جلسة 158

[الكفارات]

النقطة الثانية: إذا فُرض أنّ المكلف كان شاكاً في تحقق الغروب، فلا يجوز له ارتكاب المفطر كما أشرنا إليه في النقطة الأولى، ولكنّه لو ارتكب فهل يترتّب عليه القضاء والكفّارة؟

نعم يترتّب عليه ذلك إذا بقي الواقع مبهماً فضلاً عمّا إذا اتضح عدم تحقق الغروب، والوجه في ثبوت ذلك أنّ مقتضى الاستصحاب بقاء النهار، ومعه يكون ارتكاب المفطر ارتكاباً له في النهار، وحيث إنّ ذلك قد صدر عن اختيار وقصد فيكون عمدياً وبالتالي يثبت القضاء والكفّارة.

وأمّا إذا اتضح أنّ الغروب كان متحققاً حين مزاولة المفطر فلا يثبت شيء بما في ذلك القضاء. نعم، تثبت في حقّه مرتبة من مراتب التجرّي، فإنّ التجرّي له مراتب، بعضها شديد كمن قطع بعدم تحقق الغروب وزاول المفطر ثم انكشف تحقّقه، فإنّ ذلك تجرّىً بمرتبته القوية، وأمّا إذا شكّ في تحقق الغروب فالاستصحاب وقاعدة الاشتغال يقولان له: لا يجوز لك ارتكاب المفطر، فإذا زاوله ثم انكشف تحقق الغروب كان ذلك نحواً من التجرّي أيضاً ولكن بمرتبته الضعيفة.

النقطة الثالثة: إذا قامت الحجّة على عدم تحقق الغروب ولكن المكلّف لم يعتنِ بها وزاول المفطر ثم انكشف لحسن حظّه تحقق الغروب، فهل يثبت في حقّه شيء؟

كلا لا يثبت في حقّه شيء؛ لعدم الموجب لذلك، إذ الإفطار وقع بعد الغروب وليس قبله ليثبت القضاء فقط، أو هو مع الكفّارة. نعم، هو متجرى حيث خالف الحجّة الشرعية، وهذا مطلب آخر.

النقطة الرابعة: إذا فُرض أنّ الحجّة الشرعية قامت على تحقق الغروب، وزاول المكلف المفطر استناداً إليها ثم انكشف بعد ذلك عدم تحققه، فهل يثبت في حقّه القضاء والكفّارة؟

أمّا بالنسبة إلى الكفّارة فالمناسب عدم ثبوتها؛ لأنّها إنّما تثبت في حقّ العامد الذي لا يكون معذوراً، والمفروض في المقام ثبوت العذر لفرض قيام الحجّة الشرعية على تحقق الغروب.

وأما بالنسبة إلى ثبوت القضاء فقد ذكر في المسألة قولان:

الأول: ثبوت القضاء، وقد اختاره السيد الخوئي ـ قدّس سرّه ـ [1] وغيره، وعلل ذلك بأنّ الفريضة قد فاتت على المكلّف، والعذر وإن كان ثابتاً إلاّ أنّه لا دليل على أنّ الصوم الناقص يقع بديلاً ومجزياً عن الصوم الكامل، ومعه يثبت وجوب القضاء.

وفيه: أنّ الفريضة وإن فاتت ولكن فواتها لا يكفي وحده لإيجاب القضاء، فنحتاج إلى دليل يدل على أنّ كلّ ما فات يجب قضاؤه ولو بلسان (أقضِ ما فات كما فات)، مع أنّه لا توجد لدينا رواية بهذا اللسان ليتمسّك بإطلاقها في المقام.

نعم، ورد في باب الصلاة في حقّ المستحاضة فلتقضِ ما فاتها من الصلاة[2]، وهذا كما ترى لا إطلاق له لباب الصلاة فضلاً عن الأبواب الأخرى للواجبات، وإنّما هو ناظر إلى مورد خاصّ وهو المستحاضة وأنّها تقضي الصلاة التي فاتتها، وهذا لا يدل على أنّ كلّ مَنْ فاتته الصلاة يجب عليه قضاؤها، وعليه فالحكم بوجوب القضاء في مقامنا مشكل لعدم الدليل على ذلك.

ودعوى أنّ الناقص لا دليل على إجزائه عن الكامل وإن كان أمراً وجيهاً إلاّ أنّ ذلك يتمّ لو فرض توجّه التكليف إلى الكامل وخوطب المكلّف بالإتيان بالكامل، كمَن صلّى مع التيمّم وكان بإمكانه الصلاة مع الوضوء وكان الوقت باقياً، فهنا يقال بأنّه لا تكفي الصلاة التيمّمية؛ لعدم الدليل على إجزائها وقيامها مقام الصلاة الوضوئية، وهذا بخلافه في المقام فإنّ المكلّف داخل الوقت قد استند إلى الحجّة الشرعية على تحقق الغروب، وحينما خرج الوقت لا يمكنه الإتيان آنذاك بالكامل داخل الوقت، ليقال بأنّ الناقص الذي أوتي به لا دليل على إجزائه عن الكامل.

نعم، لو كان مكلفاً به فهو مكلّف به من باب القضاء خارج الوقت، ولكن ثبوت الأمر بالقضاء في حقّ الإنسان المذكور أوّل الكلام.

وبالجملة: مجرّد فوت الفريضة لا يكفي لإيجاب القضاء إلاّ أن يدل دليل على لزوم قضاء كل واجب فات، ومثل الدليل المذكور لم يثبت.

الثاني: عدم وجوب القضاء، وقد اختاره صاحب (المدارك) قدّس سرّه[3]، وعلل ذلك بأنّ المكلّف معذور حيث قامت لديه الحجّة الشرعية على تحقق الغروب.

وما أفاده ـ قدّس سرّه ـ تامّ من جهة عدم وجوب القضاء، لكنّه ليس بتامّ من جهة الدليل الذي ذكره؛ لأنّ مجرّد كون المكلّف معذوراً لاستناده للحجّة الشرعية لا يكفي لإثبات عدم وجوب القضاء، والمهمّ هو عدم الدليل على لزوم القضاء، ولعل مقصوده أنّ قضاء الصوم وإن كان لازماً في الجملة، إلاّ أنّ شموله لمن ثبت في حقّه العذر بقيام الحجّة الشرعية على تحقّق الغروب غير ثابت، فإذا كان هذا مقصوداً له فهو أمر وجيه ومقبول.

النقطة الخامسة: إذا شكّ المكلف في طلوع الفجر ـ على خلاف ما كنّا نفترضه سابقاً من الشكّ في تحقق الغروب ـ جاز له ارتكاب المفطر، فلو استيقظ المكلّف في وقت متأخّر وشكّ في طلوع الفجر جاز له الأكل والشرب من دون حاجة إلى الفحص والسؤال، وهكذا لو استيقظ في سعة الوقت فإنّه يجوز له الأكل والشرب إلى أن يعلم ـ ولو بالحجّة الشرعية ـ بتحقق الفجر.

والوجه في ذلك هو التمسّك باستصحاب بقاء الليل، فإنّ الإمساك عن المفطرات يلزم من حين الفجر، فإذا شكّ في تحققه استصحب بقاء الليل أو عدم تحقق الفجر، لكن إذا اتضح له بعد ذلك طلوع الفجر فهل يجب عليه القضاء؟

ذكرنا فيما سبق أنّه مع المراعاة للفجر لا قضاء، ومع عدم المراعاة يجب القضاء دون الكفّارة؛ استناداً إلى موثقة سماعة المتقدّمة حيث قال ـ عليه السلام ـ: «إن كان قام فنظر فلم يرَ الفجر فأكل ثمّ عاد فرأى الفجر فليتمّ صومه ولا إعادة عليه، وإن كان قام فأكل وشرب ثمّ نظر إلى الفجر فرأى أنّه قد طلع الفجر فليتمّ صومه ويقضي يوماً آخر؛ لأنّه بدأ بالأكل قبل النظر فعليه الإعادة» [4].

إذن تكليفاً يجوز ارتكاب المفطر حتى آخر لحظة وإن كان الاحتياط بالترك أمراً حسناً وينبغي حثُّ الناس عليه، وأمّا وضعاً فلا يلزم القضاء إذا انكشف الخلاف مع عدم المراعاة.

_______________________

[1] مستند العروة الوثقى 1: 396 كتاب الصوم.

[2] وكذا صحيحة زرارة، قال: قلت له: رجل فاتته صلاة من صلاة السفر فذكرها في الحضر؟ قال: «يقضي ما فاته كما فاته...». الوسائل 8: 268، أبواب قضاء الصلوات، ب6، ح1.

[3] مدارك الأحكام في شرح شرائع الإسلام 6: 93 كتاب الصوم.

[4] الوسائل 10: 115 ـ 116، أبواب ما يمسك عنه الصائم ووقت الإمساك، ب44، ح3.