مرقد الإمام علي ( عليه السلام )
إنّ موضع القبر ظلّ سراً مكتوماً ، لا يعرفه إلاّ أهل البيت ( عليهم السلام ) ، وخواصّ شيعتهم ، إلى انقضاء دولة الاُمويين ، ومجيء دولة العباسيين ، فحينئذ دلّ العلويون بعض الشيعة عليه ، وصاروا يتعاهدونه ، وصار في معرض الظهور والخفاء ، يُثْبته قوم وينفيه آخرون .
فلما رأى داود بن علي العباسي ، إقبال الناس على موضع القبر ، أمر ـ على ما قيل ـ بعض الفعلة بالمضي إلى هذا القبر ، الذي افتُتن به الناس ، ويقولون : إنه قبر علي ، حتّى ينبشوه ويجيئوه بأقصى ما فيه ، فمضوا إليه وحفروا خمسة أذرع ، فوصلوا إلى موضع صلب لم يقدروا عليه ، فاستعانوا بغلام معروف بالشدة ، ولكن هذا الغلام بعد أن ضرب ثلاث ضربات صاح ، وصار لحمه ينتثر إلى أن مات ، فلما عرف داود بالأمر تاب ، وأمر عليَّ بن مصعب بن جابر ، بأن يبني على القبر صندوقاً ، ففعل .
ولكن مطاردة العباسيين للعلويين وشيعتهم ، أوجبت أن يُهجَر القبر من جديد ، فلا يزوره زائر إلا خلسة .
ثمّ جاء أبو جعفر المنصور ، وحاول أن ينبش القبر ، فأمر غلامه بذلك ، فبدأ بالحفر حتّى ظهر له القبر ، ثمّ أمر بطمّه ، وصرفه الله عنه .
وبعد ذلك ، وفي زمن الرشيد ، عاد القبر إلى الظهور من جديد ، في قصة معروفة جرت للرشيد ، وهو يتصيّد حول القبر ، حيث رأى الظِّباء تحتمي بالأكمَة التي فيها القبر ، فلا تقتحم كلابُ الصيد وطيور الباز إليها ، الأمر الذي أثار عجَبه ، فسأل أحدَ شيوخ الكوفة عن ذلك ، فأخبره أنها تلوذ بقبر الإمام أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) .
فكان أن أقام أول عمارة على القبر ، وهو بناء مربع الشكل ، مبنيّ بحجارة بيضاء فوقه قبة من الطين الأحمر ، فوقها جرة خضراء .
وبعد ذلك جاء المتوكل العباسي ، فخرّب عمارة النجف ، كما خرب عمارة الحسين ( عليه السلام ) .
ثمّ قام بالعمارة الثالثة ، عمر بن يحيى القائم بالكوفة ، المقتول سنة 250 هـ .
وكانت العمارة الرابعة ، على يد محمّد بن زيد الداعي ، المقتول سنة 287 هـ ، والذي ولي إمرة طبرستان ، بعد أخيه الحسن بن زيد ، فإنّه بنى على القبر الشريف قبة ، وحائطاً وحصناً فيه سبعون طاقاً ، والظاهر أنّ هذه العمارة هي التي أعقبت خراب المتوكل ، لبناء القبر كما يظهر من تاريخ طبرستان ( الفارسي ) ج 1 ص 95 .
ثمّ كانت العمارة الخامسة ، على يد أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان ، المقتول سنة 317 هـ ، وسترها بفاخر الستور ، وفرشها بثمين الحُصر .
وبعد ذلك كانت العمارة السادسة ، وهي أجلّ العمارات وأحسنها ، على يد عضد الدولة ، المتوفّى سنة 372 هـ ، وقد بذل عليها الأموال الجزيلة ، وجلب إليها الزارة والنجارة والعملة من سائر الأقطار .
وقد شاهد هذه العمارةَ ، الرحالة ابن بطّوطة ، ووصفها حين وروده النجف ، سنة 727 هـ بأنها : ( معمورة أحسن عمارة ، وحيطانها مزينة بالقاشاني ، وهو شبه الزليج عندنا لكنّ لونه أشرق ، ونقشه أحسن ، وإذا ما دخل زائر يأمرونه بتقبيل العتبة ، وهي من الفضّة وكذلك العضادتان ، ثمّ يدخل بعد ذلك إلى القبة ، وهي مفروشة بأنواع البسط من الحرير وسواه ، وبها قناديل الذهب والفضة ، منها الكبار والصغار ، وفي وسط القبة مسطبة مربعة ، مكسوّة بالخشب ، عليها صفائح الذهب المنقوشة المُحكمة العمل ، مسمّرة بمسامير الفضة ، قد غلبت على الخشب ، لا يظهر منه شيء ، وارتفاعها دون القامة ، وفوقها ثلاثة من القبور ، يزعمون أن أحدها قبر آدم ( عليه السلام ) ، والثاني قبر نوح ( عليه السلام ) ، والثالث قبر الإمام علي ( عليه السلام ) .
وبين القبور طشوت ذهب وفضة ، فيها ماء الورد والمسك ، وأنواع الطِيِب ، يغمس الزائر يده في ذلك ، ويدهن بها وجهه تبرّكاً ، وللقبة باب آخر ، عتبته أيضاً من الفضّة ، وعليه ستور الحرير الملوّن ، يفضي إلى مسجد مفروش بالبسط الحسان ، مستورة حيطانه وسقفه بستور الحرير ، وله أربع أبواب عتبتها فضة ، وعليها ستور الحرير ...) .
لكنّ هذه العمارة ، وإن كان تأسيسها يرجع إلى عضد الدولة ، إلا أنّه قد طرأت عليها إصلاحات كثيرة ، وتحسينات ثمنية من البويهيين أنفسهم ووزرائهم ، ومن الحمدانيين ، وبعض العباسيين المتشيّعين .
فإنّ المستنصر العباسي ، قد عمّر الضريح المقدس ، وبالغ فيه ، وزاره مراراً ، وكذلك فقد أصلحه وحسّن فيه ، وفي الأبنية الملحقة به ، ولكنّ عمارة عضد الدولة هذه قد احترقت ، في سنة 755 هـ ، وكانت حيطانها قد سترت بخشب الساج المنقوش ، فجُدّدت عمارة المشهد ، سنة 760هـ ، وهذه هي العمارة السابعة للمشهد .
ولكن عمارة عضد الدولة لم تذهب آثارها بالكلّية ، بل بقيت إلى ما بعد التجديد الأخير للمشهد ، حيث يذكر النسّابة النجفي ، محمد حسين كتاب دار ، أنّه رأى في المشهد بقية عمارة عضد الدولة في سنة 1041 هـ .
ثمّ جاء الشاه عباس الأول ، فأصلح عمارة المشهد ، وعمّر الروضة والقبة ، والصحن الشريف على نظر الشيخ البهائي ( رحمه الله ) ، الذي عمل رسالة في عمارة المشهد ووضعِه الهندسي .
وبعد ذلك جاءت العمارة الثامنة للمشهد الشريف ، على يد الشاه صفيّ الصفوي حفيد الشاه عباس الأول ، ووسع الصحن الشريف ، ووسع ساحة الحرم العلوي ، وأتمها ولده الشاه عباس الثاني ، بعد وفاة أبيه سنة 1052 هـ .