32/07/09


تحمیل

وفيه:- إن ما ذكر وان كان وجيهاً يعني أن الأمر يدور بين غفلتين وأن تحقق الغفلة بالنقيصة هو الأقوى ولكن نقول مجرد هذا لا يكفي لتقديم احتمال النقيصة على احتمال الزيادة ، فصحيح احتمال النقيصة هو بدرجة اقوي حيث أن الإنسان يغفل عادة فينقص وبالتالي يكون احتمال النقيصة بدرجة ( 60 % ) بينما احتمال الزيادة هو اضعف مثلاً ( 40% ) ولكن مجرد كون ذاك ( 60% ) وهذا ( 40% ) لا يكفي لترجيح احتمال النقيصة ما دام لم يحصل اطمئنان أو ظن معتبر وكلاهما مفقود ، فان الاطمئنان عادة ليس متحققاً والظن المعتبر - بمعنى أن يدل الدليل الخاص أن مجرد الاقوائية كافٍ للحجية والترجيح مفقود أيضاً ، وعليه فلا يمكن الترجيح بمجرد الاقوائية كما هو واضح.

 نعم قد يدعى انعقاد السيرة ويقال أن هناك سيرة عقلائية على انه متى ما دار الأمر بين الاحتمالين المذكورين فالعقلاء يبنون على أن الراوي قد غفل فانقص لا انه غفل فأزاد ، انه لو ادعيت سيرة عقلائية أمكن الاستناد إليها آنذاك بعد فرض عدم كونها مردوعة فيستكشف إمضاءها من عدم الرد ، بيد أن هذا وجه مستقل سوف نذكره تحت عنوان الوجه الرابع ، ونحن الآن في هذا الوجه نقطع النظر عن دعوى السيرة ونفترض أن الأمر يدور بين غفلتين وحيث أن الغفلة في النقيصة هي الأقوى فيدعى أنها هي المقدمة وهي الأرجح انه ما دام يدعى هذا المقدار فيرد ما ذكرناه وهو أن مجرد الاقوائية لا يكفي لترجيحها وتعينها كما هو واضح .

هذا وقد يجاب بجواب آخر:- وذلك بمنع الصغرى وليس بمنع الكبرى , فنحن فيما سبق اجبنا بمنع الكبرى مع تسليم الصغرى ، يعني سلمنا أن الأمر يدور بين غفلتين ولكن الغفلة بالنقيصة هي الأقوى فتكون مقدمة ، واجبنا بان مجرد الاقوائية لا يكفي في التقديم ، أن هذا منع للكبرى مع تسليم الصغرى.

 اما الآن فنقول انه قد يجاب بمنع الصغرى ، فيقال أن الأمر لا يدور بين غفلتين فان منشأ الزيادة والنقيصة ليس هو الغفلة بشكل دائم وعام ، نعم أحيانا قد يكون المنشأ هو ذلك ولكن أحيانا أخرى قد يكون المنشأ شيئاً آخر ، فيزيد الراوي أو ينقص لا من جهة الغفلة ، كما هو الحال في النقل بالمعنى ، فان أئمتنا عليهم السلام جوزوا لأصحابهم النقل بالمعنى كما دلت على ذلك بعض الروايات ، بل بقطع النظر عن تجويز الأئمة يكفينا لإثبات جواز النقل بالمعنى السيرة العقلائية فإنها منعقدة على ذلك ، فإذا فرض أن شخصاً حدثنا بقضية معينة فنحن قد لا نضبط نص الألفاظ وإنما ننقل المعنى ، أن هذه سيرة عقلائية ولا ردع عنها فيثبت بذلك جواز النقل بالمعنى ، ولازم النقل بالمعنى بعد البناء على جوازه هو تحقق الزيادة بلفظ أو النقيصة بحذف ذلك اللفظ ، فقد اذكر لفظاً باعتقاد انه لا يؤثر وقد انقص لفظاً باعتبار انه لا يؤثر أيضا ، أن هذا من لوازم النقل بالمعنى فتحصل الزيادة والنقيصة من دون فرض الغفلة بل لاعتقاد أن هذا اللفظ لا يضر وجوده أو لا يضر عدمه ، وقد تكون النقيصة أحياناً طلبا للاختصار أو لغير ذلك من المناشئ ، والمهم أن الذي يراد أن يدعى الآن هو أن مناشئ الزيادة والنقيصة لا تنحصر بظاهرة الغفلة بل يمكن أن نذكر أسباباً متعددةٍ لذلك ، ومقامنا من هذا القبيل ، فانه في احد النقلين توجد كلمة ( قيمة مد ) بينما في النقل الأخر لا يوجد ذلك ، فلعل احد الراويين فهم من الإمام عليه السلام أن المدار ليس على خصوص المد بل المهم هو القيمة فذكر لفظ القيمة ، بينما الأخر فهم أن المدار على خصوص المدّ فحذف لفظ القيمة ، أن هذا منشأ للزيادة والنقيصة وهو لا يرتبط بالغفلة . إذن لا يمكن أن ندعي بنحو الجزم أن أمر الزيادة والنقيصة ينشأ من الغفلة وبالتالي المقام يدور فيه الأمر بين غفلتين ، كلا بل لعل المنشأ شيء آخر ، ولا نريد أن نحدد ذلك وإنما المقصود إبداء احتمال أن يكون المنشأ شيئاً آخر ليس هو الغفلة ، وما دام يحتمل ذلك فلا يمكن أن نجزم بأن الأمر يدور بين الغفلتين وبالتالي تقدم إحدى الغفلتين على الأخرى . هكذا قد يجاب على عن الوجه المذكور .

وفيه:- إنا نسلم أن منشأ الزيادة والنقيصة لا ينحصر بالغفلة بل قد يتحققان من مناشئ أخرى أن هذا شيء وجيه ، ولكن ينبغي أن يفصل وذلك بان يقال: انه تارة نفترض أن الراوي عن الإمام عليه السلام أي الذي سمع الحوار من الإمام يكون متعدداً كما إذا فرض انه نقل الرواية تارة أبو بصير عن الإمام بلفظ ( قيمة ) وأخرى نقلها زرارة عن الإمام بحذف كلمة ( قيمة ) انه هنا يمكن أن يقال إن منشأ ذكر ذاك الراوي لكلمة ( قيمة ) وحذف هذا لها لا ينحصر بمسالة الغفلة وإنما لعلهما اختلفا في كيفية الفهم أو غير ذلك ، وهكذا لو فرض أن الراوي عن الإمام عليه السلام كان شخصاً واحداً كابي بصير مثلاً ولكن الذي ينقل عن أبي بصير وسمع الرواية منه كان متعدداً ، كما إذا فرض أن أبا بصير حدَّث بالرواية علي بن رئاب ونقلها علي بن رئاب عن أبي بصير عن الإمام ، وأخرى نقلها شخص آخر عن أبي بصير عن الإمام ، انه هنا يأتي الاحتمال المذكور أيضاً ، فيقال أن أبا بصير حينما نقل ما جرى بينه وبين الإمام إلى علي بن رئاب وللشخص الأخر اختلفا في الفهم ، فاحدهما فهم أن للقيمة مدخلية والآخر فهم أن لا مدخلية لها ، انه في هذين الفرضين نسلّم أن أمر الزيادة والنقيصة لا ينحصر سببه بالغفلة بل لعل المنشأ شيء آخر ، اما إذا فرض أن الراوي للخبر كان واحداً وهو أبو بصير وان الراوي عن أبي بصير كان واحداً أيضا كما هو الواقع في مقامنا فان الشيخ الطوسي نقلها بإسناده ( عن الحسين بن سعيد عن الحسن بن محبوب عن علي بن رئاب عن أبي بصير ) بذكر كلمة ( قيمة مد من طعام ) بينما الشيخ الصدوق نقلها بإسناده ( عن الحسن بن محبوب عن علاي بن رئاب عن أبي بصير ) بحذف كلمة قيمة ، انه في مثل ذلك ينحصر الأمر بالغفلة لأن أبا بصير حتماً قد نقل نقلاً واحداً إلى علي بن رئاب وعلي بن رئاب أثبت ذلك النقل الواحد في أصله وبعد ذلك حصل الاشتباه بإضافة كلمة ( قيمة ) أو حذفها ، انه في مثل ذلك ينحصر أمر الزيادة والنقيصة بالغفلة ، ولا معنى لأن يقال أن النقل كان بالمعنى فأزاد أو انقص أن هذا لا وجه له ، لأن الذي ينقل بالمعنى هو أبو بصير حينما ينقل عن الإمام أو ابن رئاب الذي سمع الرواية من أبي بصير ، أما غير هذين فلا ينقلون بالمعنى ولا معنى لأن يختصر الرواية فيحذف بعض الألفاظ أو يزيد ، فينحصر أمر الزيادة والنقيصة آنذاك بالغفلة.

 إذن ينبغي التفصيل في هذا المجال بالشكل الذي أشرنا إليه وحيث انه في مقامنا كان الراوي عن الإمام واحداً وهو أبو بصير وكان الراوي عن أبي بصير واحداً وهو ابن رئاب فيتعين أن تكون الزيادة والنقيصة قد حصلت من الراوي عن ابن رئاب أو من الراوي عن الراوي المذكور - يعني من الحسن بن محبوب أو غيره إلى الشيخ الطوسي أو الشيخ الصدوق - فيكون منشأ ذلك هو الغفلة ، فان أمثال هؤلاء لا ينقلون بالمعنى ، وهذا تفصيل ظريف يجدر الالتفات إليه. إذن ينحصر الجواب عن هذا الوجه بما أشرنا إليه ، أعني إنكار الكبرى وانه لا دليل على كون أقوائية إحدى الغفلتين موجبة للترجيح .