38/04/26


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

38/04/26

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- مسألة ( 30 ) حكم الهجاء – المكاسب المحرمة.

مسألة( 30 ) يحرم هجاء المؤمن ويجوز هجاء غيره بل المؤمن أيضاً إذا كان فاسقاً مبتدعاً لئلا يؤخذ ببدعته.[1]

..........................................................................................................

وأنا غيرت شيئاً في المسألة فلاحظ أصلها ولعل هذا التغيير أولى.

ما هو الهِجاء ؟

الجواب:- الهجاء: على وزن كِساء ، والمعروف أنه هو ذكر مثالب الشخص من خلال الشعر ، وقد وقع الخلاف بين أهل اللغة في أنه هل يعتبر أن يكون في الشعر دون النثر ؟ ، كما هل يعتبر أن تكون تلك المعايب التي يذكر بها هي موجودة فيه حقاًً أو أنه يكفي أن تكون مثالباً ولو كانت مصطنعة ؟

يظهر من صاحب الصحاح التعميم فلم يعتبر قيد الشعر ولم يعتبر أن تكون تلك المثالب موجودة فيه حقاً لأنه قال في مادّة هجى:- ( الهجاء خلاف المدح )[2] ، فإذن هو أطلق ولم يذكر قيد الشعر ولم يذكر أنه يلزم أن يكون بمثالب موجوده فيه ، وفي المقابل اعتبر جماعة من اللغويين قيد الشعر لكن لم يعتبروا القيد الثاني - وهو أن تكون المثالب موجودة فيه - كما في القاموس[3] والنهاية[4] والمصباح[5] فهؤلاء خصصوه بالشعر لكن لم يقيدوه بأن تكون المثالب موجودة فيه حقاً ، وبتبع اختلاف أهل اللغة اختلف الفقهاء أيضاً ، فمثلاً اعتبر جامع المقاصد كلا القيدين - يعني أن يكون في الشعر وأن تكون المثالب موجودة فيه - ، وكذلك النراقي في مستنده ، قال في جامع المقاصد:- ( الهجاء هو بكسر الهاء والمد ذكر المعائب بالشعر )[6] ، وأوضح في ذلك عبارة النراقي حيث قال:- ( ومنها هجاء المؤمنين اي ذكر معايبهم بالشعر )[7] ، فهنا نصّ في أنَّ الشعر معتبر وظاهر في أنَّ المعايب موجودة عندهم لأنَّ الاضافة تدل على ذلك لأنه قال ( معايبهم ) وإلا لا تكون معايبهم إذا لم تكن موجودة فيهم.

ولم يرتض الشيخ الأعظم(قده) في المكاسب[8] من جامع المقاصد اعتبار القيدين حيث قال:- ( وأما تخصيصه بذكر ما فيه بالشعر كما هو ظاهر جامع المقاصد فلا يخلو عن تأمل ) ، يعني يريد أن يقول إنه لا يعتبر أن تكون المعايب موجودة فيه.

وعلى أيّ حال الذي نريد أن نقوله: إنَّ هذا الخلاف لا يسمن ولا يغني من جوع ، والوجه في ذلك أنه لا يوجد عندنا نصّ يثبت الحرمة لعنوان الهجاء حتى نختلف في تحديد مفهومه وأن هذا يقول كذا وذاك يقول كذا ، نعم في مثل الغيبة ﴿ ولا يغتب بعضكم بعضاً ﴾ ، وفي مثل التجسس ﴿ ولا تجسسوا ﴾ فهنا لابأس بأن نختلف في معنى الغيبة أو التجسس أما هنا فلا يوجد نصّ يثبت الحرمة للهجاء حتى يقع القال والقيل في تحديده ، فإذن دع القيل والقال هنا ، ولكن ماذا نصنع حينئذٍ فما هي الطريقة ؟

الطريقة هي أن نذهب إلى دليل الحرمة فنلاحظ مقدار سعة دائرته ، فإذا كانت الدائرة وسيعة فنثبت الحرمة للوسيع ، هكذا يكون الأمر فنّياً.

وإذا أردنا أن نلاحظ دليل التحريم فهو مثل قوله تعالى: ﴿ ويل لكل همزة لمزة ﴾ والهمزة اللمزة هو الذي يذكر معايب الآخرين وهذا يعم ما إذا فرض أنه ذكرت العيوب بالشعر أو بالنثر فإنَّ هذا لا يؤثر من هذه الناحية ، وهكذا إذا كانت العيوب موجودة فيه أو لا ، وإذا لم تكن موجودة فيه فهذا يكون أشدّ حرمة ، ولكن لو قلت إنَّ هذا ليس بهجاء ؟ فأقول لك: دعه لا يكون هجاءً ، فنحن لا نذهب وراء عنوان الهجاء وإنما المدار على ذكر المعايب فنقول هو حرام سواء كان بعيوب موجودة فيه أو لم تكن موجودة فيه.

وهكذا من جملة الأدلة أنَّ هذا إيذاء للمؤمن ، فإذا كان إيذاءً فيكون محرّماً لقوله تعالى ﴿ إنَّ الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً ﴾ واحتملوا يعني تحمّلوا ، فهم يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا ، فمرةً المؤمن إذا اكتسب فأنت لا بأس أن تؤذيه كأن ضربك فأنت أضربه وهذا لا بأس به ، أما إذا فرض أنه لم يضربك ولكنك قمت بأذيته فحينئذٍ هذا يصدق عليه ﴿ إن الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا ﴾ ، يعني لم يكتسب ذلك المؤمن الذي صببت عليه إيذائك شيئاً يستحق به هذا الايذاء ﴿ فقد احتملوا بهتاناً وإثما مبيناً ﴾[9] ، وهكذا لعلّه من هذا القبيل تتبع عيوب المؤمنين هذا من الروايات: ( من تتبع عثرات المؤمنين تتبع الله عثراته ويفضحه ولو في جوف بيته ) ، فالمقصود حينئذٍ هو أنَّ عناوين من هذا القبيل وغيرها والتي هي محرّمة صادقة عليه ، فإذن هذه مطلقة من هذه الناحية فالمناسب أن نقول إنَّ الهجاء حرام ، أو نقول إنَّ ذكر عيوب الشخص حرام بالشعر أو بغيره وسواء كانت موجودة فيه أم لم تكن موجودة لسعة دليل التحريم من هذه الناحية ، أما أن عنوان الهجاء يصدق أو لا يصدق فهذا ليس بالشيء المهم ، نعم لعلّه يصدق في مساحة ضيقة ولكن دائرة الحرمة وسيعة وهذا هو المهم.

وينبغي أن نلتفت إلى هذه القضية:- وهي أنَّ الهجاء محرّم إذا فرضنا أن الطرف لا يرضى بذلك ، أما إذا فرضنا أنه كان مزاحاً بين المؤمنين وأحدهما قال للثاني بالشعر أو بغيره ذلك والأخر كان مستأنساً فهذا لا شيء فيه فإنه لا يصدق عليه الايذاء.

ولو قلت: إنه يصدق عليه همزة لمزة ؟

قلت:- عليك أن تحكّم الذوق في هذا ، فإنه حينما يقال ﴿ ويل لكل همزة لمزة ﴾ يعني تلك العيوب التي يتأذّى منها المؤمن ، أما إذا كان مستأنساً من ذلك فهذا لا يحتمل شمول الآية الكريمة له ، وهذا نعرفه من وراء النصّ ، فإنه توجد عندنا مرتكزات وأمور واضحة لذلك ، نحن نقول دائماً:- إنه إذا أردنا أن نأخذ بالنصوص بقطع النظر عن هذه المرتكزات والأمور الموجودة عندنا خارج النصّ فلعله نخرج بفقهٍ ليس كفقهنا ، ومن هنا لو أراد شخص ليس من أهل الاختصاص أن يتدخّل في الفقه فيقول أنا أقرأ النصوص بهذا الشكل ، فنقول له: إنه ليس لك الحق في قراءة النصوص لأنك لست من أهل الاختصاص.

فالمقصود إنَّ مثل هكذا نصوص حينما يقرؤها الفقيه سوف يضيّق دائرتها بغير المزاح وعدم أذيّة الطرف ويقول هو جائز هنا ، أما الشخص غير الاختصاص حينما يقرؤها فيقول بالإطلاق لأنَّه قد يكون ليس ملتفتاً إلى هذه الارتكازات والقضايا ، فإذن يستثنى حالة المزاح.

وأيضاً يستثنى من ذلك ما إذا طرأ عنوان ثانوي يجوّز ذكر مثالبه ، بل قد يكون العنوان الثانوي يوجب ذكر مثالبه كما لو ابتدع في الدّين شيئاً.

يبقى شيء:- وهو أنه هل تختص حرمة الهجاء حرمته بالمؤمن أو تعم غير المؤمن ؟ وهل تختصّ بالمؤمن العادل أو تعم غيره ؟

الجواب:- إنَّ القدر المتيقّن هو العادل ، وأما إذا فرض أنه كان فاسقاً فتارةً يفترض أنه ليس بمعلنٍ فهذا لا يجوز ذكر مثالبه وهجاؤه لأنَّ له حرمة وتشمله الأدلة ، فهو يصدق عليه أنه مؤمن فيشمله ما دل على التحريم من ﴿ ويل لكل همزة لمزة ﴾ و ﴿ إن الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات ﴾ فلا يجوز ايذاؤه مادام ليس معلناً ، فكما لا تجوز غيبته فلا يجوز هجاؤه وهذا واضح.

وأما إذا كان معلناً فربما يقال بجواز هجائه تمسكاً بما دل على جواز غيبته ، لأنَّ دليل جواز غيبته يدل على أنه لا حرمة له ومادام لا حرمة له فيجوز هجاؤه ، ومن الروايات في باب الغيبة ما رواه هارون بن الجهم عن الصادق عليه السلام قال:- ( إذا جاهر الفاسق بفسقه فلا حرمة له ولا غيبة )[10] ، فقد يقال إنّه مادام قد جاهر فيجوز حينئذٍ هجاؤه لأنه لا حرمة له.

والجواب:- إنَّه لو كانت الرواية تدل على أنه لا حرمة له مطلقاً ومن أيّ زاوية فلا بأس بذلك ، ولكن لعل المقصود أنه لا حرمة له من هذه الزاوية - أي من زاوية الغيبة - لا من جميع الزوايا ، فإذا كان الأمر كذلك فحينئذٍ لا يمكن أن نتعدّى إلى الهجاء.

والفارق بين الهجاء وبين الغيبة هو أنه في الغيبة تذكر المعايب في حالة غيبة الشخص لكن من دون تعيير ، فعنصر التعيير لم يؤخذ في الغيبة ، فأنا الآن لو ذكرت معايب فلان الخفيّة فهذا يعدُّ غيبة ولا يلزم أن يكون قصدي التشهير والتعيير بل مجرّد الذكر يكون غيبة ، هذا بخلافه في الهجاء فإنَّ عنصر التعيير مأخوذ فيه ، والنسبة هي العموم والخصوص من وجه ، فقد يجتمعان كما لو ذكر المعايب التي فيه وكانت تلك المعايب مستورة وكان المقصود التعيير ففي مثل هذه الحالة يصدق الهجاء ويصدق عنوان الغيبة ، وقد يصدق عنوان الغيبة من دون هجاء كما لو فرض أنه لم يقصد بذكر العيوب التعيير فلا يصدق حينئذٍ الهجاء وإنما يصدق الغيبة ، وربما ينعكس كما لو فرض أنه عيّره بعيب هو معلن به وليس خفيّاًً فلا تصدق الغيبة ولكن يصدق الهجاء وهذا ليس بمهم ، والمهم الذي نريد أن نقوله: هو أنَّ عنصر التعيير معتبر في الهجاء.

فإذن جواز الغيبة لا يلازم جواز الهجاء ، لأنَّ الهجاء مأخوذ فيه شيء آخر وهو التعيير ولعلّه من ناحية التعيير الحرمة بَعدُ ثابتة له ، ومع الشك في أنَّ الرواية تريد أن تسقط مطلق الحرمة أو فقط الحرمة من ناحية الغيبة ففي مثل هذه الحالة لا يجوز التمسّك بالعموم وعلينا أن نرجع إلى اطلاق ما دل على حرمة ذكر المعايب مثل ﴿ ويل لكل همزة لمزة ﴾ فإنه لم يعتبر أي عنوان فنتمسّك بإطلاقه ونثبت التحريم في هذه الحالة - أي في حق المؤمن الفاسق المعلن بفسقه - فنقول إنَّ ذكر مثالبه بالشعر لا تجوز وإن كان معلناً مادام هناك تعييراً ، إلا إذا طرأ عنوان ثانوي فحينئذٍ يجوز ، أما من دون طروّ عنوانٍ ثانوي يمكن أن يقال بالتحريم لأجل ما أشرنا إليه ، اللهم إلا أن يستظهر البعض من النصّ الاطلاق ، يعني مثل:- ( إذا جاهر الفاسق بفسقه فلا حرمة له ) ، فإذا استظهر شخص من هذا الاطلاق فلا بأس بذلك ثم يقول إنَّ ( ولا غيبة ) هو تفريعٌ وبيانٌ لبعض الأفراد فإذا استظهر هكذا فمن حقه أن يتمسّك بإطلاق ( لا حرمة ) ويجوّز حينئذٍ هجاؤه.

هذا كله بالنسبة إلى المؤمن بأقسامه التي أشرنا إليها.


[5] المصباح المنير، الفيومي، ج2، ص635.