17-12-1434


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

34/12/17

بسم الله الرحمن الرحیم

 الموضـوع:- الحلق والتقصير / حج التمتع / مناسك الحج للسيد الخوئي(قد).
 النقطة الثانية:- وهي في اثبات اعتبار قصد القربة في الحلق والتقصير :- المعروف بين الفقهاء بل لعله لم ينقل خلاف في ذلك هو اعتبار قصد القربة في الحلق التقصير ، ولكن ما هو التخريج الفني لذلك ؟
 قد يُخرّج ذلك:- بأن الحلق أو التقصير عبادة ولازم العباديّة اعتبار قصد القربة.
 والجواب:- وهذا كما ترى مصادرة - يعني جعل الدليل عين المدعى والمدعى يجعل دلياً - لأن اعتبار قصد القربة هو عبارة عن العباديّة والعبادية هي عبارة عن قصد القربة فتعليل قصد القربة بالعباديّة دورٌ واضح ومصادرة.
 وقد يستدل لذلك:- بأن الحلق أو التقصير هما جزء من الحج والحج كما نعرف عبادة باعتبار أنه مما بني عليه الاسلام وما يبنى عليه الاسلام لا يحتمل أن يكون شيئاً توصليّاً لا يعتبر فيه قصد القربة ، ولعل السيد الخوئي(قده) في كلماته المتفرقة يعتمد على هذا الوجه وقد ذكره في أكثر من موضع.
 ويمكن الجواب عن ذلك:- بأن هذا فرع كون الحلق أو التقصير جزءاً من الحج والحال يمكن أن يقال هو واجبٌ فائدته المخرجيّة أي أنه يخرج المكلف المحرم عن الإحرام فهو واجب لهذا الهدف وليس جزءاً نظير التسليم في باب الصلاة فإنه قد يقال بأنه مُخرِج من الصلاة وليس جزءاً منها ، نعم هو واجب ولكنّه ليس جزءاً منها ، وعلى هذا الأساس أنه ليس من الأمور الواضحة أن الحلق أو التقصير جزء من الحج بل لعله واجبٌ شُرّع لأجل الخروج به من الحجّ من دون أن يكون جزءاً . هذا من حيث الصغرى.
 وأما من حيث الكبرى فيمكن أن يقال:- سلمنا أن الحج واجبٌ عباديّ ولكن من قال إنه يلزم أن يكون عباديّاً بكامل أجزائه بل لعلّ العباديّة ثابتة لشواخصه المهمّة من قبيل الوقوف في عرفات والوقوف في المشعر وما شاكل ذلك أما أن يكون كلّ جزء من أجزائه كذلك فهذا أوّل الكلام.
 وقد يتمسك لذلك بما كنا نتمسك به في مواضع متعدّدة:- أعني الارتكاز المتوارث ، فقد كنا نثبت عباديّة الوضوء والصلاة والحج والصوم وهذه العبادات المعروفة في الاسلام بواسطة الارتكاز المتوارث بمعنى أن المرتكز في أذهان المسلمين في زماننا بما فيهم الفقهاء وليس فقط المقلّدة من عوام الناس حتى تقول إن ذلك نشأ من الفتاوى كلا بل نفس الفقهاء المرتكز في أذهانهم أن الوضوء يلزم فيه قصد القربة وهكذا الصلاة وغيرها فهذا ثابتٌ في أذهان الفقهاء في كلّ جيلٍ وليس شيئاً حديثاً لم يكن ثبتاً فيما سبق فهذا الارتكاز الآن يكشف عن ارتكازٍ سابقٍ وذاك الارتكاز يكشف عن ارتكازٍ أسبق حتى نصل الى عصر المعصوم عليه السلام فيثبت أن هناك ارتكازاً في ذهن أصحاب الأئمة عليهم السلام ، ومن أين حصل لهم هذا الارتكاز ؟ إنه لا يمكن أن يحصل اعتباطاً وعبثاً فإن تحقّق المعلول من دون العلة شيءٌ مستحيلٌ فلابد وأنهم تلقّوا ذلك من المعصوم عليه السلام يعني أنهم قد تلقّوا أجواءً واضحةً ومشبّعةً في هذا المعنى والشيء الواضح لا يحتاج الى رواية مكتوبة وإنما الذي يحتاج الى رواية مكتوبة هو الشيء غير الواضح ، وعلى هذا الأساس يكشف هذا الارتكاز المتوارث عن تلقّي ذلك من الأئمة عليهم السلام ، هكذا كنّا نثبت عباديّة الوضوء والصلاة وما شاكل ذلك ، وهذا الطريق قد يحاول تطبيقه في المقام أيضاً وهو شيءٌ وجيهٌ ولكن بشرط أن تتم الصغرى وأعني بها أن هناك ارتكازاً في أذهان المتشرّعة على أن الحلق والتقصير يعتبر فيه قصد القربة فإذا ثبت هذا الارتكاز في أذهان المتشرّعة بما فيهم الفقهاء فهذا شيءٌ جيدٌ ، ولكنّه قد يشكّك من هذه الناحية وأن هذه الارتكاز ليس من الأمور الواضحة ، نعم هو واضحٌ في باب الصلاة والصوم ولكن في باب الحلق والتقصير فهو أوّل الكلام ، نعم من يرى أن هذا الارتكاز ثابتٌ بشكلٍ واضح في أذهان المتشرّعة فهو شيءٌ جيدٌ أما إذا أشكّكنا في ذلك فيشكل حينئذ التمسك بهذا البيان من ناحية التشكيك في الصغرى ، وعلى هذا الأساس يكون الجزم بالفتوى بلزوم قصد القربة في الحلق والتقصير الفتوى شيء مشكل ، نعم المصير الى ذلك بنحو الاحتياط الوجوبي شيءٌ وجيه . هذا من ناحية اعتبار قد القربة.
 ولكن الفت النظر الى قضيتين في هذا المجال تتمة الى قصد القربة:-
 القضية الأولى:- إنه حتى لو اعتبرنا قصد القربة ولكن لا يلزم حين الاتيان بالتقصير أو الحلق أن يقصد المكلف ذلك بل يكفيه ذلك القصد الموجود حالة الإحرام فهو حينما أحرم في اليوم الثامن أو التاسع للحج فإنه يقصد الاتيان بجميع أفعال الحج عند إحرامه بداعي القربة وهذا المقدار يكفي ولا يلزم أن يقصد القربة آنذاك في كل جزءٍ جزء بخصوصه كما هو الحال في باب الصلاة فإنه مادام المكلف قد قصد حين تكبيرة الإحرام الإتيان بكامل أجزاء الصلاة بقصد القربة فلا يحتاج آنذاك في الكوع والسجود أن يقصد القربة ولم ينبهوا على ذلك فما عدى مما بدى - يعني لماذا عندما وصلوا الى باب الحج صاروا يذكرون أنه يعتبر قصد القربة في كل جزءٍ جزء - بل القصد كافياً والدليل على اعتبار قصد القربة هو لا يقتضي أكثر من ذلك سواء بُني على الوجه الأوّل أو بُني على الوجه الثاني أو بني على الوجه الثالث - وهو الارتكاز المتوارث - إن هذه لا تتطلب قصد القربة بنحو تفصيليّ حين الإتيان بكلّ جزءٍ - يعني حين الإتيان بالحلق أو التقصير - بل يكفي ثبوته مما سبق ، فعلى هذا الأساس كان من المناسب للفقهاء الاكتفاء بأنه حالة الإحرام يلزم على المكلف أن يقصد الإتيان بجميع الأعمال قربة الى الله تعالى فهذا المقدار يكتفى به وأما قصد القربة في كلّ جزءٍ فهذا متوارث للوسوسة.
 القضيّة الثانية:- هي أن قصد القربة ماذا يراد منه ؟ إنه يراد منه كون الداعي والمحرّك لابد وأن يكون هو أمر الله عز وجل ، ومعلومٌ أن كلّ حاج حينما يأتي للحج يكون المحرّك له هو ذلك بلا داعٍ آنذاك الى التركيز على اعتبار ذلك وأنه يعتبر أن يقصد القربة فإنه ملازم دائميّ فنحن حينما ذهبنا الى عرفات أو أمسكنا المقصّ فماذا نريد أن نفعل ؟ أليس أننا نريد أن نمتثل أمر الله عز وجل ؟! إذن لا حاجة الى التركيز على أنه يعتبر قصد القربة ولكنّ هذا من ناحيةٍ ثانية لا من ناحية الاكتفاء به من البداية كلّا بل حتى لو فرض أنا اعتبرنا الإتيان بقصد القربة في كلّ جزءٍ فلا حاجة الى هذا التنبيه بل قصد القربة بمعنى الداعي هو لازمٌ قهريّ يصاحب المكلف بلا داعٍ الى التنبيه إليه . نعم ربما بعض الحجيج حينما يصل الى مكّة ويقال له تعال احلق رأسك قد يتوقّف ويصعب عليه ذلك ولكنّه يحلق خجلاً فمثل هذا قد يحلق بداعي الخجل أو بداعٍ آخر ولكن لا نحتاج حينئذٍ الى التنبيه لقصد القربة بنحو التخصيص والتنصيص بل يمكن صياغة العبارة بشكلٍ أخف حتى لا تحصل وسوسة فيقال هكذا:- ( إن الداعي الموجود من البداية يكفي لتحقق القربة إلا إذا طرأ ما يرفعه كداعي الخجل من الناس أو الرياء أو ما شاكل ذلك ) لا أنه ينبّه ابتداءً على اعتبار قصد القربة بل يقال هو حاصلٌ ولكن يقال إن ذاك الحاصل يكفي إلّا إذا ارتفع كما في باب الصلاة فما هو موجودٌ كافٍ إلا إذا ارتفع في الأثناء ، وعلى أي حال هذه قضيّة فنيّة.
 النقطة الثالثة:- يعتبر الترتيب بين أفعال منى يعني أولاً رمي جمرة العقبة ثم ثانياً الذبح ثم ثالثاً الحلق أو التقصير.
 وهذا قد جاء ذلك متأخراً في عبارة المتن ونحن قدّمناه للحاجة إليه في إثبات بعض المطالب.
 والكلام في اعتبار الترتيب يقع في أبحاث أربعة:-
 البحث الأول:- إن الأصل الأوّلي ماذا يقتضي ؟ فهل يقتضي اعتبار الترتيب بين هذه الثلاثة أو لا يقتضي ذلك - أي نحن والأصل بقطع النظر عن نصٍّ خاص - ؟ وهذا بحث علميٌّ نافعٌ لا بأس به.
 البحث الثاني:- هل أن الترتيب واجب تكليفاً أو لا ؟
 البحث الثالث:- إن من خالف الترتيب إما عن عمدٍ أو جهلٍ أو نسيانٍ فهل يبطل بذلك ما أتى به ؟
 البحث الرابع:- هل يكفي شراء الهدي لفعل التقصير أو الحلق أو أنه لابد من الذبح ولا يكفي مجرد الشراء لفعل الحلق أو التقصير ؟
 أما البحث الأول:- فالجواب:- تارةً يقع الكلام في لزوم الترتيب تكليفاً - يعني أنه واجب تكليفا بحيث إذا لم يرتب المكلف هذه الأفعال يعاقب فنشك في الوجوب التكليفي - وأخرى نشك في الوجوب الوضعي بمعنى أنه لو خالف الترتيب فهل يصحّ العمل أو لا ؟ فنريد أن نلاحظ الأصل ماذا يقتضي ؟
 أما بالنسبة الى مقتضى الأصل لو شك في الوجوب التكليفي:- فهو البراءة كما هو واضح ككلّ واجبٍ إذا شكّ فيه فإنه يرتفع بحديث البراءة فنقول في المقام إن الذمّة قد اشتغلت بالحج جزماً واشتغلت برمي جمرة العقبة في اليوم العاشر وبالذبح والحلق جزماً أما أنها اشتغلت بالحج المقيّد بترتيب أفعال منى - يعني بأن يكون رمي جمرة العقبة أولاً ثم الذبح ثانياً - فهذا شيءٌ يشكّ باشتغال الذمة به فيجري أصل البراءة كما هو الحال في سائر الموارد التي يشك فيها باعتبار جزءٍ أو شرطٍ كما لو شككنا في الصلاة وأنه هل السورة واحبة أو لا فنجري أصل البراءة فنقول إن الذمة مشغولة بالصلاة في الجملة جزماً وأما اشتغالها بالصلاة المقيّدة بالسورة أو بالطمأنينة فيشك في ذلك فيرفع بأصل البراءة . وذكرنا مراراً إنه قد يقال لماذا لا نطبّق قاعدة الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقين ؟ والجواب ما أشرنا إليه من أن تطبيق هذه القاعدة فرع الاشتغال اليقيني ونحن اشتغالنا اليقيني هو بالصلاة في الجملة أما الصلاة المقيّدة بالسورة فليس عندي اشتغال يقيني بها ، إذن ما اشتغلت به ذمتي يقيناً قد أتيت به يقيناً والذي لم أأت به - وهو الصلاة مع السورة - لم أتيقن باشتغال الذمة به ، فإذن لا مجال لتطبيق قاعدة الاشتغال اليقيني بل نحن نذهب قبل مرحلة الامتثال الى مرحلة شغل الذمة فمرحلة الامتثال فرع شغل الذمة فنقول في تلك المرحلة إن شغل الذمة الذي هو ثابتٌ هو الصلاة في الجملة وهذا قد فرّغنا الذمة منه يقيناً وما زاد نشكّ في أصل الاشتغال به فنجري البراءة فلا مجال لتطبيق قاعدة الاشتغال اليقيني فالتفت الى ذلك.
 وأما من حيث الحكم الوضعي بمعنى الصحة والبطلان فيمكن أن يقال:- إن المناسب هو الاشتغال بمعنى أنه لو خالفت الترتيب أما عمداً أو جهلاً أو سهواً - وكلامنا هنا هو على مقتضى الأصل بقطع النظر عن الدليل الخاص - فسوف أشكّ في صحّة الأعمال اللاحقة ، يعني إذا خالفت الترتيب فأتيت بالحلق قبل الذبح مثلاً أو قبل الرمي فهنا أشكّ هل يتحقّق الإحلال ويجوز لي أن ألبس المخيط أو أمارس بقيّة الأمور المحرّمة على المحرم أو لا ؟ إنه يوجد شك في ذلك والاستصحاب يقتضي بقاء ذلك فسابقاً كان يحرم عليَّ محرمات الإحرام من النظر الى المرآة أو الطيب أو ما شكال ذلك فلو حلقت وكان الحلق مقدّماً على غيره فسوف أشك في أن هذه المحرّمات هل ترتفع حرمتها أو لا والمفروض أن حرمتها كانت ثابتة سابقاً فنستصحب بقاء الحرمة السابقة لهذه الأمور وبذلك تكون النتيجة عملاً لأجل أن يتحقق الإحلال وترتفع هذه المحرمات هي اعتبار الترتيب وشرطيته والمدرك في ذلك هو الاستصحاب.
 واستدرك لأقول:- هذا الكلام يتم بناءً على جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة - أي في باب الأحكام الكليّة - أما إذا رفضنا ذلك كما هو مبنى السيد الخوئي(قده) فهذا الاستصحاب لا يكون قابلاً للجريان لأنه معارض على رأيه بأصالة عدم الجعل الزائد حيث يشك أن المولى هل جعل حرمةً لهذه الأمور من الطيب والنظر في المرآة وما شاكل ذلك فيما إذا تحقّق الحلق على خلاف الترتيب ؟ إنه شكّ في أصل الجعل فننفيه فيكون معارضاً لاستصحاب بقاء الحرمة الفعليّة . إذن على رأي السيد الخوئي(قده) لا يتم هذا الكلام بل المناسب على رأيه حيث أن هذا لا يجري هو البراءة ، اللهم إلا أن يقال إن دليل البراءة منصرفٌ الى حالة الشك في ثبوت التكليف ابتداءً بأن أشك في أن هذا الشيء هل حدث التكليف به أو لم يحدث كالتدخين فأشك في أنه هل اشتغلت الذمة بالحرمة - أي بتركه - أو لا ؟ فهنا يجري أصل البراءة أما إذا شك في ارتفاع الحرمة وليس في أصل حدوثها فحديث البراءة من قبيل ( رفع عن أمتي مالا يعلمون ) منصرف عن مثل ذلك والعقل يحكم بالاشتغال في مثل ذلك ، وإذا فرض أنا قبلنا بهذا الانصراف فالمناسب آنذاك التمسك بالاشتغال العقلي . إذن المسألة من هذه الناحية ترتبط بالمباني.
 وسوف تصير النتيجة:- هي أنه بناءً على جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة يكون المناسب هو بقاء حرمة محرّمات الإحرام إذا تحقّق الحلق أو التقصير على خلاف الترتيب ، أما إذا أنكرنا ورفضنا جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة كما هو مبنى السيد الخوئي(قده) فالمناسب هو البراءة إلا أن يدّعى انصراف دليل البراءة الى حالة الشك في الحدوث ابتداءً ولا يعمّ حالة الشك في البقاء فحينئذ قد يصار الى الاحتياط العقلي وأن العقل يحكم في مثل هذه الحالة بالاشتغال دون البراءة . إذن المسألة مرتبطة بالمباني وانشاء الله تعالى لا تصل النوبة الى الأصل بل عندنا أدلّة سوف تأتي الإشارة إليها.