38/05/28


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

38/05/28

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: مسألة ( 32 ) حكم الرشوة – المكاسب المحرمة.

وأما بالنسبة إلى المطلب الثاني أعني الحرمة التكليفية في القسمين الأوّلين:- فقد استدل الشيخ الأعظم(قده) لذلك برواية الغلول ، وكانت هناك روايتان في هذا المجال ، إحداهما رواية الأصبغ بن بناتة التي ورد فيها ( وإن أخذ هدية كان غلولاً ) ، والرواية الثانية التي وردت فيها كلمة غلول ، وهي ما رواه الشيخ الطوسي(قده) في أماليه حيث ورد فيها ( هدية الأمراء غلول ) فيقال إنه إذا فرض أنَّ الهدية إلى الأمير كانت غلولاً من دون اشتراط ارتكاب المحرّم فكيف إذا فرض أنَّ دفع الأجرة بشرط ارتكاب المحرّم أو الجامع الأعم فإنَّ هذا يكون حراماً بالأولى ويكون غلولاً ، هذا ما ذكره الشيخ الأعظم(قده) في المكاسب ونقلناه سبقاً.

وفيه:- إنه لابدّ من حذف رواية الأمالي من الحساب لما أشرنا إليه سابقاً من انَّ تعبير ( هدية الأمراء غلول ) كما يلتئم مع دفع الهدية للأمير الذي هو محلّ كلامنا كذلك يلتئم مع دفع الأمير الهدية للناس العاديين ، يعني قلنا إنَّ الاضافة كما يحتمل أنها من باب الإضافة إلى المفعول والذي هو ينفعنا يحتمل أن تكون الاضافة من باب الاضافة إلى الفاعل وهذا لا ينفعنا ، فلذلك هذه الرواية مجملة ولا تنفعنا شيئاً فنطرحها من الحساب ، فلا توجد عندنا روايتان بل توجد رواية واحدة ، فنبقى نحن ورواية الأصبغ فإنَّ الوارد فيها ( فإن أخذ هدية ) والمعنى هنا متعيّن ولا يوجد فيه احتمالان لأنه قال ( فإن أخذ هدية ) وهذا هو محلّ كلامنا.

أما بالنسبة إلى وراية الأصبغ فلو غضضنا النظر عن سندها حيث كان يشتمل على بعض المجاهيل ، وغضضنا النظر أيضاً عن كلمة ( غلول ) حيث ربما يناقش ويقال إنها عبارة عن الخيانة والخيانة أعمّ من التحريم عرفاً - وهذ ما قد أشرنا إليه سابقاً – ، فمع غضّ النظر عن السند وعن التشكيك في دلالة لفظ ( غلول ) على التحريم يمكن أن نقول إنَّ هذه الرواية واردة في الأمراء يعني إن دفع الهدية إلى الأمير فهو حرام ، وهذا لا يستلزم حرمة دفع الهدية إلى الانسان العادي لارتكاب الحرام ، وذلك لأنَّ الامير بما هو أمير يلزم أن لا يتعوّد على أخذ الهدايا فإنَّ هذه المكانة مكانة عالية لا تليق بأن يأخذ الهدايا وإذا أخذها فربما يؤثر في قلبه شيئاً فيحيف على الناس ، فالأمير له خصوصية ولا يلزم من ذلك أن يكون دفع الهدية إلى غير الأمير حراماً.

وإذا قلت:- كيف لا يكون دفع الهدية إلى غير الأمير مع اشتراط الحرام حراماً ؟

قلت:- هذا ليس تمسّكاً بمسألة الأولوية وإنما هذا شعور من خلال الحسّ المتشرّعي الوجداني بأنَّ هذا الشيء حرام في حدّ نفسه بقطع النظر عن هذه الرواية ، وهذا ما سوف نستدل به إن شاء الله تعالى.

إذن يصعب أن نستفيد من هذه الرواية في مقامنا وهو دفع الأجرة إلى الغير لارتكاب الحرام أو لارتكاب الجامع الأعم بين الحرام وغير الحرام ، فمن هذه الرواية بضمّ الأولوية يصعب استفادة ذلك منها.

والأولى أن يتمسّك لإثبات الحرمة بأن يقال:- إنَّ دفع الأجرة لارتكاب الحرام أو لارتكاب الأعم من الحرام وغيره هو نحو دفعٍ وتشجيعٍ إلى ارتكاب الحرام ، وهذا ينبغي أن تكون حرمته واضحة لا من باب أنه إعانة ، كلا فإنَّ الاعانة على الحرام شيء والدفع نحو الحرام شيء آخر ، فبيع السكّين لمن يعلم أنه سوف يستعين بها على الحرام هو إعانة رغم أنه لا يقول له اذهب واقتل بها بل لعلّه يحذّره من هذا ولكن مع ذلك تصدق الاعانة ، ومحلّ كلامنا ليس في الاعانة وإنما التشجيع بمعنى أن يدفع له السكّين ويقول له اذهب واقتل ، فمحل كلامنا هو هذا وهو أن يدفع له أجرة ويقول له اذهب واصنع حراماً ، فهذا في الحقيقة دفعٌ نحو الحرام وتشجيع عليه وهذا ينبغي أن يكون محرّماً ، وإما أن نستدل على حرمته بالارتكاز المتشرعي فنقول إنَّ هناك ارتكاز متشرعي واضح وهو أنَّ مثل هذا الفعل محرّم ، فالمتشرعة حتى الكبير والصغير لديه هذا الارتكاز ، ولا تقل: إنَّ هذا الارتكاز جاء من قبل فتاوى الفقهاء ، فنقول: كلا بل نحن نذهب إلى نفس الفقهاء ونقول إنَّ هؤلاء يوجد عندهم هذا الارتكاز فنسأل من أين نشأ هذا الارتكاز بعد الالتفات إلى أنَّ المعلول لا يتحقّق من دون علّة ؟ فإذن لابد له من منشأ ، وليس المنشأ إلا الوصول من معدن العصمة والطهارة يداً بيد ، وقد قلنا إنَّ الأشياء الواضحة لا تنتقل بالألفاظ وإنما تنتقل عملاً ، فإذن هذا ارتكاز تلقيناه يداً بيد ، وكل ارتكاز متشرعي نستدل على حجيته بهذا ، ولا تقل:- لابد من وجود رواية وإلا كيف حصل هذا الارتكاز ، فنقول:- إنَّ وضوح الأشياء الواضحة لا تُبيَّن بالألفاظ إنما نحتاج إلى الألفاظ في الأشياء غير الواضحة.

أو نستدل على ذلك بأدلة النهي عن المنكر:- فإنَّ تلك الأدلة تدل على أنَّ المنكر لابد من النهي عنه ، فإذن ذلك واجب وهذا يدلّ بالالتزام العرفي بأنك لا تدفعه إلى الحرام وإلا يحصل تهافت بين أنه يجب عليك أن تنهاه عن المنكر وبين أن تشجعه على المنكر ، فيوجد تهافت عرفي واضح ، فنفس أدلة النهي عن المنكر تدلّ بالدلالة الالتزامية العرفية – ولم أقل العقلية - على حرمة الحثّ العملي على ارتكاب الحرام.

أو نستدل بنفس أدلة المحرّمات:- فإنَّ الأدلة التي تنهى عن المحرّمات تقول لا يجوز القتل ولا يجوز شرب الخمر وغير ذلك فنفس هذه الأدلة فيها دلالة التزامية عرفية على أنك لا تدفع الآخرين نحو ارتكاب هذا المحرّم ، ولذلك نشعر بالتنافي بين أن نقول للشخص لا تسرق وبين أن نقول لأهله واصدقائه ادفعوه إلى السرقة فإنهم سوف ينكرون علينا ذلك فيرون تنافياً بين تحريم السرقة وبين جواز الدفع نحوها ، فنفس دليل الحرمة يدل بالدلالة الالتزامية العرفية على عدم الجواز.

هذه ثلاث صياغات لإثبات حرمة التشجيع على الحرام.

والنتيجة:- هي أنَّ الحرمة التكليفية في القسمين الأولين - أعني دفع الأجرة على الحرام أو دفع الأجرة على ارتكاب الأعمّ من الحرام والمباح - يمكن اثباتها بما أشرنا إليه لا بما أشار إليه الشيخ الأعظم(قده).

القسم الثالث:- وهو دفع الأجرة على المباح ، فهل هذا جائز أو لا ؟

الجواب:- فصّل الشيخ الأعظم(قده) بين أن يكون على المباح كما هو المفروض فهذا جائز ، وبين ما إذا كان على الحرام فهذا هو القسم الأوّل أو الثاني وقد قلنا هو حرام ، فإذن دفع الأجرة على المباح شيء جائز ولا شيء فيه .

وكيف ستدل عليه ؟

استدل الشيخ الأعظم(قده) بروايتين.

ولكن قبل أن نذكر الروايتين نقول:- إنه لا داعي إلى ذكر الروايات ، بل كان من المناسب للشيخ أن يقول إنه لا دليل على الحرمة وهو دليل العدم ، وحتى لو شكّكنا فالأصل هو البراءة ولا نحتاج إلى رواية ، ولكن لعلّ الشيخ الأعظم(قده) قبل أن يذكر الروايتين عنده عبارة يلمّح فيها إلى ما ذكرناه وإلا إذا لم يكن مقصوده هو هذا فهذه نقطة تسّجل عليه حيث قال:- ( وأما بذل المال على وجه الهدية الموجبة لقضاء الحاجة المباحة فلا حظر فيه كما يدل عليه ما ورد .... )[1] ، فهو لم يقل ( فلا حظر فيه لما ورد ) فإنه إذا قال هكذا فقد حصر المستند بالروايتين ، أما حينما قال ( كما يدلّ عليه .. ) فيكون مقصوده أنه مباح جزماً كما يستفاد ذلك أيضا من الروايتين.

أما الروايتان فهما:-

الأولى:- صحيحة محمد بن مسلم ، وهي رواه الشيخ الطوسي(قده) بإسناده عن محمد بن مسلم:- ( سألت أبا عبد الله علي السلام عن الرجل يرشي الرجل الرشوة على أن يتحوّل من منزله فيسكنه ، قال:- لا بأس به )[2] .

وقبل بيان وجه الشاهد نقول:- إنه حصل تسامح في الكلام حيث قال ( يرشو رشوة ) فإنَّ هذا التعبير مسامحي فإنَّ الرشوة عندنا هي للباطل ولكن هذا التعبير قد يوحي بأنها للأعم وهو كلّ شيء يدفع ازاء شيءٍ آخر ولو كان مباحاً ، فمقصوده أنه يدفع مالاً على أن يتحوّل من منزله فيسكنه ، ومعنى الرواية لا أنه يوجد عنده بيت والآخر يعطيه مالاً لكي يخرج عنه فيسكن فيه فإنَّ هذا ليس له معنى ، وإنما هناك مكانٌ مباح يسكنه شخص والآخر يعطيه مالاً حتى يخليه له ليسكنه مكانه كالبيوت في المجمّعات السكنية أو المدارس أو غيرهما.

فإذن لابد أن نحمل الرواية على هذا لا لتوقّف الاستدلال على ذلك ، بل لأجل أنَّ واقع حال الرواية هو هكذا ، وقد بيّن صاحب الوسائل(قده) هذا المعنى حيث قال:- ( الظاهر أنَّ المراد المنزل المشترك بين المسلمين كالأرض المفتوحة أو الموقوفة على قبيل هما منه ) ، وكذلك الشيخ الأنصاري(قده) أيضاً علّق بنفس هذا التعليق[3] .

ووجه الاستدلال بالرواية:- هو أنه قال له ( أنا أعطيك كذا مقداراً من المال حتى تتحوّل عن هذا المكان لكي أسكن فيه أنا ) وهذا اعطاءٌ على مباح والامام عليه السلام قال لا بأس به ، فإذن يجوز ذلك.

وقبل أن ننتقل إلى الرواية الثانية نقول:- هل مقصودنا هو أننا نريد أن نبيّن فقط أن الأجرة على الحلال حلالٌ ، أو أننا نريد أن نبيّن التفصيل يعني نريد أن نفصّل بين ما إذا فرض أنَّ الأجرة على الحلال حلال وعلى غيره حرام ؟

ليس من البعيد أننا نريد أن نبيّن أنَّ الأجرة على الحلال حلال وإلا على الحرام فهو يدخل في القسم الأوّل أو القسم الثاني ، فالمقصود هنا هو الأجرة على الحلال فقط ، فإذن الرواية أيضاً دلّت على الجواز ، فلا مشكلة في ذلك ، فصحيحٌ أنها لم تدل على التفصيل ولكن هدفنا هو اثبات جواز دفع الأجرة على الحلال أي على اسقاط الحق.