37/03/04


تحمیل

الموضـوع:- مسألة ( 17 ) حرمة الغناء - المكاسب المحرمة -كتاب التجارة.

وفيه:- إنّه لابد من الالتفات الى قضيّة فنية ، وهي أنّ المورد ليس من موارد الإطلاق بل من موارد حذف المتعلّق ، فإنه في باب الإطلاق يفترض وجود مفهوم يتمسّك بإطلاقه حيث لم يقيّد مثل ( اعتق رقبة ) فكلمة رقبة تدلّ على مفهوم الرقبة وحيث لم يقيّد نتمسّك بإطلاقه ، وفي المقام لا يوجد مثل هذا المفهوم الذي يصلح التمسّك بإطلاقه ، فهل نتمسّك بإطلاق مفهوم ( الاجتناب ) فإنّ هذا لا معنى له لأنّا لا نريد إثبات إطلاق الاجتناب ، أو أنّنا نتمسّك بإطلاق ( الغناء ) فهذا أيضاً لا معنى له ، بل هناك كلمة محذوفة مقدّرة ، وحينئذٍ يكون المورد من موارد حذف المتعلّق ، فلعل تلك الكلمة المقدّرة هي فعل الغناء – أي ( اجتنبوا فعل الغناء وصدوره وايجاده ) - فإذا كانت الكلمة المقدّرة هي هذه فحينئذٍ تثبت حرمة ايجاد الغناء أمّا الاستماع فلا ، وإذا كان المقدّر هو الاستماع فسوف تثبت حرمة الاستماع ، وإذا كان المقدّر هو مفهومٌ أعمّ - أي ( اجتنبوا ما يرتبط بالغناء ) - ومفهوم ( ما يرتبط ) مفهومٌ عام يشمل الإيجاد والاستماع.

فالمورد من موارد حذف المتعلّق وليس من موارد الإطلاق ، وهذه قضيّة فنية تترتّب عليها قضيّة علميّة ، وهي أنّه إذا كان المورد من موارد الإطلاق فلا إشكال في حجيته - فلا يوجد أصولي وفقيه يشكك في حجية الإطلاق - ، وأمّا إذا كان المورد من موارد حذف المتعلّق فقد يشكك في دلالته على العموم كما أشرنا إلى ذلك في بعض الأبحاث حيث أنّه ماذا نقدّر ؟ فإنّ السعة والضيق تتبعان ما نقدّره ، فإن قدّرنا المفهوم الوسيع - كما قلنا وهو ( ما يرتبط بالغناء ) - يثبت حينئذٍ العموم والسعة ، وإذا قدرنا المفهوم الضيّق فالنتيجة تكون حينئذٍ ضيّقة وليست مطلقة.

وليس عندنا إلا أن ندّعي أنّ العرف يرى أنّ نفس حذف المقدّر فيه دلالة عرفاً على أنّ المتكلم يريد الأعم ، فإن ثبت هذا - وأنَّ العرف يقول هذا حقاً - فيثبت العموم ، وفي البلاغة يذكر عادةً أنّ هذا من أحد أساليب العموم ، ولعل المنشأ الذي أخذنا منه هذه الفكرة هو البلاغة ، فإن ثبت أنّ العرف يرى ذلك حقّاً يثبت حينئذٍ العموم ، أمّا إذا لم يثبت ذلك كما هو ليس ببعيدٍ فلا يثبت العموم.

والشيء المهم الذي أريد أقوله:- هو أنّا ذكرنا فيمما سبق مناقشةً للاستدلال بهذه بالآية الكريمة ، حيث قلنا إنّ كلمة ( الزور ) لا تختصّ بالغناء وإنما الزور يعني الباطل ، فكلّ باطلٍ هو زورٌ ومن مصاديق الباطل الواضحة الغناء ، والإمام عليه السلام بيّن المصداق الواضح للزور - وهو الغناء - ، وإذا كان الأمر كذلك – يعني أنَّ الزور يقصد منه مطلق الباطل - فحينئذ نقول إنَّ مطلق الباطل كما يشمل الغناء يشمل الأمور الأخرى العبثيّة كالجلوس مع الأصدقاء وقضاء فترةٍ من الوقت بالضحك والكلام غير النافع فإنّه مصداقٌ من مصاديق الباطل أيضا أو ما شاكل ذلك ، فعلى هذا الأساس لابد وأن نعمل نحن تقييداً إمّا في ( اجتنبوا ) فلابد وأن نتصرّف ونحافظ على ظهور ( الزور ) في الأعم ، فإذا حافظنا على ظهوره في الأعم فكلمة ( اجتنبوا ) نحملها على مطلق المبغوضيّة الشاملة للحرمة والكراهة ، أو أن نخصّص كلمة ( الزور ) بالمحرّمات بالغناء والكذب وما شاكله فنحافظ آنذاك على ظهور كلمة ( اجتنبوا ) في الحرمة.

فنحن نواجه ظهورين ظهور ( اجتنبوا ) في الحرمة وظهور ( الزور ) في الأعم الشامل للغناء ولغيره ، وحينئذ لابدّ من التصرف في أحدهما ويحصل الإجمال في مثل ذلك ، فاستفادة التحريم إذن شيءٌ مشكلٌ ، وهذه قضية من الجدير التعرّض إليها في علم الأصول تحت عنوان ( إذا كان عندنا حكمٌ وموضوعٌ والحكم كان ظاهراً في معنىً الموضوع كان ظاهراً في معنىً ولم يمكن الأخذ بالظهورين معاً فهل نقيد الموضوع بقرينية ظهور الحكم أو نعكس أي نغيّر ظهور الحكم فنحمله على مطلق المبغوضيّة والحزازة بقرينية عموم الموضوع ؟ ) فإذا قلنا يحصل إجمالٌ فلا يمكن التمسّك حينئذٍ بالآية الكريمة.

إن قلت:- إنّ الإمام عليه السلام قد تمسّك بها فكيف تشكك في صحّة التمسّك بها ؟

قلت:- إنَّ الإمام عليه السلام ذكر أنّ الغناء من الزور لكنه لم يذكر أنّ الآية الكريمة تدلّ على الحرمة ، فلو قال ( الغناء حرام لقوله تعالى " واجتنبوا الزور " فإنّ الغناء من الزور ) لكان ذلك صحيحاً ، ولكنه لم يقل ذلك وإنما ذكر الآية الكريمة فقط وقال ( الزور هو الغناء ).

فعلى هذا الأساس استفادة التحريم من الآية الكريمة شيءٌ مشكل.

وقد يقول قائل:- إنّ هذا ليس من التفسير بالمصداق وإنما هو من باب بيان الموضوع وأنّ الزور خصوص الغناء لا أنّ الغناء من مصاديق الزور.

قلت:- هذه قضيّة سيّالة ، فإنّ الروايات كثيراً ما تفسّر المفاهيم الواسعة ببعض المصاديق ، فهل ذاك من باب الحصر أو من باب بيان المصداق ؟ إنَّ الأمر إليك ، فالآيات توضح أنّ مصاديق الصادقين هو مولانا أمير المؤمنين عليه السلام ، ولكن هل هذا من باب أنّ مفهوم الصادقين ينحصر بأمير المؤمنين عليه السلام أو أنَّ المصداق الذي حصل اتفاقاً هو هذا فيكون بياناً للمصداق ولعلّه لا يوجد مصداق ثانٍ لكن هذا بيان مصداق ؟!! فإذا أردنا أن نقول هو من بيان المصداق وأنّ المفهوم يبقى على سعته وعمومه وذكر المصداق لا يدلّ على الحصر فحينئذ لا يمكن استفادة الحصر.

وموردنا من هذا القبيل ، فصحيحٌ أنّه لم يقل ( منه الغناء ) فإنّ هذا لا داعي له بل هو بيّن الغناء يعني أنّه من مصاديقه ، وهذا احتمالٌ وجيهٌ إن لم نقل هو الظاهر ، فلا أقل هي مجملةٌ من هذه الناحية .

ومن خلال هذا كلّه يتضح التأمل فيما أفاده الشيخ النراقي(قده):- فإنّه ذكر ما نصّه:- ( ثم إنه كما يحرم الغناء يحرم استماعه ايضاً بالإجماع والروايات المتقدّمة )[1] .

إنّه تمسّك بالإجماع وبالروايات:-

أمّا الإجماع:- فيشكل التمسّك به ، باعتبار أنّه يوجد مدركٌ وهو الروايات ، ومع وجود مدرك جزميّ أو محتمل لا يكون للإجماع حجية ، فإنّ حجيته هي من باب كاشفيته يداً بيد عن رأي المعصوم عليه السلام ، وهذه الكاشفية إنما نجزم بها إذا لم يكن هناك مستند آخر جزميّ أو محتمل ، أمّا مع وجوده فهذه الكاشفيّة الجزميّة ليست موجودة ، فالإجماع لا يمكن التمسّك به كدليل ، نعم كونك تبيّن واقع في المسألة فهذا شيءٌ آخر ، أما أن تأخذه كدليلٍ كما أراد(قده) فلا.

وأما قوله ( الروايات المتقدّمة ):- فقد اتضح أنّ تلك الروايات التي ذكرناها قابلة للتأمل والمناقشة.

والأجدر في مقام الاستدلال على حرمة الاستماع التمسّك بالوجهين التاليين:-

الأوّل:- ما تمسّكنا به لإثبات حرمة صدور الغناء وفعله ، فنفس ذلك الدليل نسحبه إلى الاستماع ، وكان حاصله وهو أنّ المسألة ابتلائية ، ويحتاج المسلمون إلى التعرف على حكمها ، والمسألة الابتلائية يلزم أن يكون حكمها واضحاً ، والحكم الواضح لابد وأن ينعكس على فتوى الفقهاء ، وحيث إنّ المنعكس على فتواهم هو حرمة صدور الغناء وحرمة الاستماع فيدلّ على أنّ ذلك الحكم الواضح الذي كان عند صحابة الأئمة عليهم السلام كان هو الحرمة.

وواضحٌ - كما قلنا سابقاً – أنَّ دليلية هذا الدليل ترجع علمياً وفنّياً إلى الاطمئنان أو القطع ، يعني يحصل للفقيه قطعٌ أو لا أقل اطمئنانٌ بأنّ ذلك الحكم الواضح المنعكس في أجواء أصحاب الأئمة هو الحرمة ، وإلا فبقطع النظر عن ذلك فلا ينفع شيئاً.

الثاني:- أن نقول إنّ نفس دليل حرمة الغناء وإيجاده هو بنفسه يدلّ عرفاً وبالملازمة العرفية على حرمة الاستماع سواء كان ذلك الدليل لفظياً أو غير لفظي ، فالمهم أنّه إذا ثبتت حرمة الغناء بمعنى صدوره تثبت حرمة الاستماع.

والوجه في الملازمة العرفية:- هو أنّ المفاسد المترتبة على صدور الغناء هي مترتبة على الاستماع أيضاً لو لم تكن تلك الآثار أكثر ، فحيثية الطرب وحيثية الانحراف والفساد المترتب على الغناء تكون مترتبة على استماعه أكثر ، فهي إمّا مساوية أو أكثر ، وبناءً على هذا فنفس ما دلّ على حرمة صدور الغناء يدلّ على حرمة الاستماع.

ولكن التمسّك بهذا الوجه موقوفٌ على الجزم بهذا الجزم العرفي للملازمة ، فإن جزمنا بوجود فهمٍ عرفيّ من هذا القبيل فيتشكّل حينئذٍ للدليل دلالة التزامية ، والدليل كما هو حجّة في مداليله المطابقية حجّة في مداليله الالتزامية ، أمّا إذا أنكرنا أو شكّكنا في هذا الفهم العرفي فحينئذٍ لا قيمة لهذا الدليل.

وأنا حينما ذكرت المفاسد والتوالي الفاسدة لا أريد التمسّك بها فإنّ هذا عبارة أخرى عن فكرة مقاصد الشريعة ، بل الحجّة عندنا هي أحد أمرين الأول الظهور أو الصراحة فإذا كان يوجد ظهورٌ للدليل أو صراحة تمسكنا به وهو الحجة ، والثاني القطع أو الاطمئنان ، فنحن كلّ مستنداتنا لابد وأن ترجع إلى هذين المدركين ، فإذا لم يرجع الدليل إلى أحد هذين فلا قيمة له.

إذن حينما تمسّكت بالمفاسد لا من باب إرادة جعلها كدليل بل من باب المنبّه العرفي على وجود هذه الملازمة ، وأترك المجال لك وسيعاً ، فإذا كنت تعتقد بوجود هذا الظهور في الملازمة عرفاً فبها ، وإن لم تعتقد به فحينئذٍ لا يمكن التمسّك بذلك ، ولكني أرى أنّ من أراد أن يدّعي هذا الظهور فهو شيءٌ ليس بالبعيد.

وعلى أيّ حال الاستماع هو محرّمٌ لهذين الوجهين.

أمورٌ ثلاثة:-

الأمر الأوّل:- بعد أن بنينا على حرمة استماع الغناء نسأل:- هل المحرّم هو الاستماع بعنوانه أو ما يشمل السماع ؟

وفرقٌ بين المطلبين ، فالاستماع معناه الإصغاء ، والسماع هو أن يطرق سمعه الغناء من دون إصغاء ، فهل السماع محرّمٌ أيضاً كالاستماع أو أنّ الاستماع فقط هو المحرّم دون السماع ؟