جلسة 89

مفطرات الصوم

تعمد القيء

هذا، ولكن يمكن أن يقال: إنه بمقتضى صحيحة محمد بن مسلم المتقدمة[1] القول بعدم مفطرية القيء حتى لو كان عن اختيار؛ لأنها حصرت المفطر في خصال ثلاث، ومعه يتعين حمل صحيحة الحلبي الدالة على المفطرية على الاستحباب.

إن قلت: إن التعبير الوارد في صحيحة الحلبي لا يقبل الحمل على الاستحباب، إذ الوارد فيها: «إذا تقيأ الصائم فقد أفطر...»، وكلمة «أفطر» لا تقبل الحمل على الاستحباب، إذ لا معنى لاستحباب المفطرية، فإنها إن كانت ثابتة فهي ثابتة بنحو اللزوم، وإن لم تكن ثابتة فهي ليست بثابتة، ولا معنى لشق ثالث، وهو ثبوتها بنحو الاستحباب.

قلت: إن كلمة «أفطر» يراد بها الإشارة إلى القضاء، وإلاّ فالمفطرية ليست شيئاً آخر وراء القضاء، ومن المعلوم أن من الوجيه أن يكون ثبوت القضاء بنحو الاستحباب دون اللزوم، وعليه فالحمل على الاستحباب لا إشكال فيه من هذه الناحية.

نعم، ربما يدافع المشهور عن أنفسهم بأحد الوجهين التاليين:

الوجه الأوّل:أن المورد من موارد الجمع بالتقييد، ومع إمكانه لا تصل النوبة إلى الجمع بالحمل على الاستحباب.

أمّا كيف يكون موردنا من موارد الجمع بالتقييد؟ ذلك باعتبار أن صحيحة محمد بن مسلم مطلقة فهي تقول: لا يضر الصائم إذا اجتنب عن الاُمور الثلاثة، سواء كان غير الثلاثة هو القيء أو غيره من سائر الأمور، فيقيد هذا الإطلاق بقرينة صحيحة الحلبي، وتكون النتيجة أن غير الثلاثة لا يضر إذا لم يكن قيأً، فالمورد من موارد الإطلاق والتقييد. وممّن صار إلى ذلك السيد الخوئي قدّس سرّه.

وفيه: أن ما ذكر وجيه لو فرض أن لسان صحيحة محمد بن مسلم لم يكن آبياً عن التقييد، ولكنه أبٍ عن ذلك عرفاً، فإن ذكر كلمة (ثلاث) وحصر المفطرات بها، والتعبير بأنه: «لا يضر الصائم ما صنع إذا اجتنب ثلاث خصال» يأبى عن التقييد عرفاً.

الوجه الثاني: أن الوارد في صحيحة محمد بن مسلم التعبير بالطعام والشراب، وهذا يعني أن الطعام مضر، ولكن لم تقيد الصحيحة بأكله، أي لم تقل أكل الطعام والشراب هو المضر، بل دلت على أن الطعام مضر، وهذا كما يشمل أكله يشمل إخراجه. وممّن يظهر منه المصير إلى ذلك صاحب (الجواهر) [2] قدّس سرّه.

وفيه: أن الطعام هو عين من الأعيان فيراد به ذات المأكول، وحيث إن الحكم لا يتعلق بالأعيان فلابدّ أن يكون المقصود أحد أمرين:

الأوّل: إمّا أن يراد تحريم كلّ شيء يرتبط بالطعام فيحرم أكله، وإخراجه من المعدة، وشمه، والنظر إليه.... وحذف المتعلق إشارة للتعميم وأن كلّ ما يرتبط به هو محرم.

الثاني: أن يراد تحريم خصوص ما هو المناسب للطعام عرفاً الذي هو عبارة عن أكله.

وعليه فالمراد إمّا العموم أو خصوص الحصة المناسبة عرفاً للطعام، وأمّا إرادة ما بين هذين؛ بألاّ يكون المراد هو العموم، كما أنه ليس المراد خصوص الحصة المناسبة، بل المراد الحصة المناسبة إضافة إلى حصة اُخرى، فهو ليس عرفياً، بل هو مستهجن.

وعليه فتفسير الطعام بالأكل والإخراج أمر مستهجن لا يمكن المصير إليه، وبهذا يتعين الحمل على الاستحباب، ولكن تحفظاً من مخالفة المشهور لا بأس بالمصير إلى الاحتياط.

النقطة الثانية: أن الحكم بالمفطرية بناءً على ثبوته يعم حالة الضرورة أيضاً، كمن كان الطعام يؤذيه فيحتاج إلى التقيء.

والوجه في ذلك التمسك بإطلاق صحيحة الحلبي، إذ الوارد فيها: «إذا تقيأ الصائم فقد أفطر...» وهذا مطلق يشمل حالة الضرورة. وممّا يؤكد ذلك قوله ـ عليه السلام ـ بعد ذلك «وإن ذرعه من غير أن يتقيأ فليتمّ صومه»، فإنه يدل على أن الحالة المستثناة من وجوب القضاء هي حالة ما إذا ذرعه فقط، وأمّا بقية الحالات التي منها حالة الضرورة من غير أن يصدق عليه ذرعه فيجب القضاء فيها.

النقطة الثالثة: أن المفطرية بناءً على ثبوتها تختص بحالة التعمد ولا تعم حالة التقيء من دون اختيار، والوجه في ذلك أمران:

الأوّل: أنه سيأتي فيما بعد إن شاء الله أن مفطرية المفطرات تختص بحالة العمد ولا تعم غيرها.

الثاني: أن صحيحة الحلبي قد صرحت بأنه لو ذرعه من غير أن يتقيأ فليتم صومه، وهذا معناه بأن المفطرية تختص بحالة العمد.

(مسألة 1001: إذا خرج بالتجشؤ شيء ثم نزل من غير اختيار لم يكن مبطلاً، وإذا وصل إلى فضاء الفم فابتلعه ـ اختياراً ـ بطل صومه وعليه الكفارة على الأحوط)[3] .

تشتمل المسألة المذكورة على النقاط التالية:

النقطة الاُولى: أن التجشؤ ليس من المفطرات، والمراد من التجشؤ هو ما يعبر عنه بالقلس الذي هو في الواقع تنفس المعدة وخروج هوائها، وعلى هذا لو خرج بسبب التجشؤ شيء من الطعام فلا يضر ذلك حتى لو قلنا بمفطرية القيء.

والوجه في ذلك عدم الدليل، بل الدليل على العدم.

أمّا عدم الدليل، فلأن المفطر هو عنوان الأكل متعمداً أو التقيء متعمداً، وهذا لا يصدق عليه ذلك، ومعه يتمسك بإطلاق صحيحة محمد بن مسلم المتقدمة، وليس المقام من أحد الثلاث، وإذا قطعنا النظر عن الإطلاق المذكور أو بالأحرى افترضنا عدمه يكون المرجع أصل البراءة، فنشك هل التجشؤ أخذ عدمه قيداً في الصوم الواجب فينفى بالبراءة؟

إذاً بعد عدم الدليل نتمسك بالدليل الاجتهادي إن كان، وهو الإطلاق في صحيحة محمد بن مسلم، وعلى تقدير عدمه نتمسك بالدليل الفقاهتي، وهو أصل البراءة عن وجوب القضاء.

كما اتضح من خلال هذا أن النافي لمفطرية التجشؤ ليس مجرد عدم الدليل على المفطرية، فإن عدم الدليل لا يصلح أن يكون دليلاً على العدم، بل الدليل على نفي المفطرية هو الإطلاق أو أصل البراءة. نعم، يرجع إليهما بعد عدم الدليل الخاص على المفطرية، إذ مع وجوده لا تصل النوبة إلى الإطلاق أو البراءة.

وعليه ففي كلّ مورد يتمسك فيه بعدم الدليل أو بفكرة القصور في المقتضي فالمقصود هو ما أشرنا إليه، أي أن المقصود عند عدم الدليل الذي هو عبارة عن القصور في المقتضي فيتمسك بالإطلاق أو الأصل العملي، ولكن من باب المسامحة أو الاختصار قد يعبر بعدم الدليل أو القصور في المقتضي.

وأمّا الدليل على العدم فهو مثل صحيحة عبد الله بن سنان، قال: سُئل أبو عبد الله ـ عليه السلام ـ عن الرجل الصائم يقلس فيخرج منه الشيء من الطعام، أيفطره ذلك؟ قال: «ل». قلت: فإن ازدرده بعد أن صار على لسانه؟ قال: «لا يفطره ذلك» [4].

_________________________

[1] الوسائل 10: 31، أبواب ما يمسك عنه الصائم، ب1، ح1.

[2] جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام ج16 كتاب الصوم ص288.

[3] منهاج الصالحين ج1 كتاب الصوم، المفطرات ص267.

[4] الوسائل 10: 88 ـ 89، أبواب ما يمسك عنه الصائم، ب29، ح9.