38/06/09


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

38/06/09

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- مسألة ( 32 ) حكم الرشوة – المكاسب المحرمة.

الصورة الثانية:- أن يدّعي الدافع أنَّ المال الذي دفعه إلى القاضي هو أجرة فاسدة ، يعني أعطاه إيّاه مقابل أن يحكم له بالباطل ، فالدافع يقول إنَّ ما دفعته كان أجرة فاسدة بينما القابض يقول إنه هبة صحيحة لازمة ، والشيخ لم يضف قيد ( لازمة ) لوضوح المطلب.

وفرق هذه الصورة عن سابقتها أنه في السابقة كان هناك اتفاق على نوع العقد وأنه هبة لكنّ الدافع يقول هي هبة لك أيها القاضي لكن الداعي الداخلي لي هو أن يلين قلبك فتحكم في صالحي ، فالهبة هي للقاضي ولكنّ الداعي هو أن يلين قلبه ، بينما القابض يقول أنت دفعتها لي قربة إلى الله تعالى فهي لازمة ، فهما قد اتفقا على أنه عقد هبة ، أما هنا فالدافع يقول هي إجارة ، بينما القابض يقول هي هبة فاسدة فهذا الأمر لابد من الالتفات إليه.

وما هو الحكم ؟

ذكر الشيخ الأعظم(قده):- إنه يمكن أن يقال يقدّم قول مدّعي الصحّة لأصالة الصحّة وهو القابض أي الحاكم.

ثم تراجع وقال:- هنا لا يوجد عقد واحد مشترك يتفق عليه الطرفان أحدهما يقول هو صحيح والآخر يقول هو فاسد حتى يقدّم قول مدّعي صحة ذلك العقد مقابل مدّعي فساده ، بل يمكن أن يقال يقدّم قول الدافع باعتبار أنه ينكر أصل العقد الذي يدّعيه القابض ، فهو يدّعي أنه لا توجد هبة أصلاً ونحن نشك هل توجد هبة أو لا فالأصل عدم وجود الهبة ، فالدافع ينكر أصل الهبة لا أنه ينكر صحتها بعد التسليم بأصل الهبة حتى يقال بأن قول مدّعي الصحة هو المقدّم ، كلا بل الدافع يقول لم تقع الهبة أصلاً ، فهو ينكر أصل وقوع الهبة والأصل معه.

وهنا أضاف وقال:- ( وليس المورد مورد التداعي كما لا يخفى[1] )[2] ، لأنه يأتي إلى الذهن كما أنَّ هذا ينكر أصل الهبة فذاك ينكر أصل الاجارة ، فهو يقول المورد ليس من التداعي وهذا ما سنبينه فيما بعد.

وفي مقام التعليق نقول:- يرد عليه:-

أوّلاً:- إنه ذكر في ( يحتمل ) الثانية فإنه قال في يحتمل الأولى يقدّم قول القاضي لأنه يدّعي الصحّة ، ثم قال بعد ذلك كلا لأنه لا عقدٌ مشترك ، وحينما قال ( ويحتمل أنه لا يقدّم قول القاضي لأنه لا يوجد عقد مشترك ) فهنا الشيخ لم يبيّن وجه اعتبار العقد المشترك في جريان أصالة الصحة وهذه قضية تستحق أن تبيّن ، لا أن يقول ( ويحتمل أنه لا عقد مشترك ) من دون بيانٍ لذلك ، بل كان عليه أن يبيّن النكتة وهذه قضية كان من المناسب الاشارة إليها ، وهي قضية فنّية تسجّل عليه.

ويمكن أن يبيّن ذلك بأحد بيانين:-

البيان الأوّل:- التمسّك بفكرة القصور في المقتضي ، يعني نقول إنَّ مستند أصالة الصحّة هو إما السيرة العقلائية المتوارثة الممضاة بعدم الردع ، أو هو موثقة محمد بن مسلم:- ( كلُّما شككت فيه مما مضى فأمضه كما هو )[3] ، فإذا كان المستند هو السيرة فالسيرة دليل لبّي والقدر المتيقن منها هو أنَّ العقلاء يتمسّكون بأصالة الصحّة إذا كان بينهما عقد واحد متفقان عليه وأحدهما يقول هو صحيح والآخر يقول هو باطل ، كما لو وقع اختلاف بين الزوج والزوجة في أنَّ عقد النكاح الجاري بينهما صحيح أو فاسد فهي تقول أنا كنت مكرهة والزوج يقول هي راضية فهنا هما قد اتفقا على وجود عقد واحد ولكن اختلفا في صحته وفساده فهنا توجد سيرة عقلاء وسيرة متشرعة ، أما إذا فرض أنَّ أصل العقد كان مختلفاً فيه فهنا هل السيرة منعقدة ؟ نحن لا نعلم بذلك ، ولا نريد أن ننفيها جزماً بل يكفينا التشكيك ، فالقدر المتيقن هو حالة ما إذا كان العقد متّفق عليه وأنه العقد هو الفلاني.

وإذا كان المستند لأصالة الصحّة هو موثقة محمد بن مسلم فالموثقة تقول ( كلُّما شككت فيه ما قد مضى فأمضه كما هو ) يعني لابد من وجود شيءٍ معيّنٍ ثم بعد ذلك أنت تشك به والرواية تقول لك ( فأمضه كما هو ) يعني كما هو المقرّر شرعاً والمرسوم له شرعاً والمطلوب شرعاً ، أما إذا فرض أنَّ العقد مشكوك فـ( أمضه كما هو ) لا معنى له ، لأنَّ العقد ليس بثابتٍ ، فحينئذٍ إذا أردنا أن نأخذ بموثقة محمد بن مسلم فلا يبعد أن يقال إنه يستفاد منها حالة وجود عقدٍ واحد مسلّم ويشك في صحته وفساده.

البيان الثاني:- أن يقال: إنَّ أصالة الصحّة أقصى ما تقوله هو أنَّ المشكوك في صحته هو صحيح أما ما وراء كونه صحيح وأنه عقد هبة مثلاً فهذا لا تثبته ، ونحن بأصالة الصحّة نريد أن نثبت الآن أنه هبة صحيحة كما يقوله الحاكم ، لأنَّ الحاكم يدّعي أنه هبة صحيحة وأصالة الصحّة أقصى ما تقوله هي صحيحة أما أنه هبة فمن الذي قال ذلك فإنَّ أصالة الصحّة لا تثبته ، فالمقصود هو اثبات الهبة الصحيحة لا أصل الصحّة من دون أن يكون هبة فإنَّ هذا لن نستفيد منه شيئاً ، فعلى هذا الأساس حيث إن المطلوب اثباته هو أنَّ الواقع هو هبة صحيحة لا الصحّة فقط من دون أن يكون هبة وإلا فسوف لا ننتفع من ذلك ، لأنَّ الحاكم يقول هو هبة صحيحة لا الصحّة فقط من دون هبة ، فأصالة الصحة لا تنفعنا بشيء حينئذٍ ، فهي لا تنفعنا بشيء أكثر من الصحّة وأنه عقد هبة.

هذا هو تعليقنا الأوّل وهو تعليق فنّي.

ثانياً:- إنه(قده) احتمل بعد ذلك أنَّ القول قول الدافع لأنه ينكر أصل الهبة لا صحتها فيكون القول قوله.

ونحن نقول له:- إن هذا يحتاج إلى توجيه.

وتوجيهه قد يكون هكذا:- إنَّ الأثر إنما يترتّب على وجود عقد صحيح ، يعني النقل والانتقال يترتب على وجود عقد صحيح ، ونحن نشك في تحقق أصل العقد الصحيح والأصل حينئذٍ عدمه ، ولا يعارض ذلك بأصالة عدم تحقق الاجارة الفاسدة ، فإنَّ الأثر - أي النقل والانتقال - لا يترتب على وجود السبب الفاسد وعدم وجوده ، وإنما يترتب على وجود السبب الصحيح وعدم وجوده - العقد الصحيح وعدم وجوده - ، فالذي يجري هو أصالة عدم العقد الصحيح ، يعني عدم الهبة الصحيحة ، يعني أصل عقد الهبة الأصل عدمه ، فينتفي بذلك الأثر وهو النقل والانتقال ، والحق حينئذٍ مع الشيخ الأنصاري(قده) ، هكذا قد يوجّه ما أفاده في ( يحتمل ) الثانية.

ونحن نقول:- إنَّ الأثر لا ينحصر بالنقل والانتقال حتى يقال إنه يمكن أن نثبت عدم الانتقال بأصالة عدم السبب الصحيح يعني أصالة عدم الهبة الصحيحة من دون معارض ، بل هناك أثر آخر لابد من اثباته وهو الضمان على تقدير التلف ، فلو لم تكن اللعين تالفة فالأصل عدم انتقالها ونرجعها إلى الدافع ، وأما إذا كانت تالفة كما لو قبضها القاضي وأتلفها فحينئذٍ نشك في الضمان والضمان كما قلنا يحتاج إلى مقتضي وعدم مانع ، والمقتضي هو اليد ، وعدم المانع نقصد به عدم الهبة الصحيحة ، لأنَّ الهبة الصحيحة بمثابة المانع من تأثير المقتضي ، فنحتاج إلى مقتضٍ وعدم مانع ، والمقتضي كما قلنا ليس هو مطلق اليد بل هو اليد على مال الغير ، ولا يمكن اثبات ذلك كما أوضحنا فيما سبق لاحتمال أنَّ المال مال القاضي وبأصالة عدم تحقق الهبة الصحيحة أو بأصالة بقاء المال على ملك صاحبه الدافع لا يمكن اثبات أنَّ اليد هي يدٌ على مال الغير فإننا لا نجزم بأنَّ المقتضي قد أخذ بنحو التركيب من جزأين بل يحتمل أنه بنحو التقييد ، وفكرة ضمّ الوجدان إلى الأصل إنما تجدي في حالة التركيب وهنا كما قلنا لا نحرز التركيب ، لأنَّ مستند على اليد - أي مستند الضمان - هو السيرة وهي ليست دليلاً لفظياً حتى نتعامل مع ذلك الدليل اللفظي ، ونحتمل أنَّ الموضوع للضمان عند العقلاء هي اليد على مال الغير بنحو الوحدة لا بنحو التركيب ، فعلى هذا الأساس المقتضي للضمان ليس بثابتٍ ، والمناسب آنذاك أنه لا يمكن اثبات الضمان بهذه الطريقة ونرجع إلى الأصول في المرحلة الثانية ، فإذا كان المال موجوداً فأصالة عدم انتقاله تجري ويكون هذا في صالح الدافع ، وهذا قد قبلناه ونوافق عليه الشيخ الأعظم(قده) ، أما إذا كان تالفاً وشككنا في الضمان فالأصل عدم الضمان آنذاك وبالتالي لا يمكن أن نثبت الضمان.

إذن ما أفاده الشيخ الأعظم(قده) من انه يحتمل القول قول الدافع لأصالة عدم تحقق أصل عقد الهبة يتم لو كانت العين موجودة وشككنا في انتقالها إلى القاضي ، أما إذا كانت تالفة فلا يتم هذا الكلام ، إذ بالتالي نشك في الضمان وعدمه والأصل عدم الضمان ، ولا يمكن اثبات الضمان بالطريقة التي أشرنا إليها من ضمّ اليد إلى أصالة عدم تحقق الهبة الصحيحة لما أشرنا إليه.


[1] وهنا قد اختلفت النسخ فيقال إنَّ هذه العبارة كان مشطوباً عليها في بعض النسخ.