39/05/19


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

39/05/19

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- حرمة الاحتكار ، مسألة ( 46 ) - المكاسب المحرّمة.

وهذه الرواية هي أمرٌ من النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالاخراج وعدم الحبس للمتاع وهل يمكن أن نستفيد منها حرمة الاحتكار بشكلٍ مطلق وأوسع من تينك الحالتين أو لا ؟

يمكن أن يقال:- إنَّ هذه قضية وفي واقعة ، يعني أنَّ الامام عليه السلام ينقل قضية قد وقعت في زمن النبي صلى الله عليه وآله أما أنه في تلك الفترة التي منع فيها هذا الشخص كان هذا المنع بأيّ مستوىً ؟ فلعلّه كان بالنحو الذي هو في الحالتين السابقتين - يعني يلزم تضرر المسلمين ضرراً بليغاً - فإنه يحتمل هذا ، فإن الامام عليه السلام ينقل ما حصل ، فعلى هذا الأساس لا يمكن أن نستفيد من هذه الرواية الحرمة أزيد من مساحة الحالتين السابقتين.

نعم لو كان الخطاب بنحو القضية الحقيقية وليس في واقعة ، يعني بأن كان النبي صلى الله عليه وآله يقول ( أيها المسلمون لا يجوز حبس الطعام واحتكاره ) ، فهذا مطلق وهذه قضية وردت ابتدائية وليست في واقعة فحينئذٍ يمكن التمسّك بإطلاقها ، أما بعد أن فرض أنَّ الامام عليه السلام يحكي ما حصل في زمان النبي فإنه توجد حالة قد حصلت أما أنَّ تلك الحالة كيف كانت فهو لم يبيّن ذلك ولعله من قبيل ما أشرنا إليه في الحالتين السابقتين ، فإذن لا يمكن أن نستفيد الحرمة في دائرة أوسع من الحالتين السابقتين ، وهذا هو شأن النقل في باب القضية في واقعة.

وهذا فارق بين أن تكون القضية حقيقية ابتدائية وبين أن ينقل الامام عليه السلام قضية حصلت في واقعة ، ففي الثاني لا يمكن أن نستفيد الاطلاق ، بخلافه في الأوّل ، وحيث إنَّ موردنا من الثاني فلا يمكن أن نستفيد الاطلاق.

الرواية الثانية:- محمد بن يعقوب عن علي بن أبراهيم عن أبيه عن أبن أبي عمير عن حمّاد عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام:- ( الحكرة أن يشتري طعاماً ليس في المصر غيره فيحتكره فإن كان في المصر طعام أو يباع غيره [ أو متاع غيره ][1] فلا بأس بأن يلتمس بسلعته الفضل )[2] ، وقد نقلها الشيخ الصدوق(قده) في الفقيه إلى هنا ، وهذا المقدار نقله الشيخ الكليني(قده) أيضاً ولكن مع اضافة وهي ليست مهمة وهي ( قال وسألته عن الزيت فقال: إن كان عند غيرك فلا بأس بإمساكه )[3] ، وقد بيّن صاحب الوسائل(قده) أنَّ هذا المقدار نقله الشيخ في الفقيه وزاد الكليني هذا المقدار.

وهي معتبرة السند ، وموضع الشاهد هو قوله عليه السلام:- ( فلا بأس إن كان في المصر طعام أو متاع غيره فلا بأس يلتمس بسلعته الفضل ) ، فإنه بالمفهوم يدل على أنه ( إذا لم يكن في المصر طعام أو متاع غيره ففي التماس الفضل بأس ) ، فتقريب الدلالة لابد أن يكون بهذا الشكل ، وهذا كما ترى مبنيّ أنَّ البأس يدل على التحريم كما بنى عليه الشيخ النراقي(قده) وأصر عليه حيث قال:- ( دلت بالمفهوم على ثبوت البأس الذي هو العذاب عند عدم الشرط )[4] .

فالشيخ النراقي(قده) يفسّر البأس بالعذاب أو ما بحكمه الذي يستفيد منه التحريم ، فمن كان يبني على ذلك - وهذه قضية استظهارية - فحينئذٍ تدل على التحريم عند عدم وجود الطعام ، ولكني من المترددين في ذلك يعني يصير في حكم عدم الدلالة.

وقد يشكل:- بأنَّ الرواية قالت:- ( فإن كان في المصر طعام أو متاع غيره فلا بأس بأن يلتمس بسلعته الفضل ) ومفهومها هو ( أنه لا يجوز له طلب الفضل إن لم يكن في البلد طعام غيره ) فأقصى ما تدل عليه هو حرمة طلب الفضل لا على حرمة الاحتكار ، ونحن كلامنا أنَّ نفس الاحتكار جائز أو لا وهذه الرواية لا تدل على أنه ليس بجائز وإنما دلت على أنه لا يجوز طلب الربح الزائد من الناس أما أن يبقي السلعة في المخازن فهي لم تدل على أن أنه لا يجوز ، فتكون بذلك أجنبية عن المقصود لأننا نريد أن نثبت حرمة الاحتكار لا حرمة طلب الزيادة.

والجواب:- إنَّ هذا وجيه إذا كنّا نتماشى مع الألفاظ ولا ندخل أموراً عرفية في فهمنا للرواية ، ولكن يمكن أن يقال: إنَّ المفهوم عرفاً من مثل هذا التعبير أنَّ أصل الاحتكار ليس بجائز بل لابد من العرض بسعرٍ مناسب ولا يجوز طلب الزيادة عند العرض ، فأخذ العرض شيئاً مفروغاً عنه ، فحينما تعرض البضاعة لا يجوز أن تطلب الزيادة ، وهذا فهم عرفي ، ولا تتماشَ مع الألفاظ دائماً فإنَّ التماشي مع الألفاظ مع إلغاء القضايا العرفية والفهم العرفي ليس بصحيح ، فإذن لا نسجل إشكالاً على الرواية من هذه الناحية.

نعم يمكن أن يشكل:- بأنَّ الرواية تقول: ( إذا كان في المصر طعام فلا بأس أن يلتمس الزيادة ) ، والذي نريده هو المفهوم ولعلّ مقصود الامام عليه السلام هو أنه لا يجوز طلب الزيادة في تينك الحالتين اللتين أشرنا إليهما ، فإذن لا تنفعنا هذه الرواية في اثبات شيءٍ أكثر من مساحة الحالتين السابقتين ، فنحن نريد أن نثبت الحرمة في مساحة أكبر وإلا فبمقدار الحالتين هو ثابت بلا حاجة إلى وراية.

إن قلت:- لنتمسّك بالإطلاق فإنَّ الامام عليه السلام لم يقيد فلماذا أنت تقيد بالحالتين ؟ ، يعني احتمال النظر إلى الحالتين والقدر المتيقن هو الحالتان هذا معناه أنك لا تريد أن تتمسّك بالإطلاق ولكن لماذا لا تتمسّك بالإطلاق ؟

قلت:- إنَّ الرواية بمنطوقها ناظرة إلى حال وجود الطعام لأنها قالت: ( إن كان في المصر فيجوز أن يلتمس الفضل ) ، فالحالة التي يبينها في المنطوق هي هذه الحالة أما تلك الحالة الثانية وهي ( إن لم يكن فلا يجوز ) فتلك هو ليس في مقام بيانها ، نعم هذا المفهوم نستفيده من المنطوق لكن الامام عليه السلام ليس في مقام بيان المفهوم حتى نتمسّك بالإطلاق من ناحيته ، فالاطلاق نتمسّك به دائماً بلحاظ منطوق الكلام أما مفهوم الكلام لا يجوز التمسّك بالإطلاق من ناحيته إذ المتكلم في مقام البيان من ناحية المنطوق وأما من ناحية المفهوم فليس في مقام البيان ، فعلى هذا الأساس لا يمكن أن نستفيد الحرمة إلا بلحاظ القدر المتيقن وهو الحالتان أما ما زاد على ذلك فلا يمكن استفادة الحرمة من جهة هذه النكتة وهي أنَّ الامام بلحاظ المفهوم ليس في مقام البيان فيتمسّك بالقدر المتيقن.

الرواية الثالثة:- أبو علي الشعري عن محمد بن عبد الجبار عن صفوان عن أبي الفضل سالم الحناط قال:- ( قال لي أبو عبد الله عليه السلام: ما عملك ؟ قلت: حنّاط[5] وربما قدمت على نَفَاق[6] وربما قدمت على كساد فحبست ، قال: فما يقول مَن قِبَلِك فيه ؟ قلت: يقولون محتكر ، فقال: يبيعه أحد غيرك ؟ قلت: ما أبيع أنا من ألف جزءٍ جزءا[7] ، قال: لا بأس إنما كان ذلك رجل من قريش يقال له حكيم بن حزام وكان إذا دخل الطعام المدينة اشتراه كله فمرّ عليه النبي صلى الله عليه وآله فقال: يا حكيم بن حزام إياك أن تحتكر )[8] .

وتقرب الدلالة في موضعين ، الأوّل ( قلت: ما أبيع أنا من ألف جزءٍ جزءاً، قال: لا بأس ) فهنا نستفيد أنه إذا فرض أنَّ الأمر ليس كذلك - يعني أنَّ الباعة كانوا قليلين - ففي الحبس والاحتكار بأس ، وبناء على دلالة البأس على الحرمة فحينئذٍ تدل على الحرمة ، وهذا على المبنى.

والثاني هو: ( مرّ عليه النبي فقال: يا حكيم إياك أن تحتكر ) ، فإنَّ هذا يدل على حرمة الاحتكار ، وحيث لم يقيّد صلى الله عليه وآله بحالةٍ دون أخرى فنتمسّك بالإطلاق.

والجواب:- أما بالنسبة إلى ذيل الرواية فإنَّ الوارد فيه هو تعبير ( إياك ) ، يعني نحن نرى أنَّ الاطلاق لا بأس به وأنه يشمل غير الحالتين اللتين ذكرناهما كلامٌ ابتدائي فينعقد به إطلاق ، ولكن الكلام في ( إياك أن تفعل كذا ) فهل هذه العبارة يستفاد منها التحريم أو أنه يستفاد منها مطلق الحزازة الجامعة بين التحريم والكراهة ؟ ليس من البعيد أنها دالة على مطلق الحزازة ، فإني أرى أنه من المناسب أن تكون للأعم ، فإذن لا يمكن أن نستفيد التحريم من الذيل لأجل أنه لا يستفاد من كلمة ( إياك ) التحريم ، لكن لو كان يستفاد التحريم فالاطلاق هنا يكون وجيهاً لأنَّ الكلام ابتدائي.

وأما بالنسبة إلى فقرة:- ( ما أبيع أنا من ألف جزء جزءاً ، قالم: لا بأس ) ، إنه يفهم منها ( أنَّ الباعة لو كانوا قليلين فإذن فيه بأس ) بناءً على دلالة البأس على التحريم ، فإذن يستفاد منها التحريم ، كما أنَّ الامام عليه السلام قال له هل يوجد غيرك وهو قال للإمام يوجد غيري فقال له ( لا بأس ) ، فالامام عليه السلام حينما قال له ( لا بأس ) يعني مادام غيرك من الباعة موجود - بغضّ النظر عن كون الغير كثير لأنَّ ادخال الكثرة لم يجئ في كلام الامام عليه السلام وإنما جاء في كلام الراوي - فلا بأس فيستفاد من ذلك أنه فيه بأس إن فرض عدم وجود غيرك وحينئذٍ يستفاد من ذلك التحريم.

ولكن يمكن أن يقال:- إنه لابد من تقيد هذه الرواية ، وهي صورة الحاجة ، فلابد أن نفترض أنَّ المسلمين في حاجة ، وإلا إذا فرض أنه لا يوجد الغير من الباعة والمسلمون لم يكونوا في حاجة فجزماً لا حرمة في هذه الحالة ، فإذن لابد من التقييد بحاجة المسلمين ، تبقى أنَّ الحاجة بأي درجة هي ؟ إنها لم تبيّن ذلك فنتمسّك بالقدر المتيقن وهو ما أشرنا إليه من الحالتين.


[1] هكذا ورد في من لا يحضره الفقيه.
[5] حنّاط :اي بائع الحنطة.
[6] يعني أن السوق جيد والسلعة تشترى وتنفق ولا تبقى.
[7] يعني من يبيع هم كثيرون وأنا واحد منهم.