34/06/18
تحمیل
الموضوع: الأصول العملية/ البراءة الشرعية
أنهينا الكلام عن الأمر الأوّل في ما يُسمّى بفقه الحديث.
الأمر الثاني: هناك كلام يجري بينهم في أنّ مفهوم الرفع، ومفهوم الدفع، هل هما بمعنىً واحد، أو أنّهما يختلفان مفهوماً ؟ المعروف والمشهور هو تغاير المفهومين، أي أنّ الدفع له مفهوم، والرفع له مفهوم آخر.
قالوا: أنّ الرفع يُراد به إزالة الشيء الثابت. أو بعبارة أخرى: إعدام الشيء الموجود. أمّا الدفع، فيُراد به منع المقتضي من تأثيره في المُقتضَى. أو بعبارة أخرى: المنع من الإيجاد.
[1]
[2]
هكذا فرّقوا بينهما. وقالوا: أنّ هذا شيء يفهمه العرف، ولا يسوّغ استعمال أحدهما في مورد الآخر، حيث لا يستسيغ العرف أنْ تُستعمل كلمة(الدفع) في موارد إزالة الشيء الموجود، ولو استعملت كان غلطاً؛ بل يرى أنّه لابدّ من استعمال كلمة(الرفع)؛ لأنّه شيء موجود، فلا يقال عن الطلاق ـــــ مثلاً ـــــ أنّه دفع، بينما يقال له رفع، حيث هناك عُلقة زوجيّة ثابتة، فيرفعها الطلاق، ولا يدفعها الطلاق. وهكذا في سائر الموارد الأخرى، والشارع اعتبر جملة من الأمور رافعة، لكن لا يصحّ إطلاقاً في نظر العرف أنْ يستخدم الدفع بدل الرفع؛ لأنّ الدفع يساوق المنع من حصول الشيء، والرافع غير المانع، فالمانع هو الذي يمنع من حصول الشيء، أي يمنع تأثير المقتضي في حصول المُقتضَى.
على هذا الأساس أستُشكل في استعمال الرفع في الحديث الشريف في رفع الأحكام في حالات الاضطرار، والخطأ، والنسيان،...الخ. فما معنى رفع الأحكام في هذه الحالات؟ لماذا استخدم كلمة(الرفع)، والحال أننّا نعلم بأنّ هذه الأحكام لا وجود لها أساساً في حالات الاضطرار والنسيان والإكراه، لا أنّها موجودة، ثمّ جاء الحديث ورفعها، وإنّما هي أساساً منتفية، وليست موجودة، فحرمة شرب الخمر في حالة الاضطرار هي أساساً منتفية، لا أنّها تكون موجودة في حالة الاضطرار إلى شرب الخمر، وحديث الرفع يرفعها بعد وجودها، وحدوثها؛ بل أساساً الحرمة غير موجودة مع الاضطرار. فما معنى أنّ حديث الرفع يرفع الحرمة ؟ مع أنّ الحرمة ليست موجودة، هذا ليس رفعاً، وإنّما في الحقيقة هذا دفع؛ إذ الحرمة ليس لها وجود، فلا يصحّ استخدام الرفع في هذه الحالة، فكيف استخدم الحديث الشريف الرفع في مقام رفع ونفي الأحكام في حالات الاضطرار والإكراه، والخطأ، والنسيان....الخ.؟ مع أننا نعلم أنّ هذه الأحكام منتفية أساساً، لا أنّها ثابتة، والحديث رفعها حتّى يصحّ استخدام كلمة(الرفع).
أجاب المحقق النائيني(قدّس سرّه) عن هذا الإشكال:
[3]
بأنّه أنكر أساساً وجود الفرق بين الرفع، والدفع، وليسا هما مفهومين متغايرين؛ بل هما متحدّا المفهوم، وهما مفهوم واحد، ولا يوجد تغاير بينهما في المفهوم إطلاقاً، واستدل على ذلك بهذا الدليل:
قال: أنّ الممكن كما يحتاج في حدوثه إلى علّةٍ ومقتضٍ، كذلك يحتاج في بقائه واستمراره إلى علّةٍ ومقتضٍ، وأنّ علّة الحدوث لا تكفي للبقاء؛ بل هو في بقائه يحتاج إلى علّةٍ، باعتبار أنّ الممكن لا ينقلب واجباً بوجود علّة حدوثه، ولا يستغني عن العلّة في مرحلة البقاء؛ بل هو يبقى ممكناً، والممكن دائماً هو بحاجة إلى علّةٍ ومقتضٍ في مرحلة البقاء.
إذن: الممكن كما يحتاج إلى علّةٍ في مرحلة الحدوث، هو يحتاج إلى علّةٍ في مرحلة البقاء، ومن هنا يصحّ إطلاق الدفع على رفع الأمر الثابت؛ لأنّ هذا الشيء الذي يمنع، إنّما هو يمنع من تأثير المقتضي في مقتضاه، غاية الأمر أنّه يمنع من تأثير المقتضي في مقتضاه في مرحلة البقاء، وهذا الذي تخيّلوا بأنّه معنىً مقابل للرفع، هو نفس معنى الرفع، فكل شيء يمنع من تأثير المقتضي في المُقتضَى هو رفع، أو سمّه دافع، لا فرق بينهما، غاية الأمر أنّ هذا يمنع من تأثير المقتضي في مقتضاه في مرحلة البقاء، حيث أنّ المنع من تأثير المقتضي في مقتضاه يُتصوّر على نحوين، مرةّ يمنع من تأثيره حدوثاً، ومرة يمنع من تأثيره بقاءً، فهذا دفع، وهذا أيضاً دفع؛ لأنّ الدفع هو عبارة عن المنع من تأثير المقتضي في مقتضاه، وليس رفع الشيء بعد تماميّة علّته التامة؛ بل هو المنع من تأثير المقتضي في المُقتضَى، وهذا له نحوان، مرة يكون في مرحلة الحدوث، ومرة يكون في مرحلة البقاء، فكل منهما دفع، وليس هناك مفهومان متغايران للدفع وللرفع. إذن: هما بمعنى واحد، وليس هناك تعددّ في المفهوم.
ولكن نوقش في هذا الجواب: بأنّ هذا المطلب، وإنْ كان صحيحاً، بقطع النظر عن المناقشة في إمكان تطبيقه في الشرعيّات، وأنّه قد يختصّ بالتكوينيات، إلاّ أنّ هذا مطلب آخر، والمطلب في حدّ نفسه صحيح في الجملة، وأنّ الممكن بحاجةٍ إلى علّةٍ في مرحلة البقاء، وأنّ علّة الحدوث لا تكفي لبقاء الممكن، لكن هذا لا يمنع من أنْ يكون عندنا شيئان، أحدهما يمنع من تأثير المقتضي في المُقتضَى حدوثاً، والآخر يمنع من تأثيره فيه بقاءً، فحتى لو فرضنا أنّهما يشتركان في المنع من تأثير المقتضي في المُقتضَى، لكن هما معنيان متغايران. والمُدّعى هو أنّ كلمة(الدفع) موضوعة للمنع من تأثير المقتضي في المُقتضَى حدوثاً، وكلمة(الرفع) موضوعة للمعنى الثاني، أي لمنع تأثير المقتضي في المُقتضَى بقاءً، وليس حدوثاً. إذن هما مفهومان متغايران، هذا موضوع لمعنى، والآخر موضوع لمعنىً آخر، فلا يصحّ استخدام هذه الكلمة في هذا المعنى، كما لا يصحّ استخدام الكلمة الموضوعة للمنع البقائي في المنع الحدوثي، ومجرّد افتراض أنّ الرفع أيضاً يمنع من تأثير المقتضي في المقُتضَى، هذا لا يجعله متّحداً في المفهوم مع مفهوم الدفع، وإن كان هو حتماً يمنع من تأثير المقتضي في المُقتضَى، لكن يبدو أنّ الفرق بينهما موجود، وأنّ هذا يمنع من التأثير في مرحلة الحدوث، وهذا يمنع من التأثير في مرحلة البقاء، فإرجاع المعنيين إلى مفهومٍ واحدٍ لا يثبت بالبرهان. مضافاً إلى أنّ الحسّ العرفي واللّغوي لا يساعد عليه، فالعرف يميّز بشكلٍ واضحٍ بين الدفع وبين الرفع. فإذن: الصحيح هو أنّهما معنيان متغايران.
لكن بناءً على هذا سوف يبقى التساؤل السابق على حاله، بأنّه كيف استعمل الحديث الشريف كلمة(الرفع) في نفي الأحكام في موارد الاضطرار والإكراه وغيرها، مع العلم بأنّ هذه الأحكام منتفية اساساً في موارد الاضطرار، لا أنّها تحدث بسبب الاضطرار، ثم يرفعها الحديث ؟ ويمنع من تأثير المقتضي في المُقتضَى في مرحلة الحدوث، الأمر ليس هكذا، وإنّما هي أساساً منتفية، لوجود مانعٍ يمنع من تأثير المقتضي في حدوثها، فكيف استعمل الحديث الشريف كلمة الرفع ؟ بناءً على ما هو الصحيح من تعددّ المفهومين، وأنّ مفهوم الدفع غير مفهوم الرفع.
هناك وجوه للجواب عن هذا التساؤل: نذكر منها وجهين:
الوجه الأوّل: هو الوجه الذي ذكره السيّد الخوئي(قدّس سرّه)،
[4]
وهو أنْ يقال: أنّ الرفع في الحديث الشريف إنّما أطلق باعتبار ثبوت تلك الأحكام في الشرائع السابقة، فيكون استعماله في معناه الحقيقي، وليس فيه أيّ تجوّز، باعتبار أنّ الحكم لا يُشرّع بشكلٍ مؤقتٍ، ومقيّدٍ بوقتٍ معيّن، حتّى في الشرائع السابقة، وإنّما يُشرّع مطلقاً، بعد ذلك يأتي ما ينسخه، فإذا فرضنا أنّ هذا الحكم موجود في الشرائع السابقة، وفرضنا أنّه شُرّع مطلقاً، يعني لم يؤخذ فيه وقت محددّ؛ حينئذٍ يصحّ أنْ يقال بأنّ حديث الرفع رفع ذلك الحكم بالمعنى الدقيق لكلمة الرفع، بمعنى إزالة الشيء الثابت، وإعدامه. بالنتيجة هذه الأحكام لها ثبوت؛ لأنّها موجودة، ولو في الأمم السابقة، وهذا يكفي لاستعمال كلمة(الرفع) لنفيها، وإنْ كنّا نحن نعلم بأنّ هذه الأحكام ليس لها وجود في شريعتنا بمجرّد عروض حالة الاضطرار، وحالة الإكراه، وحالة النسيان، وغيرها من الحالات المذكورة في الحديث الشريف، لكنّها موجودة في الشرائع السابقة، وهذا يكفي لتصحيح استعمال الرفع في هذه الموارد.
الوجه الثاني: أنّ الجهة المصححّة لاستعمال الرفع في محل الكلام هي الوجود الاقتضائي لهذه الأحكام. إذا فرضنا أنّ الحكم الشرعي في حالة الاضطرار، والإكراه ليس له وجود، لكن له وجود اقتضائي لوجود مقتضيه، وملاكه، وهذا الوجود الاقتضائي للحكم الشرعي في حالة الاضطرار والإكراه، يصححّ اسناد الرفع إليه، فيقال رفعه الشارع بعد ثبوته، أي الثبوت الاقتضائي، الملاكي.
هذا الوجه الثاني هو الذي ننطلق منه إلى البحث المقصود في هذا الأمر الثاني، حيث البحث المقصود في الأمر الثاني ليس هو هذا، وإنّما هو في مسألة، إمكان تصحيح الفعل الذي يضطر المكلّف إلى تركه، لكنّه يأتي به بالرغم من الاضطرار إلى الترك؟ وهذا ممكن افتراضاً، إذا افترضنا أنّ الاضطرار لا يصل إلى محذور الاضطرار العقلي، بحيث لا يمكنه الإتيان به، فيضطر إلى تركه، فهذا عقلاً لا يمكنه الإتيان به، لكنّ الاضطرار المعتبر ليس هو هذا، وإنّما الاضطرار العرفي العادي، فإذا اضطر إلى ترك عبادةٍ، كما لو اضطر إلى ترك الوضوء، أو اضطر إلى ترك الغسل، لكنّه ليس اضطراراً عقليّاً بحيث يمتنع أنْ يصدر منه، وإنّما هو اضطرار عرفي، فالمكلّف تحمّل الضرر، والحرج، وصدر منه الوضوء، أو أنّه أكره على ترك الوضوء، يعني توعّده المُكرِه بإيقاع الضرر به، وهو تحمّل الضرر، وتوضأ؛ فهل يمكن تصحيح هذا الوضوء الصادر مع الاضطرار، أو مع الإكراه، أو مع الحرج ؟ والمقصود ليس تصحيحه بأدلّةٍ خاصّةٍ، وإنّما تصحيحه بحديث الرفع، فهل يُستفاد من حديث الرفع صحّة الفعل المضطر إلى تركه إذا صدر من المكلّف ؟ وصحّة الفعل المُكرَه على تركه إذا صدر من المكلّف، أو لا يمكن تصحيحه ؟
هنا يُدّعى بأنّه يمكن بحديث الرفع تصحيح هذا الفعل إذا جاء به المكلّف في حالة الحرج، أو الإكراه، وفي المقابل هناك قول بعدم إمكان تصحيح هذا الفعل بحديث الرفع. ودليل الذي يقول بعدم إمكان التصحيح هو أنّ حديث الرفع يتكفّل برفع الآثار والأحكام الشرعيّة المترتبة على ما يضطر إليه المكلّف، فوجوب الوضوء يرتفع عن المُكره؛ لأنّه أُكره على ترك الوضوء، أو اضطر إلى تركه؛ وحينئذٍ يرتفع وجوب الوضوء عنه، فلا يجب عليه الوضوء وهو مُكره على تركه، فإذا ارتفع وجوب الوضوء، فلا طريق لتصحيح الوضوء لو صدر عنه، ولا دليل على صحّة هذا الوضوء؛ لأنّ طريق تصحيح الوضوء هو أنْ يتعلّق به الوجوب، فمثل هذا الفعل أوجبه الشارع على المكلّف، فلو صدر منه، فأنّه سوف يقع صحيحاً، أمّا حيث يرتفع الوجوب ـــــ بحسب الفرض ـــــ بحديث الرفع عن هذا الوضوء الصادر منه في حالة الاضطرار إلى الترك، فلا يمكن الالتزام بصحة هذا الوضوء، وليس في حديث الرفع دلالة على صحّته، وإنّما هو يرفع وجوبه، ويقول للمكلّف لا يجب عليك الوضوء في هذه الحالات، وبعد ارتفاع الوجوب لا يمكن إحراز، وإثبات صحّة الوضوء. نعم، الاستدراك الوحيد هو أننّا لو فرضنا أننّا بالرغم من ارتفاع الوجوب بحديث الرفع، لكننّا أحرزنا أنّ هذا الوضوء واجدٌ لملاك الوجوب، وللمصلحة من الوجوب؛ فحينئذٍ يمكن تصحيح الوضوء، باعتبار عدم الفرق بين هذا الوضوء، وبين أيّ وضوءٍ آخر في أنّه واجدٌ للملاك؛ وحينئذٍ يمكن الالتزام بتصحيحه على أساس واجديته للملاك، وإن ارتفع عنه الوجوب.
لكنّ أنّى، وكيف لنا أنّ نحرز بقاء الملاك بعد ارتفاع الوجوب ؟ والحال أنّهم يقولون بأنّ طريقنا لإحراز الملاك في الفعل هو تعلّق الأمر به، فعندما يتعلّق الأمر بهذا الفعل، فأننّا نستكشف وجود الملاك فيه بقاعدة أنّ الأحكام الشرعيّة تابعة للمصالح والمفاسد والملاكات. أمّا حيث يرتفع الأمر؛ فحينئذٍ ينسدّ علينا الطريق لإحراز وجود الملاك في ذلك الفعل؛ إذ لعلّ ارتفاع الأمر والحكم عنه باعتبار ارتفاع ملاكه في حالة الاضطرار، ولعلّ الوضوء في حالة الاضطرار أصلاً ليس فيه ملاك يقتضي الوجوب، ومع هذا الاحتمال؛ حينئذٍ كيف يمكن إحراز وجود الملاك بعد ارتفاع الأمر والوجوب.
ذُكر في المقام عدّة وجوه تدل على بقاء الملاك بالرغم من ارتفاع الوجوب، هذه الوجوه تستفاد من حديث الرفع، فيقال بأنّ حديث الرفع يدلّ على بقاء الملاك في الفعل الذي اضطر المكلّف إلى تركه، أو أكره على تركه، فإذا تمّت هذه الوجوه؛ فحينئذٍ يمكن تصحيح هذا الوضوء، وإلاّ، فلا يمكن تصحيحه.
[1] دراسات في علم الأصول، تقرير بحث السيّد الخوئي للسيد الشاهرودي، ج3، ص 237.
[2] مصباح الأصول، تقرير بحث السيّد الخوئي للبهسودي، ج 2، ص 263.
[3] فوائد الأصول، إفادات الميرزا النائيني للشيخ الكاظمي الخراساني، ج 3، ص 337.
[4] دراسات في علم الأصول، تقرير بحث السيّد الخوئي للسيد الشاهرودي، ج 3، ص 237.