37/01/26


تحمیل

الموضـوع:- مسألة ( 17 ) - المكاسب المحرمة -كتاب التجارة.

كان كلامنا في إثبات حرمة الغاء وفي هذا المجال ذكرنا الآيات والروايات ، ثم بعد ذلك ذكرنا وجهاً آخر لإثبات الحرمة وهو وجه مركّب من مقدّمات أربع ، والآن أريد بيان مطلبين:-

الأوّل:- يرتبط بالوجه المتقدّم - المركب من مقدّمات أربع -.

الثاني:- هناك روايات أخرى قد يتمسّك بها لإثبات حرمة الغناء ، ولكن الذي يستحقّ الذكر هو روايات ثلاث.

وأوّلاً نبيّن المطلب الذي يرتبط بالوجه المتقدّم ، ثم نذكر الروايات - وهذا استدراكٌ للروايات-.

أمّا المطلب المرتبط بالوجه المتقدّم:- فهو أنّه قد يشكل على الوجه الذي ذكرناه[1] بأنّه إن قلت:- لعلّ فقهاءنا ذهبوا إلى الحرمة لا من باب أنّ الحرمة هي الحكم الذي كان واضحاً في وسط أصحاب الأئمة عليهم السلام وإنما نشأ ذلك من فهمهم للروايات التي أشرنا إليها ، وفهمهم وإن كان مورد التقدير ولكن حيث إنّ الروايات متعدّدة فهذا الفهم لم يتمركز على محورٍ واحدٍ وروايةٍ واحدةٍ ، فلو كان الموجود في البين رواية واحدة فيمكن أن يقال إنَّ تمركز فهم الفقهاء جميعاً على استفادة الحرمة يكون داعماً للدلالة فيحصل اطمئنانٌ بأنّ هذا الجمع الغفير من الفقهاء من البعيد أنّهم اشتبهوا في فهمهم وأنا الآن وحدي أفهم شيئاً آخر ، ولكن بعد أن كانت الروايات متعدّدة فلعلّ جماعة منهم استندوا إلى هذه الرواية وجماعة ثانية استندت إلى تلك الرواية وجماعة ثالثة استندت إلى رواية أخرى .... وهكذا.

إذن لم يتمركز الفهم على ورايةٍ ومحورٍ واحدٍ فلا يمكن حينئذٍ أن يحصل الاطمئنان من ذهابهم إلى الحرمة.

قلت:- إنّ المسألة مادامت عامّة البلوى حسب اتفاقنا جميعاً ، والمسالة عامّة البلوى يلزم أن يكون حكمها واضحاً - وهذه قضيّة مسلّمة لا اختلاف فيها - فإذن يلزم أن يكون هناك حكم واضحاً للغناء في أجواء أصحاب أئمة أهل البيت عليهم السلام ، فلو كان ذلك الحكم الواضح هو الاباحة أو الكراهة فلا يحتمل أن يترك الجميع ذلك الحكم الواضح ويصير إلى الحرمة ، بل من المناسب إمّا أن يذهب الجميع إلى الاباحة أو لا أقل تصير المسألة خلافيّة والحال نحن لا نرى ذلك بل المعروف بينهم هو الحرمة ، فنستكشف من ذلك أنّ الحكم الواضح كان هو الحرمة دون الاباحة وأنّ ما ذهبوا إليه لا يستند إلى الروايات وإنما الرايات داعمةٌ لما كان واضحاً في تلك الأجواء.

وأمّا بالنسبة إلى الروايات:- فقد قلنا توجد ثلاث روايات يمكن أن تذكر في هذا المجال لإثبات الحرمة اثنين منها يمكن ذكرهما في صفّ تلك الروايات الأولى التي قلنا بأنّ دلالتها ضعيفة ، وواحدة تكون في صفّ الروايات اليت كانت دلالتها لا بأس بها.

أما الروايتان ضعيفتا الدلالة فهما:-

الرواية الأولى:- موثقة - أو صحيحة - مسعدة بن زياد وهي:- محمد بن يعقوب عن علي بن إبراهيم عن هارون بن مسلم عن مسعدة بن زياد قال:- ( كنت عند أبي عبد الله عليه السلام فقال له رجل:- بأبي أنت وأمّي إنّي أدخل كنيفاً ولي جيران وعندهم جوارٍ يتغنين ويضربن بالعود فربما أطلت الجلوس استماعاً منّي لهن ، فقال عليه السلام:- لا تفعل ، فقال الرجل:- والله ما آتيهن إنّما هو سماع أسمعه بأذني ، فقال عليه السلام:- لله أنت[2] - يا لله أنت - أما سمعت الله يقول " إن السمع والبصر والفؤاد كلّ أولئك كان عنه مسؤولاً "، فقال:- بلى والله لكأني لم أسمع بهذه الآية من كتاب الله من عربيّ ولا عجميّ لا جرم أنّي لا أعود إن شاء الله وإنّي استغفر الله ، فقال له:- قم فاغتسل وصلّ[3] - وسل - ما بدى لك فإنّك كنت مقيماً على أمرٍ عظيمٍ ما كان أسوأ حالك لو متّ على ذلك فاحمد الله وسله التوبة من كلّ ما يكره فإنّه يكره كلّ قبيح والقبيح دعه لأهله فإنّ لكلٍّ أهلاً )[4] ، وسندها يمكن أن يقال بأنّه صحيح.

وموضع الدلالة قوله عليه السلام ( لا تفعل ) ، فإن السائل قال ( ربما أطلت الجلوس استماعاً مني لهن ) والإمام عليه السلام قال ( لا تفعل والنهي ) والنهي - كما تقرر في الأصول - أنه ظاهر في الحرمة.

نعم قد يشكل ويقال:- إنّها ناظرة إلى حيثية الاستماع ومحلّ كلامنا ليس فيه وإنما هو في نفس عمليّة الغناء - أي في نفس كون الإنسان يغنّي وهل هو جائز أو لا أمّا استمتاع الغناء فسوف يأتي حكمه - ، فهذه الرواية إذن أجنبية عمّا نريد.

قلت:- إنّه يمكن أن يدّعى وجود ملازمة عرفيّة بين حرمة الاستماع إلى شيءٍ وبين كون ذلك الشيء محرّماً ، فإنه لو كان مباحاً فمن البعيد أن يصير سماعه أو استماعه محرّماً ، نعم هو ممكنٌ عقلاً ولكن عرفاً هو شيءٌ بعيد.

إذن من الوجيه أن ندّعي وجود ملازمة عرفيّة بين حرمة الاستماع وبين حرمة صدور نفس الشيء . فإذن لا مشكلة من هذه الناحية.

نعم يشكل عليها بإشكالين:-

الأوّل:- إنها اقترنت ببعض المستحبات من قبيل ( قم فاغتسل ) و ( صلّ - سل - ما بدى لك ) و ( فاحمد الله ) وهذا يزيل ظهوره في الحرمة ويكون قد اقترن به ما يصلح للقرينية على إرادة الاستحباب فيصير مجملاً ، نعم على مسلك حكم العقل لا يصير أيّ إجمال.

وهذا الاشكال مبنيّ على المبنى في مسألة استفادة الوجوب وهل أنّ الحرمة مستفادة من الوضع أو من حكم العقل.

الاشكال الثاني:- إنّ المفروض في هذه الرواية هو أنّ الذي يغنّي كان من النساء ، ويضربن العود ، فلعلّ الحرمة هي بسبب ضرب العود واستماع صوت العود وكونه من النساء ، فلعل الحرمة ثابتة لصوت العود واستماع صوته لا أنّ نفس الغناء محرّم ، إذ لعلّ نفس الغناء جائز ولكن استماع صوت العود شيء محرّم والرواية مجملة من هذه الناحية ، فهي لم تقل هي محرّمة من ناحية الغناء ، فلا يصحّ التمسك بها لإثبات حرمة الغناء.

إن قلت:- سوف يتشكّل علم إجمالي بأنّ قول الإمام عليه السلام ( لا تفعل ) إمّا لحرمة الغناء أو لحرمة صوت العود ، وحيث إنّ العلم الاجمالي منجّز فيثبت بذلك أنّ الغناء محرّم غايته لا لعنوانه الخاص وإنما بسبب العلم الإجمالي ، والنتيجة نفس النتيجة إذ بالتالي لا يجوز فعله واستماعه ولو لأجل العلم الإجمالي ، وهذا طريقٌ علميٌّ لإثبات الحرمة.

قلت:-

أوّلاً:- هذا يتمّ إذا لم يثبت بالدليل - وهذا ما سوف يأتي إن شاء الله تعالى - من الروايات حرمة العود واستماعه وصوته والضرب به ، أمّا إذا ثبت بالدليل من خلال الروايات أنّ ذلك محرّم فسوف ينحلّ هذا العلم الاجمالي لأنّه بضمّ تلك الروايات سوف يثبت أنّ العود لا إشكال في حرمته فيبقى حينئذٍ الشك من ناحية الغناء شكاً بنحو الشبهة البدوية فيكون مجرى للبراءة ولا يتشكّل علمٌ إجمالي آنذاك.

ثانياً:- لعلّ المحرّم هو مجموع الأمرين - يعني الغناء المقيّد بضرب العود وسماعه - ، فليس العود وحده هو المحرّم ، ولا الغناء وحده هو المحرّم ، بل المحرّم هو المجموع.

إن قلت:- هذا لا يضرّ لأنّه بالتالي سوف يصير عندنا علم إجماليّ ثلاثي الأطراف بدل كونه ثنائي الأطراف ، فنعلم إجمالاً بسبب هذه الرواية بحرمة إمّا الغناء ، أو صوت العود ، أو المجموع ، فبالتالي يكون العلم الإجمالي باقياً على حاله ويؤدّي نفس النتيجة.

قلت:- إنَّ المجموع بما هو مجموع مجزوم الحرمة ، فإنّ الغناء بإضافة العود لا إشكال في حرمته - يعني أنَّ الرواية سواء كانت دالة على حرمة الغناء أو كانت دالة على حرمة العود فسوف تكون حرمة المجموع ثابته بلا إشكال - ، فعلى هذا الأساس يكون الشك بلحاظ الغناء وحده أو العود وحده شكاً بنحو الشبهة البدوية فعاد ذلك الاشكال.

إذن هذه الرواية لا يمكن التمسّك بها لما أشرنا إليه.

الرواية الثانية:- موثقة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال:- ( سمعته يقول:- الغناء ممّا وعد الله عليه النار ، وتلى هذه الآية:- " ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضلّ عن سبيل الله بغير علمٍ ويتخذها هزواً أولئك لهم عذاب مهين " )[5] .

وقد أشرنا إلى هذه الرواية عند إشارتنا للآية الثانية من الآيات الأربع التي قلنا بأنّه قد يتمسّك بها لإثبات حرمة الغناء ، ومورد الشاهد هو قوله ( سمعته يقول:- الغناء ممّا وعد الله عليه النار ) وهذه صريحة في الحرمة.


[1] والذي هو مركب من مقدمات أربع - أعني إنّ مسألة الغناء عامة البلوى، وكل قضيّة عام البلوى يلزم أن يكون حكمها واضحاً، وإن الحكم الواضح يلزم أن ينعكس على فقهاءنا، وإن ما عليه فقهاءنا والمعروف بينهم هو الحرمة، فيثبت بذلك أن الحكم الواضح هو عبارة عن الحرمة ولذلك انعكس على الفقهاء -، وقلنا لا يلزم أن تكون المسألة اجماعية بل يكفي كونها مشهورة في الوسط المتقدّم من فقهائنا.
[3] وهذا ما هو موجود في الوسائل أما في المصدر فالموجود هو لفظ ( وسل ).