسط التهذيب أو الاستبصار أو غيرهما من الكتب المعروفة الأخرى ، وأخرى ينقل عنه مباشرة وكلامنا في هذا فما ينقله بتوسط أحد الكتب المعروفة كالتهذيب فلا إشكال فيه لأن الشيخ الطوسي (قده) حينما يوردها في التهذيب فهو يملك طريقاً صحيحاً إلى علي بن جعفر وإنما الكلام في طريق صاحب الوسائل مباشرة إلى الكتاب فإنه غير واضح فما ينقله مباشرة عن الكتاب هناك تشكيك في صحة السند فيه وإن كان هذا خلاف ما هو المعروف من البناء على تصحيح روايات صاحب الوسائل عن كتاب علي بن جعفر حتى إذا نقلها مباشرة لا بتوسّط الشيخ الطوسي (قده) أو غيره كما ذهب إلى ذلك السيد الخوئي (رض) وتلامذته .
 ومنها : رواية عبد الله بن وضّاح :
 " قال : كانت بيني وبين رجل من اليهود معاملة فخانني بألف درهم فقدمته إلى الوالي فأحلفته فحلف وقد علمت أنه حلف يمينا فاجرة فوقع له بعد ذلك عندي أرباح ودراهم كثيرة فأردت أن اقتص الألف درهم التي كانت لي عنده وحلف عليها فكتبت إلى أبي الحسن عليه السلام وأخبرته أني قد أحلفته فحلف وقد وقع له عندي مال فإن أمرتني أن آخذ منه الألف درهم التي حلف عليها فعلت ؟ فكتب عليه السلام : لا تأخذ منه شيئاً إن كان قد ظلمك فلا تظلمه ولولا أنك رضيت بيمينه فحلّفته لأمرتك أن تأخذها من تحت يدك ولكنك رضيت بيمينه فقد مضت اليمين بما فيها فلم آخذ منه شيئاً وانتهيت إلى كتاب أبي الحسن عليه السلام " [8] .
 وهذه الرواية ضعيفة سنداً بأبي عبد الله الجاموراني الذي هو ممن استثناه ابن الوليد من كتاب نوادر الحكمة لمحمد بن أحمد بن يحيى ، وكذلك بالحسن بن علي بن أبي حمزة فإن فيه كلاماً .
 وهذه الرواية صريحة في أنه إذا حلّفه عند الحاكم فقد ذهبت الدعوى بالحقّ ولكن إذا لم يُحلّفه فبإمكانه أن يأخذ من ماله مقاصة ، ومقتضى إطلاقها أنه يجوز له ذلك [9] حتى إذا لم يتمكن من الترافع إلى الحاكم .
 وهناك روايات أخرى غيرها لا حاجة إلى ذكرها .. ومن هنا فلا إشكال في الحكم بالجواز في هذه الصورة .
 وأما الصورة الثالثة فسيأتي الكلام فيها إن شاء الله تعالى .


[1] أي الدافع الذي هو المدين في محلّ الكلام .
[2] - بمعنى أنه مقرّ بالدين غير باذل له بل هو ممتنع من أدائه فهو بحكم الجاحد كما صرّح بذلك الشهيد في المسالك (منه دامت بركاته) .
[3] أي المدين .
[4] أي المحصّل والمنقول .
[5] الكافي مج5 ص98 ، الوسائل مج17 ص274 .
[6] التهذيب مج6 ص249 ، الوسائل مج17 ص275 .
[7] مسائل علي بن جعفر ص302 ، الوسائل مج17 ص276 .
[8] الكافي مج7 ص431 ، الوسائل الباب العاشر من ابواب كيفية الحكم باب القضاء الحديث الثاني مج27 ص246 .
[9] أي التقاصّ .