35/03/27
تحمیل
الموضوع: الأصول العمليّة/ أصالة التخيير
بقي الكلام في ما ذكره السيد الخوئي(قدّس سرّه) من توجيه لجريان البراءة في التكاليف الاستحبابيةالضمنية، يُلاحظ على ذلك: ما هو المقصود من جريان البراءة في التكليف الضمني الاستحبابي ؟
تارةً نفترض أنّ المقصود بذلك هو إثبات جواز الإتيان بالباقي بقصد الأمر بتوسيط الإطلاق، بمعنى أننا نجري البراءة لنفي القيد المشكوك، أو نفي الجزء المشكوك الذي يُحتمل كونه جزءً، أو قيداً في المستحب، وبذلك بعد إجراء البراءة لنفي القيد، أو الجزء المحتمل يثبت الإطلاق في دليل المستحب، ومعنى الإطلاق في دليل المستحب هو أنّ الأمر بذلك المستحب ليس مقيداً بذلك الشي، يعني بعبارة أخرى: متعلّق بالباقي، فيثبت الأمر بالباقي، فيجوز لهذا المكلّف الإتيان بالباقي بقصد الأمر، فالغرض من إجراء البراءة هو إثبات الإطلاق في الأمر، الغرض من إجراء البراءة هو نفي القيد المحتمل في المستحب، أو نفي الجزء المحتمل في المستحب، وإثبات الإطلاق في ذلك الأمر، إذا ثبت الإطلاق في ذلك الأمر، يثبت تعلّق الأمر بالباقي، فيجوز له أنْ يأتي بالباقي بقصد الأمر.
إنْ كان هذا هو المقصود من إجراء البراءة في التكاليف الاستحبابية الضمنية، فالذي يُلاحظ عليه هو أنّ مسألة إثبات الإطلاق بجريان البراءة عن القيد، أو عن الجزء هي مسألة فيها كلام طويل، أنّه هل يمكن إثبات الإطلاق بإجراء البراءة عن القيد، أو لا ؟ المعروف عن المحقق النائيني(قدّس سرّه) [1]أنّه يبني هذا الجواز على مسألة أنّ الإطلاق هل هو عبارة عن عدم القيد، أو أنّ الإطلاق هو أمر وجودي مضاد للتقييد ؟ فإذا قلنا أنّ الإطلاق هو عيارة عن عدم القيد؛ فحينئذٍ لا مانع من إثبات الإطلاق بإجراء البراءة عن القيد، وأمّا إذا قلنا أنّ الإطلاق عبارة عن أمرٍ وجوديٍ ضد للتقييد؛ فحينئذٍ لا يمكن إثبات الإطلاق بإجراء البراءة عن القيد، إلاّ بناءً على حجّية الأصل المثبت، أمران وجوديان متضادان، نفي أحدهما بالبراءة لا يترتّب عليه إثبات الضد الآخر، إلاّ إذا قلنا بحجّية الأصل المثبت، فبناها على تلك المسألة، لكنّ هذا محل كلام ومناقشة، باعتبار أنّ هذا قد يتم في ما إذا كان النافي للقيد أصل ناظر إلى الواقع وناظر إلى عالم الجعل بحيث حينما يجري الأصل وينفي القيد، فأنّه ينفي القيد واقعاً، هذا الكلام له مجال؛ وحينئذٍ يقال إذا كان معنى الإطلاق هو عدم القيد، كما يقال في الاستصحاب ــــــــــ مثلاً ــــــــــ فاستصحاب عدم القيد جرى وأثبت عدم القيد، والمفروض أنّه ناظر إلى الواقع وإلى عالم الجعل، فهو ينفي القيد في الواقع، وفي عالم الجعل، إذن: في الواقع لا يوجد قيد بمقتضى الاستصحاب، إذا كان معنى الإطلاق هو عدم القيد، فقد ثبت الإطلاق واقعاً، وإذا كان معنى الإطلاق أمراً وجودياً مضادا للتقييد؛ حينئذٍ لا يثبت الإطلاق بهذا الأصل، إلاّ بناءً على حجّية الأصل المثبت. وأمّا إذا فرضنا أنّ الأصل النافي للقيد ليس ناظراً إلى الواقع، ولا إلى عالم الجعل، وإنّما ناظر إلى مرحلة الجري العملي، مرحلة ما بعد الشكّ في الواقع، وليس ناظراً إلى نفس الواقع وإلى عالم الجعل، من قبيل البراءة التي هي محل كلامنا، البراءة ليست ناظرة إلى الواقع، وعندما تجري لنفي القيد لا تريد أنْ تنفي القيد واقعاً، وإنّما هي تنفي القيد في مرحلة الجري العملي، في مرحلة الشك في الواقع وما بعد افتراض الشكّ في الواقع، إذا شككت في الواقع في مقام الجري العملي أبنِ على عدم ذلك القيد، ومرجع ذلك على ما تقدّم في أدلة البراءة وفي بحث البراءة هو إلى نفي وجوب الاحتياط، أنّه عند الشكّ في الواقع وفي مرحلة الجري العملي لا يجب عليك الاحتياط، مرجع البراءة إلى الرفع الظاهري للتكليف الواقعي المشكوك، الرفع الظاهري هو عبارة عن عدم وجوب الاحتياط، هذا مفاد دليل البراءة، لا يجب عليك الاحتياط عندما تشكّ في دخالة هذا القيد في الواجب، أو في المستحب. بناءً على هذا كما هو المفروض في محل كلامنا، المفروض في محل كلامنا أننا لا نتمسك بأصلٍ ناظر إلى الواقع وإلى عالم الجعل، وإنّما نتمسّك بالبراءة، ومفاد البراءة هو عدم وجوب الاحتياط عند الشكّ في القيد، أو الجزء بالنسبة إلى المستحب، بناءً على هذا؛ حينئذٍ لا يتم إثبات الإطلاق بالبراءة، لا يمكن إثبات الإطلاق بإجراء البراءة عن القيد، حتّى إذا قلنا بأنّ الإطلاق هو عبارة عن عدم القيد، فضلاً عن ما إذا قلنا أنّ الإطلاق هو أمر وجودي مضاد للتقييد؛ بل حتّى إذا قلنا أنّ الإطلاق هو عبارة عن عدم القيد لا يمكن إثباته بإجراء البراءة عن القيد، باعتبار أنّ هذا ليس ناظراً إلى الواقع حتّى يثبت بنفيه القيد الإطلاق؛ لأنّ المقصود بالإطلاق في المقام هو الذي يقابل التقييد في الواقع، بمعنى أنّ القيد إمّا أنْ يكون ثابتاً في الواقع، أو لا، فالإطلاق يقابل التقييد في الواقع وفي عالم الجعل، فالإطلاق هو عدم القيد في الواقع وفي عالم الجعل، كيف يمكن أنْ نثبت عدم القيد في الواقع ــــــــــ حتّى لو قلنا أنّ الإطلاق معناه عدم القيد ـــــــــــ وفي عالم الجعل بإجراء أصالة البراءة التي هي ليست ناظرة إلى عالم الواقع، وإنّما هي ناظرة إلى مرحلة ما بعد الشك في الواقع، وإلى مرحلة الجري العملي، إثبات الإطلاق بإجراء البراءة مشكل على كلا التقديرين، سواء قلنا أنّ الإطلاق أمر عدمي، أو قلنا بأنّ الإطلاق أمر وجودي، فإثبات جواز الإتيان بالباقي بقصد الأمر بتوسيط الإطلاق، يعني إجراء البراءة لإثبات جواز الإتيان بالباقي بقصد الأمر بتوسيط الإطلاق هذا مشكل.
وأمّا إنْ كان المقصود ليس بتوسيط الإطلاق، نجري البراءة لإثبات جواز الإتيان بالباقي بقصد الأمر، باعتبار أنّ هذا نحتمل جوازه، ونحتمل عدم جوازه، الإتيان بالباقي بقصد الأمر نحتمل جوازه على تقدير أنْ لا يكون الجزء المحتمل جزءً من المستحب، وهذا معناه أنّ الأمر متعلّق بالباقي، فيجوز الإتيان بالباقي بقصد الأمر، ونحتمل عدم جوازه على تقدير أنْ يكون الجزء المشكوك جزءً من المستحب، فلا يجوز لك الإتيان بالباقي بقصد الأمر المتعلّق به؛ لأنّه على تقدير أنْ يكون هذا جزءً فلا أمر بالباقي بحدّه، إذن: هو يشكّ في جواز الإتيان بالباقي بقصد الأمر وعدم جوازه، فنجري البراءة في هذا رأساً بلا توسيط الإطلاق، ويثبت بعد إجراء البراءة، باعتبار الشكّ في التكليف وفي الجواز، يثبت جواز الإتيان بالباقي بقصد الأمر.
إذا قيل: هذا هو المقصود من إجراء البراءة، فمن الواضح أنّه غير جائز باعتبار أننا بمجرّد أن نشك في الأمر يثبت بلا إشكال عدم جواز الإتيان بالباقي بقصد الأمر؛ لأنّه تشريع محرّم.
إذن: لا يوجد عندنا شك في جواز الإتيان بالباقي بقصد الأمر مع أنّ المفروض هو الشكّ في أنّ هذا الشيء جزء من المستحب، أو ليس جزءً للمستحب، الشكّ في جزئية هذا للمستحب يعني الشكّ في أنّ هناك أمر بالباقي، أو ليس هناك أمر بالباقي ؟ ومع الشكّ في تعلّق الأمر بالباقي يكون الإتيان به بقصد الأمر تشريعاً محرّماً، ويكفي في حرمة الإتيان بالباقي بقصد الأمر مجرّد الشك ولا يتوقّف على إثبات عدم الأمر، إنّما الشكّ في وجود أمر يكفي لإثبات عدم جواز الإتيان بالباقي بقصد الأمر؛ لأنّه تشريع محرّم وإسناد إلى المولى من دون العلم بثبوته، فإذن: لا ينفعنا إجراء البراءة لا بتوسيط الإطلاق لإثبات جواز الإتيان بالباقي بقصد الأمر، ولا مباشرة ومن دون توسيط الإطلاق.
من هنا يبدو أنّ الأقرب في أصل المسألة هو أنّ البراءة لا تجري في المستحبّات لما تقدّم الإشارة إليه، باعتبار أنّ أدلّة البراءة قاصرة عن الشمول للمستحبّات، يعني ليس المانع مانعاً ثبوتياً، وإنّما المانع مانع ثبوتي، باعتبار أنّ المهم من أدلّة البراءة وعمدة أدلّة البراءة فيها قرائن تمنع من إطلاقها للمستحبّات وتوجب اختصاصها بموارد الشكّ في التكاليف الإلزامية. إلى هنا يتمّ الكلام عن البراءة كأصلٍ من الأصول العملية المهمّة، بعد ذلك ننتقل إلى بحثٍ جديد في أصالة التخيير.
أصالة التخيير: أو الذي يُعبّر عنه بدوران الأمر بين المحذورين، والكلام يقع فيما إذا كان أمر الفعل دائر بين الوجوب وبين التحريم، المثال الذي يطرحوه هو ما إذا حلف على فعلٍ، أو على تركه، إمّا أن يجلس أو حلف على ترك الجلوس، هو حَلِف قطعاً حلفاً يتعلّق ــــــــ فرضاً ـــــــــ بالسفر، لكن لا يدري أنّه حَلِف على السفر، أو حَلِف على ترك السفر، إذا حَلِف على السفر يكون السفر واجباً، وإذا حَلِف على ترك السفر يكون السفر حراماً، فيدور أمر الفعل ــــــــ السفر ــــــــ بين الوجوب وبين التحريم بحيث يُعلم إجمالاً بتعلّق إمّا الوجوب، أو الحرمة بهذا الفعل، يوجد فعل إجمالي بأنّ هذا الفعل ــــــــ السفر ــــــــ إمّا واجب، وإمّا حرام، فيقع الكلام في أنّه ما هو الأصل الذي يجري في المقام ؟
ومن هنا يتضح أنّ الكلام وهذا البحث لا يشمل ما إذا كان هناك احتمال ثالث في الفعل بحيث نحتمل أنْ يكون محكوماً بحكم غير إلزامي بحيث يكون الفعل إمّا واجب، أو حرام، أو مستحب، هذا خارج عن محل كلامنا؛ لأنّه لا إشكال في جريان البراءة فيه؛ لأنّه شك في التكليف، وشك في الإلزام؛ لأنّ هذا الفعل إمّا أنْ يكون مباحاً، أو يكون فيه إلزام إمّا بالفعل، أو بالترك. إذن: الإلزام يكون مشكوكاً، الوجوب مشكوك، أو الحرمة مشكوكة، فهو شك في التكليف واقعاً؛ لأنّه يحتمل عدم الإلزام، فشكّ في التكليف وهو مجرى للبراءة وخارج عن محل الكلام، كلامنا فيما إذا كان هناك علم إجمالي بتعلّق إمّا الوجوب، وإمّا الحرمة بهذا الفعل، فهذا خارج عن محل الكلام.
ذكروا بأنّ الوجوب والتحريم الذي يدور الأمر بينهما ونعلم بهما إجمالاً: تارةً يكونا توصّليين لا يعتبر في امتثالهما قصد القربة، وأخرى يكونا تعبّديين يُعتبر في امتثالهما قصد القربة، أو يكون أحدهما تعبّدياً على الأقل، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، قالوا بـأنّ الواقعة المشكوكة، أو بعبارة أخرى الفعل المشتبه الذي يدور أمره بين التحريم وبين الوجوب تارةً يُفترض فعلاً وواقعة شخصيّة معيّنة غير قابلة للتعددّ والتكرار، مرةً يكون أُخذ فيها قيود زمانية، أو مكانية تجعل الفعل الحرام غير قابل للتكرار، كما لو حَلِف على السفر في زمان معيّن وإلى مكان معيّن، إمّا حَلِف على الجلوس في مكان معيّن وفي آنٍ معيّن، وإمّا حَلِف على ترك الجلوس، هذا الفعل الذي حَلِف إمّا على فعله، وإمّا على تركه غير قابل للتكرار؛ لأنّه أُخذت فيه قيود تجعله غير قابل للتكرار، أيّ جلوس آخر هو ليس هذا الجلوس الذي تعلّق به الحكم إمّا وجوباً، وإمّا تحريماً؛ لأنّ هذا الجلوس الذي تعلّق به الحكم إمّا الوجوب، أو التحريم هو جلوس في آنٍ معيّن وفي مكانٍ معيّن، فالجلوس في مكانٍ آخر ليس هو هذا الجلوس المحلوف على فعله، أو تركه، والجلوس في زمانٍ آخر هو أيضاً كذلك، فلا يكون قابلاً للتكرار. وإمّا أنْ يكون غير قابل للتكرار؛ لأنّ طبيعة الفعل غير قابلة للتكرار من قبيل القتل، وأمثاله، إذا علم بأنّه حَلِف إمّا على قتل حيوان، أو على ترك قتله، فيدور أمر قتله بين الوجوب وبين التحريم، هذا غير قابل للتكرار؛ لأنّ القتل يقع مرّة واحدة ولا يقبل التكرار والتعدّد. وإمّا أنْ يكون الفعل قابلاً للتكرار كما إذا حَلِف على فعل الجلوس بلا تقييد بزمان معيّن، أو حَلِف على تركه. ومن هنا تكون الصور المتصوّرة في المقام أربعة:
الصورة الأولى: أنّ نفترض أنّ الفعل غير قابل للتكرار، ويُعبّر عن الواقعة بأنّها واحدة مع افتراض أنّ الوجوب والتحريم توصّليين.
الصورة الثانية: واقعة واحدة الفعل غير للتكرار مع افتراض أنّ أحدهما تعبّدي.
الصورة الثالثة: الواقعة متعددّة مع افتراض أنّ الوجوب والتحريم توصّليين.
الصورة الرابعة: الواقعة متعدّدة مع افتراض أنّ أحدهما تعبّدي، لكن حيث أنّه مع افتراض تعددّ الواقعة يكون حكم الصورة الثالثة والصورة الرابعة واحداً كما سيتضح، سواء كانا توصّليين، أو تعبّديين، تكلموا عن حالة تعدد الواقعة من دون تفصيل بين كون الحكمين توصّليين، وبين كونهما تعبّديين، ومن هنا يقع الكلام في ثلاث مقامات:
المقام الأوّل: ما إذا كانا توصليين مع افتراض وحدة الواقعة.
المقام الثاني: ما إذا كانا تعبّديين، أو أحدهما تعبّدي مع وحدة الواقعة.
المقام الثالث: ما إذا كانت الواقعة متعددة والفعل قابل للتكرار سواء كانا توصّليين، أو كانا تعبّديين، أو كان أحدهما تعبّدياً.
بالنسبة إلى المقام الأوّل وهو ما إذا كانا توصّليين مع وحدة الواقعة مثال(الجلوس)، أو(السفر) على تقدير أنْ يكون السفر واجباً فهو وجوب توصّلي لا يعتبّر فيه قصد التقرّب، وعلى تقدير أنْ يكون حراماً أيضاً حرمته توصّلية وليست تعبّدية، مع افتراض اتحاد الواقعة كما إذا قيّده بقيود تمنع من افتراض تكررّ الفعل، في هكذا حالة المكلّف غير قادر على الموافقة القطعية ولا على المخالفة القطعية، أمّا عدم قدرته على المخالفة القطعية؛ فلأنّه لا يخلو إمّا من الفعل، وإمّا من الترك، واقعه لا يخلو، فلا يستطيع أنْ يخالف كلاً منهما؛ لأنّه لا يخلو إمّا أنْ يجلس، وإمّا أن لا يجلس، فإذا جلس ليس فيه مخالفة قطعية، وإذا ترك الجلوس أيضاً ليس فيه مخالفة قطعية. إذن: هو غير قادر على المخالفة القطعية. كما أنّه غير قادر على الموافقة القطعية؛ لأنّه لا يمكنه أنْ يجمع في الواقعة بين الفعل وبين الترك في الزمان الواحد وفي المكان الواحد، فهو غير قادر على أن يجلس وأن لا يجلس، هذا محال، فإذن هو غير قادر أيضاً على الموافقة الاحتمالية، كما أنّ معنى هذا الفرض أنّ المخالفة الاحتمالية والموافقة الاحتمالية أمران قهريان خارجان عن اختيار الإنسان، أمر لابدّ منه مهما فعل ومهما فرضنا هو لا يخلو من موافقة احتمالية ومن مخالفة احتمالية، فإذا ترك ففيه مخالة احتمالية وفيه موافقة احتمالية، وإذا فعل أيضاً كذلك. إذن: المخالفة الاحتمالية والموافقة الاحتمالية أمران قهريان خارجان عن اختيار المكلّف، فهو غير قادر على الموافقة القطعية والمخالفة القطعية، هذا لابدّ أنْ يؤخذ بنظر الاعتبار.
اختلفت أقوالهم في الأصل الجاري في هذه الصورة، ونُقلت أقوال كثيرة في تحديد ما هو الموقف العملي في هذه الحالة مع افتراض أنّ المكلّف غير قادر على الموافقة القطعية ولا على المخالفة القطعية، وأنّه لا يخلو من الموافقة الاحتمالية ومن المخالفة الاحتمالية، فذُكرت أقوال خمسة، كما ذكرها السيد الخوئي(قدّس سرّه) :
القول الأوّل: جريان البراءة الشرعية والعقلية. قاعدة قبح العقاب بلا بيان تجري إذا قلنا بها، وقاعدة البراءة الشرعية المستفادة من حديث الرفع وأمثاله. وهذا الرأي هو الذي تبنّاه السيد الخوئي(قدّس سرّه).[2]
القول الثاني: التخيير بين الفعل والترك عقلاً، فيُحكم بجواز أحدهما، لكن العقل يحكم بالتخيير بينهما بين الفعل والترك مع جريان أصالة الإباحة شرعاً. وهذا ما اختاره صاحب الكفاية(قدّس سرّه).[3] بمعنى أنّ هناك حكم ظاهري شرعي في محل كلامنا وهو الإباحة، الشارع يحكم بالإباحة، لكن في نفس الوقت هناك حكم عقلي بالتخيير بين الفعل وبين الترك.
القول الثالث: التخيير بين الفعل والترك عقلاً، لكن من دون الالتزام بحكم ظاهري شرعي، يعني مع عدم جريان أصالة الإباحة والبراءة في محل الكلام. هذا الرأي أختاره المحقق النائيني(قدّس سرّه).[4]
القول الرابع: التخيير بينهما شرعاً، يعني أنّ الشارع يحكم بالتخيير بين الفعل والترك.
القول الخامس: تقديم احتمال الحرمة على احتمال الوجوب، فيُلزم المكلّف بالترك، ودليله هو مسألة أنّ دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة، وهنا يدور أمره بين أنْ يدفع مفسدة إذا ترك، وبين أنْ يجلب مصلحة إذا فعل، يعني على تقدير أنْ يكون واجباً فهناك مصلحة في الفعل، وعلى تقدير أنْ يكون حراماً هناك مفسدة في الفعل، قالوا: أنّ العقل يحكم بأولوية دفع المفسدة من جلب المصلحة.
بالنسبة إلى القول الأوّل الذي اختاره السيد الخوئي(قدّس سرّه) وهو جريان البراءة العقلية والشرعية في محل الكلام، يُفهم من كلامه الاستدلال عليه بأنّه لا يوجد ما يمنع من التمسّك بالبراءتين في محل الكلام، فنتمسّك بهما.
أمّا بالنسبة إلى البراءة الشرعية، فلعموم دليلها ولا مانع يمنع من التمسّك بها بعد عموم دليلها؛ حينئذٍ لا مانع من التمسّك بها؛ لأننّا لا نرى مانعاً يمنع من التمسّك بعموم البراءة الشرعية، مفاد حديث الرفع هو رفع الحكم بأي معنى فسّرنا الرفع هو رفع الحكم في حال الجهل به، وهذا ينطبق على كلٍ من الوجوب والتحريم، الوجوب بالوجدان يجهله المكلّف، والحرمة أيضاً يجهلها المكلّف، فباعتبار أنّه يجهل الوجوب تجري البراءة لنفي الوجوب، وباعتبار أنّه يجهل التحريم تجري البراءة لنفي التحريم، ولا يوجد ما يمنع من إجراء البراءة في كلٍ منهما والتمسّك بعموم حديث الرفع في كلٍ من الوجوب والتحريم؛ لأنّ موضوع البراءة في حديث الرفع هو ما لا تعلم به، وهو لا يعلم بالوجوب ولا يعلم بالتحريم، فيشملهما حديث الرفع.
وأمّا البراءة العقلية، فذكر أنّ موضوعها هو عدم البيان، لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، وهذا أيضاً صادق على كلٍ من الوجوب والتحريم؛ لأنّه لا بيان على الوجوب ولا بيان على التحريم، فيقبُح العقاب على هذا ويقبح العقاب على هذا وهو معنى قاعدة قبح العقاب بلا بيان.
هناك اعتراضات على إجراء أصالة البراءة في محل الكلام نتعرّض لها إنْ شاء الله تعالى.
بقي الكلام في ما ذكره السيد الخوئي(قدّس سرّه) من توجيه لجريان البراءة في التكاليف الاستحبابيةالضمنية، يُلاحظ على ذلك: ما هو المقصود من جريان البراءة في التكليف الضمني الاستحبابي ؟
تارةً نفترض أنّ المقصود بذلك هو إثبات جواز الإتيان بالباقي بقصد الأمر بتوسيط الإطلاق، بمعنى أننا نجري البراءة لنفي القيد المشكوك، أو نفي الجزء المشكوك الذي يُحتمل كونه جزءً، أو قيداً في المستحب، وبذلك بعد إجراء البراءة لنفي القيد، أو الجزء المحتمل يثبت الإطلاق في دليل المستحب، ومعنى الإطلاق في دليل المستحب هو أنّ الأمر بذلك المستحب ليس مقيداً بذلك الشي، يعني بعبارة أخرى: متعلّق بالباقي، فيثبت الأمر بالباقي، فيجوز لهذا المكلّف الإتيان بالباقي بقصد الأمر، فالغرض من إجراء البراءة هو إثبات الإطلاق في الأمر، الغرض من إجراء البراءة هو نفي القيد المحتمل في المستحب، أو نفي الجزء المحتمل في المستحب، وإثبات الإطلاق في ذلك الأمر، إذا ثبت الإطلاق في ذلك الأمر، يثبت تعلّق الأمر بالباقي، فيجوز له أنْ يأتي بالباقي بقصد الأمر.
إنْ كان هذا هو المقصود من إجراء البراءة في التكاليف الاستحبابية الضمنية، فالذي يُلاحظ عليه هو أنّ مسألة إثبات الإطلاق بجريان البراءة عن القيد، أو عن الجزء هي مسألة فيها كلام طويل، أنّه هل يمكن إثبات الإطلاق بإجراء البراءة عن القيد، أو لا ؟ المعروف عن المحقق النائيني(قدّس سرّه) [1]أنّه يبني هذا الجواز على مسألة أنّ الإطلاق هل هو عبارة عن عدم القيد، أو أنّ الإطلاق هو أمر وجودي مضاد للتقييد ؟ فإذا قلنا أنّ الإطلاق هو عيارة عن عدم القيد؛ فحينئذٍ لا مانع من إثبات الإطلاق بإجراء البراءة عن القيد، وأمّا إذا قلنا أنّ الإطلاق عبارة عن أمرٍ وجوديٍ ضد للتقييد؛ فحينئذٍ لا يمكن إثبات الإطلاق بإجراء البراءة عن القيد، إلاّ بناءً على حجّية الأصل المثبت، أمران وجوديان متضادان، نفي أحدهما بالبراءة لا يترتّب عليه إثبات الضد الآخر، إلاّ إذا قلنا بحجّية الأصل المثبت، فبناها على تلك المسألة، لكنّ هذا محل كلام ومناقشة، باعتبار أنّ هذا قد يتم في ما إذا كان النافي للقيد أصل ناظر إلى الواقع وناظر إلى عالم الجعل بحيث حينما يجري الأصل وينفي القيد، فأنّه ينفي القيد واقعاً، هذا الكلام له مجال؛ وحينئذٍ يقال إذا كان معنى الإطلاق هو عدم القيد، كما يقال في الاستصحاب ــــــــــ مثلاً ــــــــــ فاستصحاب عدم القيد جرى وأثبت عدم القيد، والمفروض أنّه ناظر إلى الواقع وإلى عالم الجعل، فهو ينفي القيد في الواقع، وفي عالم الجعل، إذن: في الواقع لا يوجد قيد بمقتضى الاستصحاب، إذا كان معنى الإطلاق هو عدم القيد، فقد ثبت الإطلاق واقعاً، وإذا كان معنى الإطلاق أمراً وجودياً مضادا للتقييد؛ حينئذٍ لا يثبت الإطلاق بهذا الأصل، إلاّ بناءً على حجّية الأصل المثبت. وأمّا إذا فرضنا أنّ الأصل النافي للقيد ليس ناظراً إلى الواقع، ولا إلى عالم الجعل، وإنّما ناظر إلى مرحلة الجري العملي، مرحلة ما بعد الشكّ في الواقع، وليس ناظراً إلى نفس الواقع وإلى عالم الجعل، من قبيل البراءة التي هي محل كلامنا، البراءة ليست ناظرة إلى الواقع، وعندما تجري لنفي القيد لا تريد أنْ تنفي القيد واقعاً، وإنّما هي تنفي القيد في مرحلة الجري العملي، في مرحلة الشك في الواقع وما بعد افتراض الشكّ في الواقع، إذا شككت في الواقع في مقام الجري العملي أبنِ على عدم ذلك القيد، ومرجع ذلك على ما تقدّم في أدلة البراءة وفي بحث البراءة هو إلى نفي وجوب الاحتياط، أنّه عند الشكّ في الواقع وفي مرحلة الجري العملي لا يجب عليك الاحتياط، مرجع البراءة إلى الرفع الظاهري للتكليف الواقعي المشكوك، الرفع الظاهري هو عبارة عن عدم وجوب الاحتياط، هذا مفاد دليل البراءة، لا يجب عليك الاحتياط عندما تشكّ في دخالة هذا القيد في الواجب، أو في المستحب. بناءً على هذا كما هو المفروض في محل كلامنا، المفروض في محل كلامنا أننا لا نتمسك بأصلٍ ناظر إلى الواقع وإلى عالم الجعل، وإنّما نتمسّك بالبراءة، ومفاد البراءة هو عدم وجوب الاحتياط عند الشكّ في القيد، أو الجزء بالنسبة إلى المستحب، بناءً على هذا؛ حينئذٍ لا يتم إثبات الإطلاق بالبراءة، لا يمكن إثبات الإطلاق بإجراء البراءة عن القيد، حتّى إذا قلنا بأنّ الإطلاق هو عبارة عن عدم القيد، فضلاً عن ما إذا قلنا أنّ الإطلاق هو أمر وجودي مضاد للتقييد؛ بل حتّى إذا قلنا أنّ الإطلاق هو عبارة عن عدم القيد لا يمكن إثباته بإجراء البراءة عن القيد، باعتبار أنّ هذا ليس ناظراً إلى الواقع حتّى يثبت بنفيه القيد الإطلاق؛ لأنّ المقصود بالإطلاق في المقام هو الذي يقابل التقييد في الواقع، بمعنى أنّ القيد إمّا أنْ يكون ثابتاً في الواقع، أو لا، فالإطلاق يقابل التقييد في الواقع وفي عالم الجعل، فالإطلاق هو عدم القيد في الواقع وفي عالم الجعل، كيف يمكن أنْ نثبت عدم القيد في الواقع ــــــــــ حتّى لو قلنا أنّ الإطلاق معناه عدم القيد ـــــــــــ وفي عالم الجعل بإجراء أصالة البراءة التي هي ليست ناظرة إلى عالم الواقع، وإنّما هي ناظرة إلى مرحلة ما بعد الشك في الواقع، وإلى مرحلة الجري العملي، إثبات الإطلاق بإجراء البراءة مشكل على كلا التقديرين، سواء قلنا أنّ الإطلاق أمر عدمي، أو قلنا بأنّ الإطلاق أمر وجودي، فإثبات جواز الإتيان بالباقي بقصد الأمر بتوسيط الإطلاق، يعني إجراء البراءة لإثبات جواز الإتيان بالباقي بقصد الأمر بتوسيط الإطلاق هذا مشكل.
وأمّا إنْ كان المقصود ليس بتوسيط الإطلاق، نجري البراءة لإثبات جواز الإتيان بالباقي بقصد الأمر، باعتبار أنّ هذا نحتمل جوازه، ونحتمل عدم جوازه، الإتيان بالباقي بقصد الأمر نحتمل جوازه على تقدير أنْ لا يكون الجزء المحتمل جزءً من المستحب، وهذا معناه أنّ الأمر متعلّق بالباقي، فيجوز الإتيان بالباقي بقصد الأمر، ونحتمل عدم جوازه على تقدير أنْ يكون الجزء المشكوك جزءً من المستحب، فلا يجوز لك الإتيان بالباقي بقصد الأمر المتعلّق به؛ لأنّه على تقدير أنْ يكون هذا جزءً فلا أمر بالباقي بحدّه، إذن: هو يشكّ في جواز الإتيان بالباقي بقصد الأمر وعدم جوازه، فنجري البراءة في هذا رأساً بلا توسيط الإطلاق، ويثبت بعد إجراء البراءة، باعتبار الشكّ في التكليف وفي الجواز، يثبت جواز الإتيان بالباقي بقصد الأمر.
إذا قيل: هذا هو المقصود من إجراء البراءة، فمن الواضح أنّه غير جائز باعتبار أننا بمجرّد أن نشك في الأمر يثبت بلا إشكال عدم جواز الإتيان بالباقي بقصد الأمر؛ لأنّه تشريع محرّم.
إذن: لا يوجد عندنا شك في جواز الإتيان بالباقي بقصد الأمر مع أنّ المفروض هو الشكّ في أنّ هذا الشيء جزء من المستحب، أو ليس جزءً للمستحب، الشكّ في جزئية هذا للمستحب يعني الشكّ في أنّ هناك أمر بالباقي، أو ليس هناك أمر بالباقي ؟ ومع الشكّ في تعلّق الأمر بالباقي يكون الإتيان به بقصد الأمر تشريعاً محرّماً، ويكفي في حرمة الإتيان بالباقي بقصد الأمر مجرّد الشك ولا يتوقّف على إثبات عدم الأمر، إنّما الشكّ في وجود أمر يكفي لإثبات عدم جواز الإتيان بالباقي بقصد الأمر؛ لأنّه تشريع محرّم وإسناد إلى المولى من دون العلم بثبوته، فإذن: لا ينفعنا إجراء البراءة لا بتوسيط الإطلاق لإثبات جواز الإتيان بالباقي بقصد الأمر، ولا مباشرة ومن دون توسيط الإطلاق.
من هنا يبدو أنّ الأقرب في أصل المسألة هو أنّ البراءة لا تجري في المستحبّات لما تقدّم الإشارة إليه، باعتبار أنّ أدلّة البراءة قاصرة عن الشمول للمستحبّات، يعني ليس المانع مانعاً ثبوتياً، وإنّما المانع مانع ثبوتي، باعتبار أنّ المهم من أدلّة البراءة وعمدة أدلّة البراءة فيها قرائن تمنع من إطلاقها للمستحبّات وتوجب اختصاصها بموارد الشكّ في التكاليف الإلزامية. إلى هنا يتمّ الكلام عن البراءة كأصلٍ من الأصول العملية المهمّة، بعد ذلك ننتقل إلى بحثٍ جديد في أصالة التخيير.
أصالة التخيير: أو الذي يُعبّر عنه بدوران الأمر بين المحذورين، والكلام يقع فيما إذا كان أمر الفعل دائر بين الوجوب وبين التحريم، المثال الذي يطرحوه هو ما إذا حلف على فعلٍ، أو على تركه، إمّا أن يجلس أو حلف على ترك الجلوس، هو حَلِف قطعاً حلفاً يتعلّق ــــــــ فرضاً ـــــــــ بالسفر، لكن لا يدري أنّه حَلِف على السفر، أو حَلِف على ترك السفر، إذا حَلِف على السفر يكون السفر واجباً، وإذا حَلِف على ترك السفر يكون السفر حراماً، فيدور أمر الفعل ــــــــ السفر ــــــــ بين الوجوب وبين التحريم بحيث يُعلم إجمالاً بتعلّق إمّا الوجوب، أو الحرمة بهذا الفعل، يوجد فعل إجمالي بأنّ هذا الفعل ــــــــ السفر ــــــــ إمّا واجب، وإمّا حرام، فيقع الكلام في أنّه ما هو الأصل الذي يجري في المقام ؟
ومن هنا يتضح أنّ الكلام وهذا البحث لا يشمل ما إذا كان هناك احتمال ثالث في الفعل بحيث نحتمل أنْ يكون محكوماً بحكم غير إلزامي بحيث يكون الفعل إمّا واجب، أو حرام، أو مستحب، هذا خارج عن محل كلامنا؛ لأنّه لا إشكال في جريان البراءة فيه؛ لأنّه شك في التكليف، وشك في الإلزام؛ لأنّ هذا الفعل إمّا أنْ يكون مباحاً، أو يكون فيه إلزام إمّا بالفعل، أو بالترك. إذن: الإلزام يكون مشكوكاً، الوجوب مشكوك، أو الحرمة مشكوكة، فهو شك في التكليف واقعاً؛ لأنّه يحتمل عدم الإلزام، فشكّ في التكليف وهو مجرى للبراءة وخارج عن محل الكلام، كلامنا فيما إذا كان هناك علم إجمالي بتعلّق إمّا الوجوب، وإمّا الحرمة بهذا الفعل، فهذا خارج عن محل الكلام.
ذكروا بأنّ الوجوب والتحريم الذي يدور الأمر بينهما ونعلم بهما إجمالاً: تارةً يكونا توصّليين لا يعتبر في امتثالهما قصد القربة، وأخرى يكونا تعبّديين يُعتبر في امتثالهما قصد القربة، أو يكون أحدهما تعبّدياً على الأقل، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، قالوا بـأنّ الواقعة المشكوكة، أو بعبارة أخرى الفعل المشتبه الذي يدور أمره بين التحريم وبين الوجوب تارةً يُفترض فعلاً وواقعة شخصيّة معيّنة غير قابلة للتعددّ والتكرار، مرةً يكون أُخذ فيها قيود زمانية، أو مكانية تجعل الفعل الحرام غير قابل للتكرار، كما لو حَلِف على السفر في زمان معيّن وإلى مكان معيّن، إمّا حَلِف على الجلوس في مكان معيّن وفي آنٍ معيّن، وإمّا حَلِف على ترك الجلوس، هذا الفعل الذي حَلِف إمّا على فعله، وإمّا على تركه غير قابل للتكرار؛ لأنّه أُخذت فيه قيود تجعله غير قابل للتكرار، أيّ جلوس آخر هو ليس هذا الجلوس الذي تعلّق به الحكم إمّا وجوباً، وإمّا تحريماً؛ لأنّ هذا الجلوس الذي تعلّق به الحكم إمّا الوجوب، أو التحريم هو جلوس في آنٍ معيّن وفي مكانٍ معيّن، فالجلوس في مكانٍ آخر ليس هو هذا الجلوس المحلوف على فعله، أو تركه، والجلوس في زمانٍ آخر هو أيضاً كذلك، فلا يكون قابلاً للتكرار. وإمّا أنْ يكون غير قابل للتكرار؛ لأنّ طبيعة الفعل غير قابلة للتكرار من قبيل القتل، وأمثاله، إذا علم بأنّه حَلِف إمّا على قتل حيوان، أو على ترك قتله، فيدور أمر قتله بين الوجوب وبين التحريم، هذا غير قابل للتكرار؛ لأنّ القتل يقع مرّة واحدة ولا يقبل التكرار والتعدّد. وإمّا أنْ يكون الفعل قابلاً للتكرار كما إذا حَلِف على فعل الجلوس بلا تقييد بزمان معيّن، أو حَلِف على تركه. ومن هنا تكون الصور المتصوّرة في المقام أربعة:
الصورة الأولى: أنّ نفترض أنّ الفعل غير قابل للتكرار، ويُعبّر عن الواقعة بأنّها واحدة مع افتراض أنّ الوجوب والتحريم توصّليين.
الصورة الثانية: واقعة واحدة الفعل غير للتكرار مع افتراض أنّ أحدهما تعبّدي.
الصورة الثالثة: الواقعة متعددّة مع افتراض أنّ الوجوب والتحريم توصّليين.
الصورة الرابعة: الواقعة متعدّدة مع افتراض أنّ أحدهما تعبّدي، لكن حيث أنّه مع افتراض تعددّ الواقعة يكون حكم الصورة الثالثة والصورة الرابعة واحداً كما سيتضح، سواء كانا توصّليين، أو تعبّديين، تكلموا عن حالة تعدد الواقعة من دون تفصيل بين كون الحكمين توصّليين، وبين كونهما تعبّديين، ومن هنا يقع الكلام في ثلاث مقامات:
المقام الأوّل: ما إذا كانا توصليين مع افتراض وحدة الواقعة.
المقام الثاني: ما إذا كانا تعبّديين، أو أحدهما تعبّدي مع وحدة الواقعة.
المقام الثالث: ما إذا كانت الواقعة متعددة والفعل قابل للتكرار سواء كانا توصّليين، أو كانا تعبّديين، أو كان أحدهما تعبّدياً.
بالنسبة إلى المقام الأوّل وهو ما إذا كانا توصّليين مع وحدة الواقعة مثال(الجلوس)، أو(السفر) على تقدير أنْ يكون السفر واجباً فهو وجوب توصّلي لا يعتبّر فيه قصد التقرّب، وعلى تقدير أنْ يكون حراماً أيضاً حرمته توصّلية وليست تعبّدية، مع افتراض اتحاد الواقعة كما إذا قيّده بقيود تمنع من افتراض تكررّ الفعل، في هكذا حالة المكلّف غير قادر على الموافقة القطعية ولا على المخالفة القطعية، أمّا عدم قدرته على المخالفة القطعية؛ فلأنّه لا يخلو إمّا من الفعل، وإمّا من الترك، واقعه لا يخلو، فلا يستطيع أنْ يخالف كلاً منهما؛ لأنّه لا يخلو إمّا أنْ يجلس، وإمّا أن لا يجلس، فإذا جلس ليس فيه مخالفة قطعية، وإذا ترك الجلوس أيضاً ليس فيه مخالفة قطعية. إذن: هو غير قادر على المخالفة القطعية. كما أنّه غير قادر على الموافقة القطعية؛ لأنّه لا يمكنه أنْ يجمع في الواقعة بين الفعل وبين الترك في الزمان الواحد وفي المكان الواحد، فهو غير قادر على أن يجلس وأن لا يجلس، هذا محال، فإذن هو غير قادر أيضاً على الموافقة الاحتمالية، كما أنّ معنى هذا الفرض أنّ المخالفة الاحتمالية والموافقة الاحتمالية أمران قهريان خارجان عن اختيار الإنسان، أمر لابدّ منه مهما فعل ومهما فرضنا هو لا يخلو من موافقة احتمالية ومن مخالفة احتمالية، فإذا ترك ففيه مخالة احتمالية وفيه موافقة احتمالية، وإذا فعل أيضاً كذلك. إذن: المخالفة الاحتمالية والموافقة الاحتمالية أمران قهريان خارجان عن اختيار المكلّف، فهو غير قادر على الموافقة القطعية والمخالفة القطعية، هذا لابدّ أنْ يؤخذ بنظر الاعتبار.
اختلفت أقوالهم في الأصل الجاري في هذه الصورة، ونُقلت أقوال كثيرة في تحديد ما هو الموقف العملي في هذه الحالة مع افتراض أنّ المكلّف غير قادر على الموافقة القطعية ولا على المخالفة القطعية، وأنّه لا يخلو من الموافقة الاحتمالية ومن المخالفة الاحتمالية، فذُكرت أقوال خمسة، كما ذكرها السيد الخوئي(قدّس سرّه) :
القول الأوّل: جريان البراءة الشرعية والعقلية. قاعدة قبح العقاب بلا بيان تجري إذا قلنا بها، وقاعدة البراءة الشرعية المستفادة من حديث الرفع وأمثاله. وهذا الرأي هو الذي تبنّاه السيد الخوئي(قدّس سرّه).[2]
القول الثاني: التخيير بين الفعل والترك عقلاً، فيُحكم بجواز أحدهما، لكن العقل يحكم بالتخيير بينهما بين الفعل والترك مع جريان أصالة الإباحة شرعاً. وهذا ما اختاره صاحب الكفاية(قدّس سرّه).[3] بمعنى أنّ هناك حكم ظاهري شرعي في محل كلامنا وهو الإباحة، الشارع يحكم بالإباحة، لكن في نفس الوقت هناك حكم عقلي بالتخيير بين الفعل وبين الترك.
القول الثالث: التخيير بين الفعل والترك عقلاً، لكن من دون الالتزام بحكم ظاهري شرعي، يعني مع عدم جريان أصالة الإباحة والبراءة في محل الكلام. هذا الرأي أختاره المحقق النائيني(قدّس سرّه).[4]
القول الرابع: التخيير بينهما شرعاً، يعني أنّ الشارع يحكم بالتخيير بين الفعل والترك.
القول الخامس: تقديم احتمال الحرمة على احتمال الوجوب، فيُلزم المكلّف بالترك، ودليله هو مسألة أنّ دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة، وهنا يدور أمره بين أنْ يدفع مفسدة إذا ترك، وبين أنْ يجلب مصلحة إذا فعل، يعني على تقدير أنْ يكون واجباً فهناك مصلحة في الفعل، وعلى تقدير أنْ يكون حراماً هناك مفسدة في الفعل، قالوا: أنّ العقل يحكم بأولوية دفع المفسدة من جلب المصلحة.
بالنسبة إلى القول الأوّل الذي اختاره السيد الخوئي(قدّس سرّه) وهو جريان البراءة العقلية والشرعية في محل الكلام، يُفهم من كلامه الاستدلال عليه بأنّه لا يوجد ما يمنع من التمسّك بالبراءتين في محل الكلام، فنتمسّك بهما.
أمّا بالنسبة إلى البراءة الشرعية، فلعموم دليلها ولا مانع يمنع من التمسّك بها بعد عموم دليلها؛ حينئذٍ لا مانع من التمسّك بها؛ لأننّا لا نرى مانعاً يمنع من التمسّك بعموم البراءة الشرعية، مفاد حديث الرفع هو رفع الحكم بأي معنى فسّرنا الرفع هو رفع الحكم في حال الجهل به، وهذا ينطبق على كلٍ من الوجوب والتحريم، الوجوب بالوجدان يجهله المكلّف، والحرمة أيضاً يجهلها المكلّف، فباعتبار أنّه يجهل الوجوب تجري البراءة لنفي الوجوب، وباعتبار أنّه يجهل التحريم تجري البراءة لنفي التحريم، ولا يوجد ما يمنع من إجراء البراءة في كلٍ منهما والتمسّك بعموم حديث الرفع في كلٍ من الوجوب والتحريم؛ لأنّ موضوع البراءة في حديث الرفع هو ما لا تعلم به، وهو لا يعلم بالوجوب ولا يعلم بالتحريم، فيشملهما حديث الرفع.
وأمّا البراءة العقلية، فذكر أنّ موضوعها هو عدم البيان، لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، وهذا أيضاً صادق على كلٍ من الوجوب والتحريم؛ لأنّه لا بيان على الوجوب ولا بيان على التحريم، فيقبُح العقاب على هذا ويقبح العقاب على هذا وهو معنى قاعدة قبح العقاب بلا بيان.
هناك اعتراضات على إجراء أصالة البراءة في محل الكلام نتعرّض لها إنْ شاء الله تعالى.