36/07/09


تحمیل
الموضـوع:- مسألة ( 14 ) - المكاسب المحرمة -كتاب التجارة.
ثم إنّ ههنا أموراً ترتبط بالحث المذكور:-
الأمر الأوّل:- قد يستدلّ على الجواز بما ورد في صحيحة أبي بصير من أن المسلمين كانوا يشترون المصاحف بعدما كان الرجل منهم يكتب المقدار الذي يتمكّن عليه في الأوراق الموضوعة بين الحائط والمنبر وبعد ذلك قال الإمام عليه السلام:- ( ثم إنهم اشتروا بعد ذلك )[1]، وهذه سيرةٌ للمسلمين في زمان النبي صلى الله عليه وآله أو في زمان المعصوم بعد النبي، فهي سيرة متشرعة وتدلّ آنذاك على الجواز.
إذن نثبت وجود سيرةٍ في زمان المعصوم على الشراء بقطع النظر عن البيان الذي ذكرناه، وإنما نثبت هذه السيرة من خلال هذه الرواية حيث يصرّح الإمام عليه السلام بذلك.
والجواب:- إنّ هذه سيرةٌ وعملٌ صامت، بمعنى أنّه لم يبيّن كيفّية الشراء وهل كانوا يشترون الورق والدفتين من دون الخطوط والنقوش أو كانوا يشترون النقوش أيضاً ؟! إن هذا لم تشر إليه الرواية ولا مثبت له إلّا البيان الذي أشرنا إليه وبذلك عدنا إلى البيان الذي أشرنا إليه ولم نستفد من هذه الرواية شيئاً زائداً.
الأمر الثاني:- ذكر الحاج ميرزا علي الايرواني(قده) في حاشيته على المكاسب[2] أنّ النهي عن شراء المصاحف بمعنى النقوش ليس نهياً تكليفياً فقط وإنما هو لبيان الفساد أيضاً.
فإذن هناك حرمتان حرمة تكليفيّة وحرمة وضعيّة، حيث قال ما نصّه:- ( المراد من الحرمة ما يعمّ الفساد دون مجرّد الحكم التكليفي ).
وفيه:- ما المقصود من كلامه هذا ؟ فهل يقصد أنّ النهي الوارد في الرواية بلسان ( لا تشتر كتاب الله ) يستفاد منه كلتا الحرمتين ؟ إنّه شيءٌ لو أمكن في حدّ نفسه وقلنا بإمكان الاستعمال في أكثر من معنىً واحد فهو على الأقل مخالفٌ للظاهر ويحتاج إلى قرينة، فإرادة كلتا الحرمتين يحتاج إلى قرينة ولا قرينة في المقام على ذلك فإذن كيف تستفيد كلتا الحرمتين !!
نعم بالإمكان أن نفترض وجود دالٍّ يدلّ على الحرمة التكليفيّة ويوجد دالٌ ثانٍ يدلّ على الحرمة الوضعيّة كما في بعض المعاملات السابقة حيث حكم فيها بكلتا الحرمتين لوجود دالّين، وهنا لا يوجد دالّان بل أقصى ما يوجد هنا هو نهيٌ وإرادة كِلا المعنيين منه مخالفٌ للظاهر، فلا مثبت لإرادة كِلا المعنيين.
والمناسب الحمل على الحرمة التكليفيّة حتى لو بنينا على المقالة التي تقول إنّ النهي في باب المعاملات ظاهرٌ بالظهور الثانوي في الارشاد إلى الفساد فإنّه حتى لو سلّمنا بهذا الظهور ولكن في خصوص المقام نقول إنَّ هذا النهي نهي تكليفي لأنّ قضيّة كتاب الله عزّ وجلّ قضيّة مقدّسة فتريد الروايات أن لا يجعل الثمن في مقابل نفس الكتابة، إنّه شيء وجيهٌ في حدّ نفسه، فذلك الظهور الثانوي في خصوص المقام لا يمكن المصير إليه لأجل هذه النكتة فيبقى الظهور الأوّلي - وهو الظهور في الحكم التكليفي - بلا منازع . إذن المناسب الحرمة التكليفيّة لو بنينا على الحرمة ونحن لم نبنِ عليها، ولكن لو بنينا عليها فنقول بالحرمة التكليفيّة دون الوضعيّة.
الأمر الثالث:- ذكر الحاج ميرزا علي(قده) أيضاً أنّ الروايات وإن كانت خاصّة بالنهي عن البيع والشراء ولكن يمكن أن يقال بالتعدّي إلى سائر النواقل الاختياريّة سواء كانت بعوضٍ أو بغير عوض بل وغير الاختياريّة كالإرث، ونصّ عبارته:- ( مورد الأخبار المانعة هو البيع ويمكن جعلها كناية عن مطلق النواقل الاختيارية بل إلى عدم قبوله للنقل ولو بالأسباب غير الاختيارية كالإرث )[3]، هذا ما ذكره(قده) ولم يذكر لذلك توجيهاً ومقرِّباً فهو مجرّد دعوى، فلابد وأنّه لا يوجد عنده من مدركٍ إلّا الجزم بإلغاء الخصوصيّة ولا يوجد مدركٌ آخر.
ولكن يمكن أن يقال:- إنّ احتمال الخصوصية ثابتٌ باعتبار أنّ كتاب الله عزّ وجلّ لا يناسب أن يجعل في مقابله ثمن - ويكفيني الاحتمال -، وعليه فلا يتمّ ما ذكره(قده)، فنحن نحتمل أنّ لكتاب الله عزّ وجلّ خصوصيّة فهو مقدّسٌ من مقدّساتنا ولا يناسب وضع ثمن في مقابله فإنّه لا يُقدّر بالأموال بل هو فوقها، وعلى هذا الأساس لو أردنا أن نتعدّى فالمناسب التعدّي إلى النواقل التي تشتمل على معاوضة كالهبة المعوّضة لا أن يتعدّى إلى الهبة غير المعوّضة أو إلى الإرث، وغريبٌ أنه كيف يقول بالتعدّي حتى للإرث فلو مات الإنسان فقرآنه لمن يكون ؟! إنّ هذا مخالفٌ لما عليه السيرة بل ذكرت روايات الحبوة أنَّ المصحف ينتقل إلى الولد الأكبر.
بل نصعّد اللهجة معه فنقول:- إنّه يمكن أن يقال بالجواز حتى في الهبة المعوّضة بناءً على البيان الذي ذكره الشيخ الأعظم(قده) في المكاسب، فإنه في مقام تعريف البيع ذكر على أنّ البيع هو تمليك عينٍ بعوضٍ وأخذ يذكر إشكالات عليه ويدفعها وأحد هذه الاشكالات هو أنّ الهبة المعوّضة هي أيضاً تمليكٌ بعوضٍ فينتقض تعريف البيع بالهبة، وبماذا أجاب هناك ؟ إنّه أبرز احتمالاً بل لعلّه بنى عليه وهو أنّ الهبة ليست تمليكاً بعوضٍ بل هي تمليكٌ في مقابل تمليكٍ، فحينما أملكك المسبحة بشرط أن تعطيني خاتماً ففي مثل هذه الحالة الهبة ليست تمليكاً للمسبحة بالخاتم بل هي تمليكٌ لها مقابل تمليك الخاتم، فيوجد تمليك مقابل تمليك لا أنه يوجد تمليك في مقابل عوض.
إنّه بناءً على هذا نقول إنّه حتى الهبة المعوضة تصير جائزةً ولا مشكلة فيها[4].
الأمر الرابع:- ذكر الشيخ الأعظم(قده)[5] كلاماً قد يوحي بأنّه إشكالاً في المسالة، فإنّه ذكر أنّ الروايات قالت لا تجعل الثمن مقابل المصحف - يعني الكتابة والنقوش والخط -.
وهنا نقول:- توجد أربعة احتمالات في المقصود من ( لا تجعل الثمن مقابل النقوش والكتابة )، ولكنّها قابلة للإشكال:-
الاحتمال الأوّل:- أن يفترض أنّ النقوش ليست مملوكةً لأحدٍ أبداً بل هي غير قابلة للملكيّة وإنما المملوك هو الأوراق، نعم ترتفع قيمة الأوراق بوجود تلك النقوش والكتابة عليها والثمن يزداد على الأوراق بسبب تلك النقوش ولكن كلّ الثمن هو على الأوراق لا النقوش فإنّ النقوش غير مملوكة أبداً حتى لصاحب الأوراق بل هو يملك الأوراق فقط.
ويرد عليه:- إنّه إذا لم تكن مملوكةً وغير قابلة للنقل لأنها غير مملوكة فلا داعي إذن للنهي فإنّه لا وجه له.
إذن وجود النهي عن جعل الثمن مقابل النقوش يفهم منه أنّ النقوش مملوكةً وإلّا كان النهي لغواً وبلا معنى.
الاحتمال الثاني:- أن نقول إنّها مملوكة لصاحب الأوراق ولكن سنخ ملكيّة غير قابلةٍ للنقل والانتقال.
ولكن نقول:- إنَّ لازم هذا الشركة، فحينما يبيع صاحب المكتبة المصحف لازمه أنّ النقوش تكون له وأما المشتري فتكون له الأوراق وهذا خلاف الاتفاق - يعني خلاف اتفاق الفقهاء أو خلاف اتفاق المتعاقدين لأنّ مقصودهم هو أن يكون ملكاً خالصاً للمشتري -.
ونحن نضيف ونقول:- هو خلاف ما عليه سيرة المتشرّعة، يعني أنّ المتشرعة لا يبنون على أنّ من اشترى مصحفاً فهو يكون مشتركاً بينه وبين البائع، فسيرة المسلمين ليست على الاشتراك، وعليه يكون هذا الاحتمال باطلاً أيضاً.
الاحتمال الثالث:- أن نقول إنّها قابلة للملكّية وفي نفس الوقت قابلة للنقل وقابلة لأن يوضع ازائها جزءٌ من الثمن، ولكن نقول إنّه بناءً على هذا لماذا تنهى الأخبار وتقول لا تضع شيئاً من الثمن مقابل الكتابة فإن لازم هذا الاحتمال جواز وضع جزءٍ من الثمن مقابل النقوش لا النهي عن ذلك ؟!!
إذن هذا الاحتمال باطل أيضاً.
الاحتمال الرابع:- أن نقول إنّها مملوكة وقابلة للنقل ولكن لا تقبل وضع شيءٍ كجزءٍ من الثمن في مقابلها، فالانتقال بثمنٍ لا تقبله وإنما تقبل الانتقال القهري، فمن يبيع الأوراق لا يمكن أن يجعل جزء من الثمن مقابل النقوش وإنما تنتقل النقوش تبعاً للأوراق بشكلٍ قهريّ وغير مقصود.
وناقشه(قده):- بأنّه خلاف مقصود المتبايعين، فإنهما حينما قرّرا الثمن قرّراه أن يكون مقابلاً للمجموع بما في ذلك النقوش لا للدفتين والأوراق.
مضافا ًإلى أنّه يمكن أن نقول:- إنّه على هذا الاحتمال صار جزءٌ من الثمن مقابل النقوش، فإنّك في الصورة والشكل لا تجعل جزءاً من الثمن مقابل النقوش بل تجعل المجموع مقابل الأوراق ولكن روحاً أنت قد زدت في الثمن لأجل النقوش، فمن حيث الروح قوبلت النقوش بالثمن ولكن من حيث الصورة والشكل الظاهري لم يجعل جزء من الثمن في مقابلها، فالمسألة صوريّة لا واقعيّة إذ واقعاً حتى لو جعلت الثمن في مقابل الأوراق فأنت قد جعلت جزءاً منه مقابلاً للنقوش لبّاً وواقعاً ولكن من حيث الصورة والشكل أخذت النقوش قيداً في الأوراق لا أنها جزء من المبيع يُقابل بجزءٍ من الثمن، فالمسألة صوريّة وليست جوهرية.
وبهذا ختم(قده) كلامه.
إذن توجد أربعة احتمالات في المقصود من النهي عن جعل جزءٍ من الثمن مقابل النقوش وكلها يمكن مناقشتها.


[2] الحاشية على المكاسب، الايرواني، ج1، ص303.
[3] الحاشية على المكاسب، الميرزا علي الايرواني، ج1، ص303.
[4] تراث الشيخ الانصاري، الانصاري، تسلسل16، ص14.
[5] تراث الشيخ، الانصاري، تسلسل15، ص160.