37/12/25
تحمیل
الأستاذ الشيخ باقر الايرواني
بحث الفقه
37/12/25
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع:- مسألة ( 23 ) الكهانة - المكاسب المحرمة.
ونستعرض الروايات لنجد أنها تدل على التحريم او لا والروايات متعددة منها:-
الرواية الأولى:- ما في الخصال عن أبيه عن سعد بن عبد الله عن يعقوب بن يزيد عن محمد بن أبي عمير عن علي بن أبي حمزة عم أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام:- ( قال:- من تكن أو تكن له فقد برئ من دين محمد ..... )[1] ، وهذه الرواية تقدّمت في المسالة السابقة بمناسبةٍ وهي طويلة وقد نقلنا الفقرة التي ترتبط بالقيافة منها في المسألة السابقة.
أما سندها ، فبناءً على وثاقة علي بن أبي حمزة فلا مشكلة فيها وإلا فلا ، فالمشكلة هي في ابن أبي حمزة فقط وهي على المباني.
وأما دلالتها فهي قالت ( فقد برئ ) وهذا فيه دلالة على التحريم.
الرواية الثانية:- رواية السرائر عن كتاب المشيخة للحسن بن محبوب عن الهيثم قال:- ( قلت لأبي عبد الله عليه السلام:- إن عندنا بالجزيرة رجلاً ربما أخبر من يأتيه يساله عن الشيء يسرق أو شيء ذلك فنسأله ؟ فقال:- قال رسول الله صلى الله عليه وآله من مشى إلى ساحر أو كاهن أو كذاب يصدّقه بما يقول فقد كفر بما أنزل الله من كتاب )[2] ، وهي قالت ( من مشى إلى ساحر ... فقد كفر ) فدلالتها على حرمة الكهانة لا بأس ، نعم حرمة ذهاب الشخص إلى الكاهن قد يستفاد أنها منوطة بالتصديق أما نفس الكهانة فيفهم أنها محرّمة ، وقد تقدّمت هذه الرواية أيضاً في باب السحر حينما تعرّضنا في قضية القراءة في الفنجان وهناك قلت القراءة في الفنجان لا يوجد شيء مثبت لحرمتها إلا أن يقال إنها حرام لأجل هذه الرواية حيث يفهم منها أنّ كلّ من يخبر عن الغائب هو لا يخلو من أحد أمورٍ ثلاثة.
تبقى المشكلة في السند ، فإن صاحب السرائر(قده) لم يذكر طرقه إلى الأصول التي ينقل عنها سوى أصل محمد بن علي بن محبوب ، وتوحد مشكلة ثانية أيضاً وهي بالنسبة إلى الهيثم على كلام.
فإذن لا بأس بدلالتها - وأنا أؤكد على أنه لا بأس بدلالتها لأنه فيما بعد قد نستفيد من ضمّ بعضها إلى بعضٍ فإذا كانت دلالتها جيدة فضمّ ما كانت دلالته لا بأس بها إلى غيره وإن كان السند ضعيفاً فهذا ينفعنا ولكن لو كانت الدلالة فيها بأس فلا ينفع ضمّ الروايات بعضها إلى بعض-.
الرواية الثالثة:- رواية الشيخ لصدوق بإسناده عن شعيب بن واقد عن الحسين بن زيد عن الصادق عليه السلام عن آبائه عليهم السلام في حديث المناهي:- ( إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله نهى عن اتيان العرّاف وقال:- من أتاه وصدّقه فقد برئ مما أنزل الله عزّ وجلّ على محمد صلى الله عليه وآله )[3] .
ولكن دلالتها مبتنية على أن نفسّر العرّاف بالكاهن ، ونقل صاحب الوسائل(قده) في ذيل الحديث قولين في ذلك - يعني في تفسير العرّاف - فقال قيل بأنه الكاهن وقيل بأنه المنجّم.
وعلى أيّ حال ما دام الوارد فيها هو العرّاف فلا يمكن أن نتمسّك بها بقطع النظر عن كلام صاحب الوسائل ، فالموجود في الرواية هو العرّاف ولا نجزم أنه عين الكاهن خصوصاً أنه تقدم من ابن الأثير أنه جعل مقابلةً بينهما ، فالرواية من حيث الدلالة فيها بأس.
مضافاً إلى مناقشتنا العاّمة في جميع الروايات التي تكون من هذا القبيل ، أي الروايات التي تشتمل على إخبار النبي أو الأئمة عليهم السلام ، حيث قلنا هناك فرقٌ بين النهي فهو يدلّ على التحريم ، وبين الإخبار فيمكن التأمّل والتوقّف في دلالته على التحريم ببيانٍ تقدّم أكثر من مرّة.
الرواية الرابعة:- رواية الصدوق عن محمد بن الحسن بن الوليد عن الصفّار عن الحسن بن علي الكوفي[4] عن اسحاق بن إبراهيم عن نصر بن قابوس قال:- ( سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول المنجم ملعون والكاهن والساحر ملعون والمغنية ملعونة ومن آواها ملعون وآكل كسبها ملعون )[5] ، ودلالتها على التحريم يتوقّف على أنّ نقل اللعن بمشتقاته - والتي منها لفظ ملعون - هذا يدل على التحريم ، وقد تقدّم هذا الشيء وأنا كنت من المتردّدين ، فإذن دلالتها على الحرمة محلّ تأمّل ، نعم من يجزم بأنه يدلّ على الحرمة فالحقّ له.
الرواية الخامسة:- عن الخصال ،قال عليه السلام:- ( المنجم كالكاهن والكاهن كالكافر والكافر في النار )[6] ، ودلالتها لا بأس بها ، يبقى أنها مرسلة فإذا تبني على أنّ مراسيل الصدوق التي بلسان ( قال ) معتبرة السند فسوف تصير هذه الرواية تامة من حيث السند ، وأما إذا لم تبنِ على ذلك - كما نحن نبنِ عليه - فسوف تصير قابلة للمناقشة من حيث السند ، ولكن دلالتها لا بأس بها.
الرواية السادسة:- رواية الكليني عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن النوفلي عن السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام قال:- ( السحت ثمن الميتة وثمن الكلب وثمن الخمر ومهر البغي والرشوة في الحكم وأجر الكاهن )[7] .
وهي من حيث السند على المبنى ، فإذا قلنا إنَّ النوفلي لا مشكلة فيه فالسند يكون لا بأس به ، لأنّ السكوني أمره هيّن لعبارة العدّة ، وحينئذٍ يكون سند الرواية لا بأس به.
أما دلالتها فإنّ الوارد فيها لفظ ( السحت ) ، وهنا قد يقول قائل السحت هنا يدلّ على الحرام فإنّ السحت هو الحرام . ولكن عندنا السحت ثمن الكلب وثمن الميتة ، وفي الحقيقة ثمن الكلب وثمن الميتة هنا الطرف ليس حراماً ومع ذلك استعملت كلمة السحت ، فسحتية الثمن لا يدلّ على أنّ المعاملة والشيء المقابل هو محرّم ، فربما يكون مثل الميتة ومثل الكلب ليس محرّم ، اللهم إلا أن نقول:- هذا استعمال مجازي ، والأمر إليك ، وعلى أيّ حال هذه الرواية دلالتها ليست واضحة على التحريم.
الرواية السابعة:- رواية الصدوق بإسناده عن حماد بن عمرو وأنس بن محمد عن أبيه جميعاً عن جعفر بن محمد عن آبائه في وصية النبي صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام قال:- ( يا علي من السحت ثمن الميتة وثمن الكلب ومهر الزانية والرشوة في الحكم وأجر الكاهن )[8] ، والتأمل الذي أبرزناه في الرواية المتقدّمة يأتي هنا ، وعلى منوالها الرواية رقم 8 من نفس المصدر.
الرواية الثامنة:- معاني الأخبار عن أحمد بن الحسن القطان عن أحمد بن يحيى بن زكريا عن بكر بن عبد الله بن حبيب عن تميم بن بهلول عن أبيه عن عبد الله بن الفضل عن أبيه عن أبي خالد الكابلي ، قال:- سمعت زين العابدين يقول:- ( الذنوب اليت تغير النعم البغي على الناس ...... والذنوب التي تظلم الهواء السحر والكهانة والإيمان بالنجوم والتكذيب بالقدر وعقوق الولدين )[9] ، وهذه الرواية ذكرت ( الذنوب التي تظلم الهواء ) والذنب حرامٌ ، فدلالتها لا بأس بها.
الرواية التاسعة:- في نهج البلاغة:- ( قبل عليه السلام على الناس فقال:- أيها الناس غياكم وتعلم النجوم إلا ما يهتدى به في برٍّ أو بحر فإنها تدعو إلى الكهانة الكاهن كالساحر والساح كالكافر والكافر في النار )[10] ، ودلالتها لا بأس بها ، ولكن تبقى من حيث السند والأمر إليك.
هذه مجموعة روايات ولا أقول تنحصر بهذه الروايات ولعلّه بالتتبّع تحصل على بعض الروايات في هذا المجال.
ونلفت النظر إلى بعض الأمور:-
الأمر الأوّل:- إنّ الكهانة بقطع النظر عن الروايات الخاصّة هل القاعدة تقتضي حرمتها أو حلّيتها ؟
والجواب:- المناسب حلّيتها ، لأنها تشتمل على إخبار عن الأمور المستقبلية والإخبار عن الأمور المستقبلية أيّ محذور قفيه!! فإن قلت:- هو ستعين بهذه الأمور كالجن ؟ قلت:- إنّ حرمة هذه الأمور هو أوّل الكلام ، فلا مثبت للحرمة بل هو مباح ، فمقتضى القاعدة هو الحلّية لو خلّينا نحن والقاعدة ، اللهم إلا في حالتين ، الحالة الأولى فيما إذا فرضنا أن يخبر عن شيءٍ بنحو الجزم وهو غير متأكد من ذلك كأن يقول فلان سوف يُقتَل أو يقول الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف سوف يخرج في وقت كذا ، فهذا إخبارٌ بنحو الجزم ، فتارةً يكون متأكداً من ذلك وبينه ما بين الله عنده تأكد أما من أين حصل له هذا التأكد والجزم فهذه قضية مرتبطة به ، فهذا لا يصدق عليه عنوان الكذب ، ومرّة أنه ليس متأكداً ولكنه يبرزه مبرز الجزم فهذا ينطبق عليه عنوان الكذب آنذاك فلا يجوز من هذه الناحية.
أو يفترض أنه يخبر عن حصول مجاعة وقحط في البلاد بعد شهرين أو ثلاثة أشهر والناس حينما يسمعون هذا الشيء يقبلون على الأسواق ويشترون جميع الطعام الموجود في السوق وبالتالي يختل اقتصاد البلد الاسلامي ، فحينئذٍ سوف يكون هذا الإخبار حراماً من هذه الناحية وإن كان متأكداً ، فالكذب سوف لا يحصل ولكن هذا يستلزم الاخلال بنظام اقتصاد البلد الاسلامي فلا يجوز.
إذن الكهانة ليست حراماً إلا إذا انطبق أحد هذين العنوانين أو ما شاكل ذلك ، فحرمتها بالعنوان الثانوي لا بالعنوان الأوّلي ، هذا بمقتضى القاعدة ، ولكن النصوص الشريفة دلّت على حرمتها ، فإذن لابدّ من مراجعة النصوص.
الأمر الثاني:- إذا رجعنا إلى النصوص نلاحظ أنّ الروايات التي لا بأس بدلالتها على ما عرفنا هي خمس روايات ، وهذه الخمس قد يتأمل في اسنادها ، وعلى هذا الأساس ماذا يصنع الفقيه - وهذه قضية سيّالة - ؟
وفي هذا المجال يمكن أن يقال:- إنّ خمس روايات مادامت دلالتها تامّة فهي تورث الاطمئنان للفقيه بحقّانية هذا المضمون ، وإذا لم يحصل للفقيه الاطمئنان فلا أقل حينئذٍ يتنزّل إلى الاحتياط الوجوبي.
وأكرّر وأقول بشرط أن تكون الدلالة تامّة ، أما إذا كانت الدلالة محلّ تأمّل فحتى لو فرض أنها مئة رواية فهذا لا ينفعنا مادامت دلالتها ضعيفة ، فهنا ضمّ الضعيف إلى الضعيف في الدلالة لا يجدي شيئاً ، بل حتى لو كانت هذه المئة رواية أسانيدها تامّة ولكن مادامت دلالتها ضعيفة فلا يمكن الفقيه أن يفتي على طبقها ، فضمّ الضعيف إلى الضعيف لا ينتج قوياً في باب ضعف الدلالة ، وإنما ينتج قوياً في باب ضف السند إذا كانت الدلالة تامّة.
الأمر الثالث:- المحرّم في باب الكهانة على ما نفهمه من الروايات هو نفس الكهانة أو الأخذ بقول الكاهن ( من تكهن أو تكهن له ) أما التعليم والتعلّم فلم تدل الروايات على حرمته ، فعلى هذا الأساس لا موجب لحرمة التعليم والتعلُّم وإنما الحرام هو نفس الكهانة أو الأخذ بقول الكاهن ، نعم الاحتياط هنا لا بأس به لأنّ تعلّم الشيء الذي يحذر منه المناسب الحذر منه ، والفقيه في مثل هذه الحالة من المناسب أن لا يقول هو جائز لأنّ الناس سوف يتعلّمون الكهانة وهذا قد يؤدّي إلى مفسدةٍ ، فيقول فيه إشكال ، أو الأحوط وجوباً ، أو ما شاكلها من هذه التعابير.
الأمر الرابع:- إن المحرّم هو الإخبار عن الأمور المستقبلية أما الإخبار عن الأمور التي مضت كأن فرض أنها حصلت قبل شهرٍ وهذا الكاهن يخبرنا بأنّ السرقة قد حصلت من هنا وهناك ، فهذا إخبارٌ عمّا مضى لا هو إخبارٌ عمّا يأتي - وواضح اننا نفترض أنّ هذا الاخبار استناداً إلى الجنّ - فهذا يمكن الحكم بحلّيته ، وذلك لأنّ الكهانة إما أنها مختصّة جزماً بالإخبار عن الأمور المستقبلية لأنّ أهل اللغة يقيّدونها بالإخبار عن الأمور المستقبلية ، فعلى هذا الأساس يكون الإخبار عن الأمور الماضية ليس من الكهانة فيجري أصل البراءة آنذاك بلحاظ الاخبار عن لأمور الماضية ، وإذا لم يحصل الجزم بكونها من الكهانة فلا أقل من الشك ، والقدر المتيقّن من الكهانة هو الإخبار عن الأمور المستقبلية أما الإخبار عن الأمور في الزمن الماضي لا أقل يشك في شمول الكهانة لها فيتمسّك بالقدر المتيقن والمشكوك يجري فيه أصل البراءة لقاعدةٍ أصوليةٍ تعلّمناها وهي أنه إذا كان لدينا دليل مجمل مفهوماًً - يعني أمره دائر بين الأقل والأكثر - فيؤخذ بالمتيقّن والزائد لا يكون حجّة فيه ، فعلى هذا الأساس نجري أصل البراءة بلحاظ المخبر عن الأمور الماضية.
فإذن هذين طريقين لإثبات الحلّية.
ولكن أؤكد أنه يلزم أن نحافظ على الناس مهما أمكن عن هذه المسائل غير الصحيحة فنقول لهم الأحوط وجوباً أو هي محلّ إشكال حتى بلحاظ الأمور الماضية.