01-04-1345


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

35/04/01

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضـوع:- مسألة (408 ) / الحلق والتقصير / حج التمتع / مناسك الحج للسيد الخوئي(قد).
الحكم الرابع:- إرسال الشعر.
بعد أن تعذّر على الكلف العود إلى منى فعليه أن يحلق في مكانه، والكلام في أنه بعد أن حلق هل يلزم أن يبعث بشعره إلى منى لِيُلقى فيها أو لا ؟
في المسألة أقوال ثلاثة:- قولٌ بالوجوب، وقولٌ بالاستحباب، وقولٌ بالتفصيل بين ما إذا كان تركه للحلق في منى عن عمدٍ فيلزم ذلك وما إذا لم يكن كذلك فلا يجب عليه إرسال الشعر.
والأول هو ظاهر الشيخ(قده) في نهايته، وهكذا المحقق في الشرائع حيث قال:- ( فإن لم يتمكن[1] حلق أو قصّر مكانه وبعث بشعره ليدفن بها )، وظاهر  قوله ( بعث ) هو اللزوم.
وأما الاستحباب فذهب إليه المحّقق في مختصره والعلامة في المنتهى.
وأما التفصيل فهو عن العلامة في المختلف.
هذه أقوال ثلاثة في المسألة.
والمناسب أوّلها - أعني الوجوب - وذلك لدلالة بعض الروايات عليه، من قبيل صحيحة أبي بصير المتقدّمة:- ( قلت لأبي عبد الله عليه السلام:- الرجل يوصي من يذبح عنه ويلقي هو شعره بمكة، فقال:- ليس له أن يلقي شعره إلا بمنى )[2]، وظاهر قوله ( ليس له أن يلقي شعره إلا بمنى ) هو الوجوب، وعلى هذا المنوال رواياتٍ أخرى من قبيل رواية أبي بصير الأخرى التي ورد في سندها المفضل بن صالح والذي لم ثبت وثاقته بل لعله ضُعّف[3]، وهكذا صحيحة حفص بن البختري[4]، ورواية ابن أبي حمزة البطائني[5] . إذن هناك عدّة روايات تدلّ على لزوم إرسال الشعر إلى منى، وليس هذا حكماً مفرّعاً على غيره ليأتي ما أشرنا إليه سابقاً من أن الأحكام المفرَّعة تكتسب ظهورها في الوجوب والاستحباب من المفرَّع عليه فإنه لا معنى لهذا الكلام هنا إذا الحكم المذكور لم يأتِ مفرَّعاً بل ذُكِر ابتداءً حيث قال:- ( الرجل يوصي من يذبح عنه ويلقي هو شعره بمكة، فقال:- ليس له أن يلقي ) فهو ليس مفرَّعاً، مضافاً إلى أن تعبير ( ليس له ) هو في حدّ نفسه له دلالة قويّة في الوجوب . إذن من هذه الناحية لا إشكال .
نعم قد يشكل بأن هذه الروايات معارضة بما يدلّ على الاستحباب - أي استحباب الإلقاء في منى - من قبيل ما رواه أبو الصباح الكناني في روايته المقدمة حيث جاء فيها التعبير بفقرة ( لا يعجبني ) ونصّها:- ( سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجلٍ نسي أن يقصّر من شعره وهو حاج حتى ارتحل من منى، قال:- ما يعجبني أن يلقي شعره إلا بمنى )، وعلى منوالها رواية أبي بصير التي ورد في سندها الحسن بن الحسين اللؤلؤي – فهي بهذا الاعتبار عبّرنا عنها بالرواية[6] - فإنه ورد فيها فقرة ( لا يعجبني ) أيضاً . إذن التعبير بفقرة ( لا يعجبني ) قد يدّعى ظهوره في الاستحباب فيكون ذلك معارضاً - لو تمّ السند - لتلك الروايات الدالة على الوجوب.
ولكن تقدّم أن أمثال هذه التعابير هي كما تلتئم مع الاستحباب أو الكراهة كذلك تلتئم مع الإلزام فهي أنسب بالدلالة على الجامع فهي تدلّ على الجامع وهو أصل الرجحان - أي رجحان الفعل أو رجحان الترك - أما أن هذا الرجحان بنحو الاستحباب أو الكراهة فليس لها ظهورٌ في ذلك، فإذن هي لا تعارض دلالة تلك الروايات.
والنتيجة:- هي أن الفتوى بلزوم إرسال الشعر إلى منى وإلقائه فيها شيء جيّدٌ . هذا بالنسبة إلى حكم هذه المسألة وقد اتضح أن المناسب هو الوجوب دون الاستحباب.
ولكن يبقى وجه التفصيل الذي ذهب اليه لعلّامة في المختلف ونصّ عبارته:- ( ولو قيل بوجوب الردّ لو حلق عمداً بغير منى إذا لم يتمكّن من الرجوع بعد خروجه عامداً وبعدم الوجوب لو كان خروجه ناسياً لكان وجهاً )[7] ولكنّه(قده) لم يذكر توجيهاً فنيّاً لذلك.
وحاول الفاضل الهندي(قده) في كشف اللثام[8] ذكر توجيهٍ لذلك بما محصّله:- إن الحلق في منى مركّب من شيئين هما نفس الحلق وأن يكون بمنى، أو بتعبيرٍ آخر نقول إنه يشتمل على شيئين الحلق في منى وإلقاء الشعر فيها، وإذا تعذّر الأوّل بسبب كونه خارجاً عن منى ولا يمكنه العود فلا موجب لسقوط وجوب الثاني - أعني الإلقاء في منى -، وهذا يتمّ إذا كان خروجه من منى عمداً لأنه متمكنٌ من فعل كلا الواجبين فيخاطب بهما فيأتي حينئذٍ ما تقدّم من أن تعذُّر الأوّل لا يوجب سقوط الثاني عن الوجوب وأما إذا كان ناسياً فلا وجوب من الأساس للحلق في منى والإلقاء فيها لأنه ناسٍ والناسي يرتفع عنه التكليف فلا يجب عليه إرسال الشعر حينئذٍ مادام لا يمكنه العود لأن الوجوب من البداية لم يكن ثابتاً في حقه حتى نقول عند تعذّر امتثال الواجب الأوّل لا يسقط الواجب الثاني.
هذا ما أفاده(قده) ونصّ عبارته:- ( لأنه كان يجب عليه الحلق بمنى وإلقاء الشعر بها ولا يسقط أحد الواجبين إذا سقط الآخر بخلاف ما إذا نسي إذ لا يجب على الناس يشيء منهما ) - أي من الحلق بمنى والإلقاء فيها -.
وفيه:- إنه من قال أنه يجب الالقاء على من كان قادراً على ذلك - أي كان قادراً على الحلق فيها وإلقاء الشعر فيها - حتى يقال إنه بتعذّر امتثال الواجب الأوّل لا يسقط امتثال الثاني ؟ فنحن الآن حينما نذهب إلى منى ونحلق هل يلزم أن نرمي شعرنا في منى ؟! إن هذا يحتاج إلى إثباتٍ فإن الواجب هو الحلق في منى أما إلقاء الشعر هناك فلا دليل عليه . نعم من يحلق في منى يقع شعره عادةً فيها ولكن هذا لا يعني أنه يجب أن يكون الإلقاء فيها بل لا بأس أن يجمعه ويأخذه خارجها.
هذا مضافاً إلى أن ما ذكر يتمّ لو كان لدينا واجبان مستقلّان أحدهما الحلق في منى والآخر الإلقاء فيها فيأتي ما تقدّم من أن تعذّر الأوّل لا يوجب سقوط الثاني أما إذا فرض أن المجموع كان واجباً واحداً بنحو الارتباط فإذا تعذّر بعض أجزاء الواجب يكون من المناسب هو سقوط البعض الآخر عن الوجوب لأن هذا هو لازم الارتباطيّة والضمنيّة . إذن ما أفاده(قده) يتوقّف على أمرين الأول أن إلقاء الشعر في منى واجبٌ من الواجبات وقلنا أنه لا مثبت لذلك، والثاني أنه حتى لو سلّمنا أنه واجب فلابد وأن يثبت أن هذا الوجوب بنحو الاستقلاليّة وليس بنحو الارتباطية ولا مثبت لذلك.
وبهذا اتضح أن المناسب هو وجوب إرسال الشعر من دون تفصيل.
وهناك قضيّة أخرى لا بأس بالإشارة إليها لم يشر إليها السيد الماتن(قده) في كلامه:- وهي أنه بعد إرسال الشعر إلى منى هل يلزم دفنه فيها أو لا ؟
والجواب:- ظاهر عبارة المحقق في الشرائع ذلك حيث قال:- ( وبعث بشعره ليدفن بها ) وهذا التعبير قد يستفاد منه لزوم الدفن.
وعلّق في المدارك بقوله:- ( قد قطع الأكثر باستحبابه )[9].
وإذا رجعنا إلى الروايات لم نجد ما يدلّ على الوجوب فإنه جاء في رواية قرب الاسناد عن السندي بن محمد عن أبي البختري عن جعفر بن محمد عليه السلام عن أبيه عليه السلام:- ( أن الحسن والحسين عليهما السلام كانا يأمران أن تدفن شعورهما بمنى )[10]، بتقريب أنه كانا يأمران بدفن شعرهما وحيث إن الأمر ظاهرٌ في الوجوب صيغةً ومادةً فيكفي ذلك في إثبات الوجوب.
والإشكال على ذلك واضحٌ:- فإن هذا حكاية لشيءٍ قد تحّقق منهما ولا نعلم بأن ما صدر منهما هل صدر بنحو اللزوم أو صدر بنحو الاستحباب فإنه لو كان الصادر مستحبّاً يصحّ التعبير بـــــ( كانا يأمران ) فإن المستحبّ أيضاً لا بأس بالأمر به . فإذن لا دلالة في الرواية على الوجوب، مضافاً إلى أنها واردة في غير محلّ كلامنا فإن كلامنا هو من كان خارج منى بينما هذه الرواية ناظرة إلى من كان فيها ومن كان في منى لا يلزمه الدفن بلا كلامٍ والسيرة جارية على ذلك فإنها لم تجرِ على الدفن فلو كان هذا واجباً لاشتهر وذاع ولتلقّيَ جيلاً بعد جيل، وإذا كان يوجد احتمال للوجوب فهو في حق من كان جارج منى وبعث بشعره لا من كان في داخلها، فالرواية إذن تحمل على الاستحباب حتماً، هذا مضافاً إلى أنها محلّ تأمل من حيث السند فقد رواها أبو البختري وهو وهب بن وهب الذي قيل عنه ما قيل - أكذب أهل البريّة -، مضافاً إلى أن الرواية المذكورة نقلها صاحب الوسائل(قده) من كتاب قرب الاسناد وقد تقدّم منّا أن ما ينقله صاحب الوسائل من قرب الاسناد وما شاكله من الكتب قابلٌ للإشكال لأن الإجازة لم يثبت أنها إجازةٌ على النسخة ويحتمل أن تكون تبرّكية . إذن وجوب الدفن ليس بثابتٍ .
بل لعله يوجد ما يدلّ على الاستحباب:- كصحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام:- ( كان عليّ بن الحسين عليه السلام يدفن شعره بفسطاطه بمنى وكان بقول:- كانوا يستحبّون ذلك )[11]، فإن ظاهر قوله عليه السلام ( كانوا يستحبون ذلك ) - أي آباءه وأجداده عليهم السلام - أنه كان شيئاً استحبابياً وتعبير ( يستحبون ) لا يبعد أن يكون المقصود هو الاستحباب بالمعنى المصطلح يومنا هذا.
والخلاصة من كل هذا:- أنه لا مثبت لوجوب الدفن بعد إرسال الشعر إلى منى.


[1]  يعني لم يتمكن من العود.
[7]  المختلف، العلامة، ج4، ص297.
[9]  مدارك الأحكام، الموسوي العاملي، ج8، 97.