32/10/18


تحمیل
 القضاء هو فصل الخصومة بين المتخاصمين ، والحكم بثبوت دعوى المدّعي أو بعدم حق له على المُدّعى عليه (1)
  (1) كلٌّ من الأمرين أعني الحكم بثبوت دعوى المدّعي والحكم بعدم ثبوت حق له على المُدّعى عليه يُمثّل فصل الخصومة ، وينبغي التعرّض أوّلاً لبيان معنى القضاء في اللغة والاصطلاح :
 فالقضاء في اللغة يُطلق على معانٍ عديدة أنهاها بعضهم إلى عشرة كما نقله الشيخ صاحب الجواهر (قده) [1] ولعل المقصود بهذا البعض صاحب مجمع البيان حيث ذكر المعاني التي يُستعمل فيها القضاء [2] وذكر معاني عديدة أنهاها إلى عشرة وذكر مثالاً لكل واحد من هذه المعاني فمثلاً ذكر قوله تعالى : " وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه " [3] فقال إن القضاء هنا بمعنى الأمر والوصية ، وذكر قوله تعالى : " وقضينا إلى بني إسرائيل " [4] فقال إن القضاء هنا بمعنى الإعلام والإخبار ، وذكر قوله تعالى : " فإذا قضيتم مناسككم " [5] فقال إن القضاء هنا بمعنى الفراغ عن الشيء وإتمامه ، وذكر قوله تعالى : " فاقض ما أنت قاض " [6] فقال إنه هنا بمعنى الفعل ، وذكر قوله تعالى : " فلما قضى موسى الأجل " [7] وقال إنه بمعنى الإتمام أي أتمّ الأجل المضروب له ، وذكر قوله تعالى : " إن ربك
 يقضي بينهم بحُكمه " [8] فقال إن القضاء هنا بمعنى الحكم - أي يحكم بينهم بحكمه - ، وذكر قوله تعالى : " فقضاهن سبع سماوات " [9] فقال إن القضاء هنا بمعنى الجعل والخلق إلى آخر المعاني التي ذكرها ، ونُقل عن الأزهري إرجاع كل معاني القضاء إلى معنى واحد وهو الجامع بينها وهي مصاديق له وهذا المعنى هو عبارة عن إتمام الشيء والفراغ عنه ، وفي كشف اللثام نقلاً عن معجم مقاييس اللغة لابن فارس قال : " القاف والضاد والحرف المعتل أصل صحيح يدل على إحكام أمر وإتقانه وإنفاذه " [10] .
 وواضح أن المعنى الذي أُرجعَتْ إليه المعاني على الأول [11] يختلف عن المعنى الثاني [12] فإن إتمام العمل قد لا يكون مستلزماً لإحكامه وإتقانه ولعله يمكن الجمع بين هذين المعنيين ويقول بأن المعاني جميعاً كلها ترجع إلى هذا المعنى الواحد وهو غير بعيد لأن هذه المعاني تتشابه في مسألة الإتمام والإنفاذ .
 والقضاء في اصطلاح الفقهاء عُرّف بتعريفات عديدة :
 ففي المسالك والتنقيح وكشف اللثام وقيل بأنه المعروف والمشهور بينهم أنه عبارة عن : " ولاية الحكم شرعاً لمن له أهليّة الفتوى بجزئيات القوانين الشرعية على أشخاص معينة من البرية بإثبات الحقوق واستيفائها للمستحق " [13] فهو عبارة إذاً عن الولاية على أن يحكم بين الناس ويفصل الخصومة والنزاع بينهم .
 وفي الدروس عرّفه بأنه : " ولاية شرعية على الحكم والمصالح العامة من قبل الإمام [عليه السلام] " [14] وبذلك أدخل مثل الحكم بالهلال فإنه ليس ولاية على الحكم الذي تُفصل به الخصومة ويُحلّ به النزاع وإنما هو حكم يرتبط بالمصالح العامة فأدرجه في القضاء .
 وفي المتن [15] عرّفه بأنه : " فصل الخصومة بين المتخاصمين والحكم بثبوت دعوى المدّعي أو بعدم حق له على المُدّعى عليه " ولم يُعرّفه بأنه ولاية على الحكم وعلى فصل الخصومة وإنا هو عبارة عن نفس فصل الخصومة .
 والظاهر أن ما في المتن مأخوذ من صاحب العروة حيث ذكره في ملحقاتها فقد عرّفه بأنه : " الحكم بين الناس عند التنازع والتشاجر ورفع الخصومة وفصل الأمر بينهم " [16] .
 ويلاحظ على مجموع هذه التعريفات التي هي التعريفات المعروفة :
 أولاً : أن تعريف الشهيد (قده) في الدروس أعمّ من التعريف الأول - الذي قيل أنه هو المعروف والمشهور - باعتبار عدم اختصاصه بفصل الخصومة إثبات الحقوق واستيفائها بل يشمل مثل الحكم بالهلال - كما ذكرنا - الذي هو من المصالح العامة فكل ذلك يدخل في باب القضاء والذي يحكم به هو القاضي ، وهذا التعميم من قبل الشهيد الثاني لعله ناشئ من تولّي القضاة في تلك الأزمنة لهذه المهمة أعني الحكم بثبوت الهلال التي يتوقف عليها كثير من الأمور الشرعية كالصوم والعيدين والحج حيث مسّت الحاجة إلى وجود موقف واحد للدولة في هذه المسألة منعاً للاختلاف أُوكِـل هذا الأمـر إلى القاضي إلا أن هذا لا يعني بالضـرورة أنـه من صلـب مَهامّـه وأنـه يدخل في باب
 القضاء فإنه من الواضح أن الحكم بثبوت الهلال ليس من شؤون القاضي بما هـو قاضٍ وإنما هو من شؤون الحاكم والوالي حيث يُنظّم أمور المسلمين ويرعى المصالح العامة بل حتى لو فرضنا أنه كان منصباً للقاضي بحيث لم يكن له من عمل آخر غيره فالظاهر أن صدق المبدأ أعني القضاء ليس باعتبار حكمه بالهلال ولذا لا يكون هذا الأمر أعني الحكم بثبوت الهلال - لازماً بمجرد نصب القاضي وإنما يحتاج إلى تنصيص .
 وثانياً : إن الولاية قد أُخذت في التعريفين الأول والثاني دون الثالث والرابع وتعريف القضاء بأنه الولاية على الحكم في قبال تعريفه بأنه فصل الخصومة قد يلاحظ عليه بأن القضاء حين تعريفه بكونه ولاية يكون حينئذ منصباً من المناصب من قبيل الولاية على المسلمين - مثلاً - والقضاء لا يكون منصباً إلا بعد التعيين والنصب وأما بقطع النظر عن ذلك فلا يكون القضاء منصباً فإن القضاء إنما هو عبارة عن فصل الخصومة بين الناس وحلّ المنازعات بينهم ، وبعبارة أخرى مضافاً إلى ما تقدّم من أنه لو أُخذ في مفهومه الولاية يكون حاله حال المناصب الأخرى كالوزارة والرئاسة أن القضاء يكون حينئذ من المصادر التي تُستعمل في الشأنية التي لا تتوقف على ممارسة العمل الخارجي [17] لا في المصادر التي تُستعمل في نفس الحدث والمبدأ بخلاف ما لو قلنا بأنه فصل الخصومات فإنه يكون حينئذ المبدأ الذي على أساسه حصل الاشتقاق هو نفس الحدث والممارسة والفعل وأما قبل ذلك فلا يقال له قاضٍ بل لا يصدق القضاء أصلاً ، وكون المبدأ بالشأن والمنصب في قبال أن يكون بالاشتقاق الذي هو عبارة عن الحدث والفعل والممارسة وإن كان أمراً متعارفاً بالنسبة إلى المشتق أعني القاضي فيقال (فلان قاضٍ) بمجرد تعيينه وإن لم يكن يمارس فصل الخصومة فعلاً ولكن بالنسبة إلى القضاء ليس هو أمراً متعارفاً - والمقام مقام تعريف القضاء لا القاضي فإن القضاء حيث يُطلق يُفهم منه الحدث والممارسة الخارجية التي هي فصل الخصومة والنزاع كما سيأتي في المسألة الأولى من أن القضاء يجب كفاية فإن المقصود به الفعل الخارجـي أعنـي حـلّ الخصومـات ورفـع النزاعـات فإطـلاق القضـاء وإرادة الولايـة التي منصـب مـن
 المناصب - حيث يتحقق معناها بمجرد النصب والتعيين ولا يتوقف على ممارسة الفعل خارجاً -إطلاق بعيد وهو خلاف الظاهر ، نعم .. القاضي يتوجّه فيه ذلك دون القضاء .
 ومن هنا يظهر ضعف ما قد يُستدلّ به على أخذ الولاية في تعريف القضاء بصدق عنوان القاضي بمجرّد النصب والتعيين ولو لم يتلبّس بالفعل خارجاً للفرق الواضح بين القضاء - مصدراً - وبين القاضي فإنه مسلّم فيه دون القضاء فإنه وإن لم يمتنع فيه ذلك إلا أنه لم يتعارف إطلاقه وإرادة المنصب منه وإنما هو في الإطلاقات المتعارفة في الكتب الفقهية وغيرها عبارة عن الحدث والممارسة المعبّر عنها بفصل الخصومة وحلّ النزاع .
 نعم .. يمكن أن يقال إنه لا ضير في أن يُلحظ القضاء بلحاظين فتارة يُلحظ باعتباره منصباً من المناصب وأخرى يُلحظ باعتباره فعلاً خاصّاً يصدر من شخص خاص يُسمّى بالقاضي فعلى الأول لا بدّ من أخذ الولاية في تعريفه وعلى الثاني لا يكون ثمة وجهٌ لأخذها فيه .
 ولكن الأقرب هو التعريف الثاني والثالث أعني فصل الخصومة مع ما ذُكر له من لواحق فيهما ولعل القرينة المؤيدة على ذلك هو إدراج قاضي التحكيم في باب القضاء مع وضوح أنه ليس منصباً من المناصب فلو كان القضاء هو الولاية لم يكن ثمة وجه لإدراجه فيه مضافاً إلى أنهم ذكروا بعدما عرّفوا القضاء أنه يحتاج إلى تولية وتعيين ونصب وأن من بيده ذلك هو الإمام (عليه السلام) أو نائبه فلو كانت الولاية مأخوذة في مفهومه لم يكن ثمة داعٍ لما ذُكر لكونه مفروضاً فيه حينئذ فهذه القرينة تناسب تعريف القضاء بالتعريف الثالث والرابع وإن كان يمكن على أية حال توجيهها أيضاً على التعريفين الأول والثاني - .
 هذا .. ولا بدّ من الالتفات إلى أن مسألة الخصومة والتنازع المأخوذين في تعريف القضاء لا بدّ من أن يكون المقصود به هو الشأنية والاقتضاء لا الفعلية لوضوح أن بعض الدعاوى ليس فيها خصومة وتنازع فعلي كما إذا فرضنا أن المُدعى عليه أقرّ بما يدّعيه المدعي ولكنه كان يُماطل في إيفائه حقّه فلا وجه حينئذ لتقييد التعريف بالخصومة الفعلية بحيث تختصّ بما إذا كان هناك تشاجر واقعي قائم بين شخصين .
 هذا ما يمكن ذكره باختصار لتعريف القضاء في اللغة والاصطلاح .
 والفرق بينه وبين الفتوى أن الفتوى عبارة عن بيان الأحكام الكلية من دون نظر إلى تطبيقها على مواردها وهي - أي الفتوى - لا تكون حجة إلا على من يجب عليه تقليد المفتي بها ، والعبرة في التطبيق إنما هي بنظره دون نظر المفتي ، وأما القضاء فهو الحكم بالقضايا الشخصية التي هي مورد الترافع والتشاجر فيحكم القاضي بأن المال الفلاني لزيد أو أن المرأة الفلانية زوجة فلان وما شاكل ذلك ، وهو نافذ على كل أحد إذا كان أحد المتخاصمين أو كلاهما مجتهداً (1) نعم قد يكون منشأ الترافع الاختلاف في الفتوى كما إذا تنازع الورثة في الأراضي فادّعت الزوجة ذات الولد الإرث منها وادّعى الباقي حرمانها فتحاكما لدى القاضي فإن حكمه يكون نافذاً عليهما وإن كان مخالفا لفتوى من يرجع إليه المحكوم عليه (/)
  (1) تعرّض (قده) هنا إلى الفرق بين القاضي والفقيه - بعد توافقهما في شرطية الاجتهاد في كل منهما كما سيأتي منه (قده) في لزوم أن يكون القاضي كالفقيه مجتهداً وخلاصة ما يُفهم من كلامه (قده) أن الفرق بينهما من جهتين :
 الأولى : أن القضاء هو الحكم بقضايا جزئية شخصية وقعت مورداً للنزاع والتخاصم ومستند القاضي في فصل الخصومة فيها هو القواعد المقرّرة في باب القضاء ومنها كما سيأتي علمه بالواقع ، وأما الفتوى فهي عبارة عن بيان الأحكام الإلهية الكلية او وبعبارة أخرى الإخبار عن الأحكام الشرعية الكلية من غير نظر إلى تطبيقاتها الخارجية التي يكون تشخيصها بعهدة المكلّف ومستند الفقيه في الفتوى هو الأدلة المعروفة .
 الثانية : أن حكم القاضي يكون نافذاً في حقّ الجميع حتى في حقّ المتخاصمين إذا كانا مجتهدَين أو كان أحدهما كذلك في حين أن فتوى المجتهد إنما تنفذ في دائرة ضيّقة وهي خصوص الأفراد الذين يلزم عليهم تقليده .


[1] قال في الجواهر : " القضاء بالمد وقد يقصر الذي هو لغةً لمعانٍ كثيرة ربما أُنهيَتْ إلى عشرة : الحكم والعلم والإعلام - وعبّر عنه بعضهم بالإنهاء - والقول والحتم والأمر والخلق والفعل والإتمام والفراغ " جواهر الكلام مج40 ص7 .
[2] مجمع البيان ج1 ص193 .
[3] الإسراء / 23 .
[4] الإسراء / 4 .
[5] البقرة / 200 .
[6] طه / 72 .
[7] القصص / 29 .
[8] النمل / 78 .
[9] فصّلت / 12 .
[10] معجم مقاييس اللغة مج5 ص99 .
[11] وهو ما عن الأزهري من إتمام الشيء والفراغ عنه .
[12] وهو ما عن المقاييس من إحكام الأمر وإتقانه وإنفاذه .
[13] مسالك الأفهام مج13 ص325 ، وقريب منه ما عن كشف اللثام (ط . ج) مج10 ص5 .
[14] في المصدر (الدروس مج2 ص65) بحرف الجر (في) أي : في المصالح العامةـ - ولكن الأستاذ (دامت بركاته) نقله بالواو العاطفة وكذا وجدته بالواو عن الجواهر وكتاب القضاء للشيخ الأنصاري نقلاً عن الدروس ولعله من نسخة ثانية .
[15] مباني تكملة المنهاج للسيد الخوئي (قده) كتاب القضاء مج1 ص3 .
[16] العروة الوثقى مج6 ص413 .
[17] فإن الوزير - مثلاً يكون وزيراً بمجرد النصب والتعين ولو لم يمارس مهام عمله فعلاً .