36/02/08
تحمیل
الموضوع: الأصول العمليّة / تنبيهات العلم الإجمالي/ العلم الإجمالي في التدريجيات
ذكرنا في الدرس السابق أنّ بعض من لم يقبل منجّزية العلم الإجمالي المطروح في محل الكلام في التدريجيات باعتبار أنّه علم بتكليفٍ فعليٍ على تقديرٍ وليس فعلياً على تقديرٍ آخر؛ ولذا لا يكون منجّزاً، حاول أنّ يثبت المنجّزية بتشكيل علمٍ إجماليٍ آخرٍ كلا طرفيه فعلي، فيكون علماً إجمالياً بتكليفٍ فعليٍ على كل تقديرٍ، وبذلك يكون منجّزاً، وهذا العلم الإجمالي هو عبارة عن العلم الإجمالي بالتكليف الفعلي على تقدير الفعل الحالي، والطرف الآخر له هو وجوب حفظ القدرة على امتثال التكليف في وقته على التقدير الآخر، هذه المرأة إن كانت حائضاً فعلاً، فالتكليف فعلي، وإن كانت حائضاً في المستقبل، فيجب عليها حفظ القدرة لامتثال هذا التكليف في ظرفه. إذن: هي تعلم بتكليفٍ فعليٍ على كل تقديرٍ دائراً بين هذا الفعل، بين حرمة الدخول في المساجد، حرمة المقاربة فعلاً وبين وجوب حفظ القدرة على امتثال التكليف الذي سيكون فعلياً في المستقبل، ووجوب حفظ القدرة فعلي وليس استقبالياً، فبالتالي يكون كلا الطرفين فعلياً، فهي تعلم بتكليفٍ فعلي على كل تقدير مردد بين هذا التكليف الفعلي وبين وجوب حفظ القدرة الفعلي أيضاً، وهذا يكون منجّزاً حينئذٍ ويترتّب عليه نفس ما يترتب على العلم الإجمالي المطروح في محل الكلام على تقدير كونه منجّزاً. قلنا أنّ هذا عليه ملاحظات، ذكرنا الملاحظة الأولى، والثانية، انتهى الكلام إلى الملاحظة الثالثة.
الملاحظة الثالثة: غاية ما يثبت بهذا العلم الإجمالي الذي شُكّل على هذا الأساس هو أنّه ينجّز كلا طرفيه، ومعنى ذلك أنّه ينجّز وجوب حفظ القدرة على امتثال التكليف في ظرفه، ينجّز حرمة تفويت القدرة على امتثال التكليف في وقته، هذا يتنجّز بهذا العلم الإجمالي، باعتبار أنّ وجوب حفظ القدرة وقع طرفاً للعلم الإجمالي الذي شُكّل في المقام، فالعلم الإجمالي ينجّز وجوب حفظ القدرة على امتثال التكليف في ظرفه. هذا غاية ما يثبت بذلك. وأمّا تفويت الواجب في وقته عصياناً بعد فرض حفظ القدرة على امتثاله، هو حفظ القدرة على امتثاله، لكن تركه عصياناً في ظرفه، هذا العلم الإجمالي لا يمنع منه؛ لأنّه ليس طرفاً للعلم الإجمالي، تفويت الواجب في ظرفه ليس طرفاً للعلم الإجمالي؛ لأنّ المفروض أنّ العلم الإجمالي لا ينجّز التكليف الفعلي والتكليف الاستقبالي، وإنّما ينجّز التكليف الفعلي هو وجوب حفظ القدرة، فإذا حفظ القدرة على امتثال التكليف الاستقبالي يكون قد جاء بما تنجّز عليه، لكن عندما يجيء ظرف التكليف الاستقبالي تفويت هذا التكليف، ولو عصياناً لا يمنع منه العلم الإجمالي الذي أقتُرح، العلم الإجمالي ينجّز طرفيه، يمنع من تفويت القدرة على امتثال التكليف في ظرفه ويمنع من الدخول في المسجد فعلاً وهو قد حافظ على القدرة ـــــــــــ بحسب الفرض ــــــــــــ وامتثل هذا الطرف الثاني، لكنّه ترك التكليف في وقته، ترك الفعل في المستقبل، في ظرف فعلية التكليف، ما الذي يمنعه من هذا الترك ؟ ما الذي يمنعه من تفويت الواجب في ظرفه ؟ هذا العلم الإجمالي لا يمنعه؛ لأنّ التكليف في ظرفه ليس طرفاً لهذا العلم الإجمالي ـــــــــــ بحسب الفرض ــــــــــــ فهذا التكليف لا يمنعه، وليس هناك شيء يمنعه سوى العلم الإجمالي الأوّل الذي قلنا سابقاً أنّه ينجّز كلا الطرفين ولو كان أحد الطرفين ليس فعلياً.
يمكن أن يقال: أنّ وجوب حفظ القدرة على امتثال التكليف في ظرفه إذا ثبت وتنجّز بهذا العلم المقترح، فالظاهر أنّه يستلزم حرمة تفويت الواجب في ظرفه، باعتبار أنّ ملاك وجوب حفظ القدرة ليس إلاّ هو التمكن من الإتيان بالواجب في ظرفه، فلا يُعقل أن يُسمح للمكلّف بتفويت الواجب في ظرفه مع إيجاب حفظ القدرة على امتثاله في ظرفه، لا يُعقل هذا، أنّ الشارع يوجب على المكلّف أن يحفظ قدرته على امتثال التكليف في ظرفه، لكن عندما يأتي ظرفه يسمح له بمخالفة نفس التكليف، أو يسمح له بتفويت نفس الواجب الذي أمره سابقاً بأن يحفظ قدرته على امتثاله، هذا غير معقول.
بعبارة أخرى: أنّ الظاهر أنّ هناك ملازمة بين وجوب حفظ القدرة على امتثال التكليف في ظرفه وبين عدم السماح، والمنع من تفويت الواجب في ظرفه، يُفهم هذا باعتبار الملازمة بينهما، فنستطيع أنّ نقول بأنّ العلم الإجمالي هو بنفسه إذا نجّز وجوب حفظ القدرة على امتثال التكليف في ظرفه؛ حينئذٍ هو ينجّز المنع من تفويت الواجب في ظرفه، يعني ينجّز نفس الواجب على المكلّف؛ ولذا طُرح هذا العلم الإجمالي كبدلٍ عن العلم الإجمالي المفروض في محل الكلام لتنجيز كلا الطرفين، أصل اقتراح هذا العلم الإجمالي حتّى ينجّز التكليف الفعلي، ويكون منجّزاً للتكليف الاستقبالي، لكن حيث أنّ التكليف الاستقبالي تكليفاً ليس فعلياً والعلم الإجمالي إنّما ينجّز التكليف إذا كان فعلياً على كل تقدير، وهذا التكليف ليس فعلياً على كل تقدير، اقتُرحت هذه الصيغة لسدّ هذا الفراغ، فقيل بأنّ التكليف فعلي على كل تقدير إذا لاحظنا أنّ الطرف الآخر هو وجوب حفظ القدرة، لكن هذا الذي يقول بوجوب حفظ القدرة على امتثال التكليف في ظرفه يرى أنّ المكلّف ممنوع من تفويت الواجب في ظرفه، وما ذلك إلاّ لما قلناه من أنّ هناك ملازمة عقلية بين وجوب حفظ القدرة على امتثال التكليف في ظرفه وبين المنع من تفويت الواجب في ظرفه، وإلاّ لماذا أمره بوجوب حفظ القدرة على امتثال التكليف في ظرفه ؟ مع السماح له بتفويت الواجب في ظرفه؛ حينئذٍ غير معقول أنّ يأمره بوجوب حفظ القدرة على امتثال التكليف في ظرفه.
على كل حال: يبدو أنّ الصحيح هو ما تقدّم من أنّ العلم الإجمالي في النحو الأوّل المطروح في البحث فعلاً، وهو ما إذا كان التكليف خطاباً وملاكاً ليس فعلياً الآن، بأن يكون الزمان المتأخّر دخيلاً في التكليف خطاباً وملاكاً. الصحيح في هذا النحو هو أنّ العلم الإجمالي ينجّز التكليف كما هو في العلم الإجمالي العادي عندما تكون أطرافه ليس تدريجية، لا فرق بين العلم الإجمالي العادي الذي تكون أطرافه ليست تدريجية، وبين العلم الإجمالي في التدريجيات، كلٌ منهما يكون منجّزاً من دون أيّ فرقٍ بينهما.
ومنه يظهر الحال في النحو الثاني، وهو ما إذا فرضنا أنّ الزمان المتأخّر دخيل في التكليف خطاباً لا ملاكاً، بأن نفترض أنّ التكليف ثابت وفعلي الآن قبل الزمان المتأخّر، لكنّ الزمان المتأخّر دخيل في الخطاب في التكليف الفعلي، فعلاً التكليف ليس فعلياً؛ لأنّ الزمان المتأخّر دخيل فيه، لكنّ الملاك ثابت الآن وفعلي والزمان المتأخّر ليس دخيلاً فيه، ممّا ذُكر في النحو الأوّل يتبين الحال في هذا النحو حيث تثبت المنجّزية للعلم الإجمالي من بابٍ أولى؛ لأننا فرغنا عن المنجّزية للعلم الإجمالي حيث يكون التكليف خطاباً وملاكاً متأخّراً زماناً، التكليف عندما يكون خطاباً وملاكاً متأخّراً زماناً قلنا بأنّ العلم الإجمالي ينجّز هذا التكليف، فما ظنّك عندما يكون المتأخّر هو الخطاب فقط مع فعلية الملاك، فيثبت التنجيز فيه من بابٍ أولى، ومثاله ما إذا نذر صوم يومٍ معيّن وتردد بين أوّل الشهر وبين وسط الشهر، قالوا أنّ التكليف وجوب الوفاء بالنذر يكون ملاكه تاماً من البداية، حتّى على تقدير أن يكون المنذور هو وسط الشهر، لكنّه من حين النذر يتم فيه الملاك، ملاكه يكون تامّاً. نعم، الخطاب، التكليف بوجوب الصوم وفاءً للنذر لا يكون فعلياً، فرضاً لاستحالة الواجب المعلّق، وإنّما يكون استقبالياً، فالخطاب يكون متأخّراً، لكن الملاك يكون فعلياً. هذا تثبت فيه المنجّزية كما قلنا من بابٍ أولى.
وأمّا بناءً على عدم المنجّزية في النحو الأوّل، لو قلنا بأنّ العلم الإجمالي في النحو الأوّل لا ينجّز التكليف؛ حينئذٍ يقع الكلام في أنّ العلم الإجمالي في النحو الثاني هل يكون منجّزاً بنكتة فعلية الملاك، بنكتة أنّ الملاك في النحو الثاني فعلي، وهذا ما لم نكن نفرضه في النحو الأوّل، حيث لم نفرض في النحو الأوّل أنّ الملاك فعلي، كلا الملاك ليس فعلياً، والخطاب أيضاً ليس فعلياً. الآن نضيف في النحو الثاني عنصراً ليس موجوداً في النحو الأوّل وهو أنّ الملاك فعلي، هذا هل يؤثّر في منجّزية العلم الإجمالي إذا لم نقل بالمنجّزية في النحو الأوّل، أو لا يؤثّر في المنجّزية ؟ فيقع البحث بهذا الشكل.
نُسب إلى الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) القول بالمنجّزية في النحو الثاني؛ ولذا نُسب إليه أنّه أختار التفصيل بين النحوين، الأوّل والثاني، وأنّه قال بالمنجّزية في النحو الثاني دون النحو الأوّل، ففصّل بينهما. هذا التفصيل لا يُفهم صراحةً من عبارة الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) في الرسائل، وإنّما قد يُفهم من ظاهر كلامه؛ لأنّه ذكر في البداية مثال المرأة الحائض كمثالٍ للعلم الإجمالي في التدريجيات، ومنع من فعلية الخطاب قبل الابتلاء بالحيض، قال أنّ الخطاب لا يكون فعلياً قبل الابتلاء بالحيض، فالخطاب ليس فعلياً، ثمّ قال:(ويشكل الفرق بين هذا وبين ما إذا نذر، أو حلف في ترك الوطء في ليلةٍ خاصّة، ثمّ اشتبهت بين ليليتين، أو أزيد).[1] كأنّه بنا على عدم المنجّزية في مثال الحائض، ثمّ قال يشكل الفرق بينه وبين مثال النذر، ثمّ قال:(لكنّ الأظهر هنا ــــــــــ يعني في مثال النذر ـــــــــــ وجوب الاحتياط، وكذا في المثال الثاني من المثالين المتقدّمين).[2]وجوب الاحتياط يعني منجّزية العلم الإجمالي، فكأنّه فرّق بين مثال النذر ومثال التاجر من جهة، وبين مثال المرأة الحائض، استظهر في الثاني وجوب الاحتياط. من هنا فُهم التفصيل، أنّ الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) لا يقول بالمنجّزية مطلقاً، ولا يقول بعدم المنجّزية مطلقاً، وإنّما له تفصيل، والتفصيل بين مثال الحائض وبين مثال النذر، ما هو الفرق بينهما ؟ الظاهر أنّ الفرق بينهما هو أنّه في مثال الحائض كما أنّ التكليف ليس فعلياً الملاك أيضاً ليس فعلياً، وهذا هو النحو الأوّل، بينما في مثال النذر ومثال التاجر التكليف ليس فعلياً؛ لأنّ الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) يرى استحالة الواجب المعلّق، لكنّ الملاك يكون فعلياً، اتّصاف المعاملة بأنّها ربوية وفيها مفسدة تقتضي التحريم، هذا لا يتوقف على حلول زمان المعاملة الربوية؛ لأنّ المعاملة الربوية تتصف بأنّها فيها مفسدة تقتضي التحريم من البداية، فالملاك موجود في المعاملة الربوية قبل حلول وقتها، كما أنّ ملاك وجوب الوفاء بالنذر موجود من حين النذر قبل حلول وقت المنذور، فالفرق بينهما هو أنّ الملاك في مثال الحائض ليس فعلياً كما هو الخطاب، بينما الملاك في مثال النذر فعلي، فعندما يقول الأظهر وجوب الاحتياط في مثال النذر، بينما لم يقل في مثال الحائض الأظهر وجوب الاحتياط، هذا معناه أنّه يُفصّل بينهما، يعني يُفصّل بين النحو الأوّل كما قلنا وبين النحو الثاني.
أمّا احتمال أنّه يُفصّل بينهما على اساس فعلية الخطاب في مثال النذر وعدم فعليته في مثال المرأة الحائض، هذا بعيد؛ لأنّه هو يرى استحالة الواجب المعلّق، هذا معناه أنّ التكليف في كلٍ منهما ليس فعلياً، التكليف ليس فعلياً في مثال الحائض، وليس فعلياً في مثال النذر؛ لأنّه يرى استحالة الواجب المعلّق.
إذن: المائز بينهما هو فعلية الملاك في الثاني وعدم فعليته في مثال الحائض؛ ولذا في مثال الحائض قال بعدم المنجّزية، وفي مثال النذر استظهر وجوب الاحتياط ووجوب الموافقة القطعية.
الوجه في المنجّزية بنكتة فعلية الملاك؛ لأننا قلنا أنّ هذا الكلام إنّما يجري عندما نفترض القول بعدم المنجّزية في النحو الأوّل، فيقع الكلام في النحو الثاني لأنّه تميّز عن النحو الأوّل بفعلية الملاك، هذه نكتة فعلية الملاك كيف تقتضي تنجيز العلم الإجمالي ؟ استُدلّ على هذا بدعوى أنّ العقل يستقلّ بقبح الإقدام على ما يؤدّي إلى تفويت الملاك والغرض المُلزِم، عندما يكون الملاك مُلزِماً والغرض مُلزِماً العقل يستقل بقبح تفويته، من جهة العقل لا فرق في القبح بين مخالفة التكليف الفعلي وبين مخالفة الملاك الفعلي المُلزِم، الملاك المُلزِم بنظر المولى، تفويته وحكم العقل بقبح تفويته كما هو الحال في التكليف الفعلي، تفويت التكليف الفعلي قبيح بنظر العقل، تفويت الملاك الفعلي أيضاً قبيح بنظر العقل، العقل يرى أنّ الترخيص في تفويت الملاك والغرض المُلزِم للمولى كالترخيص في مخالفة التكليف الفعلي للمولى، كلٌ منهما قبيح وكلٌ منهما غير جائز باعتبار أنّ عدم التكليف ليس لعدم المقتضي، في مثال النذر لماذا لا يكون التكليف فعلياً على تقدير أن يكون المنذور في المستقبل ؟ ليس لعدم المقتضي، وإنّما لوجود المانع، لاستحالة الواجب المعلّق، هذا هو الذي منع من فعلية التكليف، وإلاّ التكليف تام الاقتضاء، المقتضي تام، وملاكه تام، وإنّما منع منه شبهة استحالة الواجب المعلّق، فإذن، عدم التكليف إنّما هو لوجود المانع وليس من جهة عدم المقتضي. إذن: المقتضي للتكليف تام، وإنّما منع منه المانع، عدم التكليف هذا لوجود المانع مع تمامية المقتضي لا يفرّق العقل بينه وبين التكليف الفعلي في أنّ مخالفة كلٍ منهما قبيحة والترخيص في مخالفة كلٍ منهما بنظر العقل أيضاً يكون قبيحاً. هذا هو الوجه في المنجّزية في النحو الثاني إذا لم نقل بالمنجّزية في النحو الأوّل.
ثمّ أنّه على تقدير القول بعدم منجّزية العلم الإجمالي للتكليف في باب التدريجيات، يقع الكلام في أنّه هل يثبت بذلك عدم وجوب الموافقة القطعية فقط ؟ أي لا يجب على المكلّف أن يأتي بكلا الطرفين إذا كانت شبهة وجوبية تدريجية، ولا يجب عليه ترك كلا الطرفين إذا كانت الشبهة تحريمية تدريجية، هل الذي يثبت بذلك هو فقط عدم وجوب الموافقة القطعية، أو يثبت مضافاً إلى ذلك جواز المخالفة القطعية ؟ علم إجمالي غير منجّز، فكما لا تجب موافقته القطعية، كذلك لا تحرم مخالفته القطعية، فيجوز للمرأة الحائض الدخول في المسجد في كلا اليومين، ويجوز لزوجها المقاربة في كلا اليومين. وفي مثال التاجر يجوز له ارتكاب كل المعاملات خلال يومه مع علمه بأنّ فيها معاملة ربوية؛ لأنّ العلم الإجمالي غير منجّز، فكما لا تجب الموافقة القطعية كذلك لا تحرم المخالفة القطعية. ما يترتب على عدم التنجيز هل هو فقط عدم وجوب الموافقة القطعية، أو يترتب عليه مضافاً إلى ذلك عدم حرمة المخالفة القطعية ؟
الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) التزم بالثاني، يعني التزم بعدم حرمة المخالفة القطعية، أي لا تجب الموافقة القطعية؛ بل تجوز المخالفة القطعية، وعللّ ذلك بأنّ المفروض عدم تنجّز التكليف الواقعي بالنسبة إليه؛ فحينئذٍ إذا لم يتنجّز التكليف الواقعي بالنسبة إليه، فكما لا تجب موافقته القطعية، كذلك لا تحرم مخالفته القطعية. بعبارة أخرى: يكون حال التكليف في المقام حال الشبهات البدوية، ففي الشبهات البدوية كما لا تجب موافقتها القطعية لا تحرم مخالفتها القطعية، مجرّد شبهةٍ تجري فيها الأصول المؤمّنة، فلا تحرم المخالفة القطعية كما لا تجب الموافقة القطعية؛ لأنّ العلم الإجمالي ليس منجّزاً للتكليف، هذا التكليف الواقعي عندما لا يتنجّز على المكلّف؛ حينئذٍ لا يكون المكلّف مسئولاً تجاهه، لا بوجوب موافقته القطعية ولا بحرمة مخالفته القطعية. عللّ بهذا التعليل.
المحقق النائيني(قدّس سرّه) عللّه بعدم تعارض الأصول، قال بأنّه كما لا تجب الموافقة القطعية إذا لم نقل بالمنجّزية، لا تحرم المخالفة القطعية؛ لعدم تعارض الأصول في المقام على مبناه هو الذي هو مسلك الاقتضاء؛ وعدم تعارض الأصول لأنّه لا يلزم من جريانها الترخيص في المخالفة القطعية للتكليف المنجّز؛ لأننا فرضنا أنّ العلم الإجمالي ليس منجّزاً؛ فحينئذٍ لا تتعارض الأصول، فيمكن إجراء الأصل المؤمّن في الطرف الأوّل وإجراء الأصل في الطرف الثاني ممّا يؤدي إلى المخالفة القطعية، وهذا لا مشكلة فيه؛ لأنّ الأصول لا تتعارض. [3]
هذا التعليل بعدم تعارض الأصول يصح بالنسبة إلى عدم وجوب الموافقة القطعية ـــــــــــ على رأي المحقق النائيني(قدّس سرّه) ــــــــــــ لأنّه يرى أنّ وجوب الموافقة القطعية من آثار تعارض الأصول، إنّما يجب الاحتياط ليس لأنّ العلم الإجمالي علّة لوجوب الاحتياط، وإنّما وجوب الموافقة القطعية من آثار تعارض الأصول في الأطراف وتساقطها، فتبقى الأطراف بلا مؤمّن، فيجب فيها الاحتياط، فإذا كان وجوب الموافقة القطعية من آثار تعارض الأصول يمكننا أن نعللّ عدم وجوب الموافقة القطعية بعدم تعارض الأصول، فنقول أنّ الأصول في المقام غير متعارضة، فتكون علّة لعدم وجوب الموافقة القطعية. هذا صحيح.
وأمّا حرمة المخالفة القطعية، فهي على رأي المحقق النائيني(قدّس سرّه) ليست من آثار تعارض الأصول، وإنّما هي من لوازم العلم الإجمالي؛ ولذا هو يرى كغيره أنّ العلم الإجمالي علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعية، وإنّما الاختلاف بين مسلك الاقتضاء وبين مسلك العلّية التامّة، إنّما هو بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية، هو يرى أنّ وجوب الموافقة القطعية من نتائج تعارض الأصول وغيره يرى أنّ العلم الإجمالي ينجّز وجوب الموافقة القطعية؛ لأنّه علّة تامّة لها، وأمّا حرمة المخالفة القطعية، فالظاهر أنّه هو أيضاً يقول بأنّ العلم الإجمالي علّة تامّة لها، أي لحرمة المخالفة القطعية؛ فحينئذٍ تعليل عدم حرمة المخالفة القطعية في محل الكلام بعدم تعارض الأصول ليس فنّياً؛ لأنّ حرمة المخالفة القطعية ليست من آثار تعارض الأصول حتّى نعللّ عدم الحرمة في المقام بعدم التعارض، وإنّما ينحصر التعليل بسقوط العلم الإجمالي عن المنجّزية، العلم الإجمالي حينئذٍ ليس منجّزاً، فإذا لم يكن منجّزاً لا تحرم المخالفة القطعية.
هذا تمام الكلام في هذا التنبيه وهوالعلم الإجمالي في التدريجيات، بعد ذلك ننتقل إلى بحثٍ آخر، وهو البحث عن الاضطرار إلى بعض أطراف العلم الإجمالي.
ذكرنا في الدرس السابق أنّ بعض من لم يقبل منجّزية العلم الإجمالي المطروح في محل الكلام في التدريجيات باعتبار أنّه علم بتكليفٍ فعليٍ على تقديرٍ وليس فعلياً على تقديرٍ آخر؛ ولذا لا يكون منجّزاً، حاول أنّ يثبت المنجّزية بتشكيل علمٍ إجماليٍ آخرٍ كلا طرفيه فعلي، فيكون علماً إجمالياً بتكليفٍ فعليٍ على كل تقديرٍ، وبذلك يكون منجّزاً، وهذا العلم الإجمالي هو عبارة عن العلم الإجمالي بالتكليف الفعلي على تقدير الفعل الحالي، والطرف الآخر له هو وجوب حفظ القدرة على امتثال التكليف في وقته على التقدير الآخر، هذه المرأة إن كانت حائضاً فعلاً، فالتكليف فعلي، وإن كانت حائضاً في المستقبل، فيجب عليها حفظ القدرة لامتثال هذا التكليف في ظرفه. إذن: هي تعلم بتكليفٍ فعليٍ على كل تقديرٍ دائراً بين هذا الفعل، بين حرمة الدخول في المساجد، حرمة المقاربة فعلاً وبين وجوب حفظ القدرة على امتثال التكليف الذي سيكون فعلياً في المستقبل، ووجوب حفظ القدرة فعلي وليس استقبالياً، فبالتالي يكون كلا الطرفين فعلياً، فهي تعلم بتكليفٍ فعلي على كل تقدير مردد بين هذا التكليف الفعلي وبين وجوب حفظ القدرة الفعلي أيضاً، وهذا يكون منجّزاً حينئذٍ ويترتّب عليه نفس ما يترتب على العلم الإجمالي المطروح في محل الكلام على تقدير كونه منجّزاً. قلنا أنّ هذا عليه ملاحظات، ذكرنا الملاحظة الأولى، والثانية، انتهى الكلام إلى الملاحظة الثالثة.
الملاحظة الثالثة: غاية ما يثبت بهذا العلم الإجمالي الذي شُكّل على هذا الأساس هو أنّه ينجّز كلا طرفيه، ومعنى ذلك أنّه ينجّز وجوب حفظ القدرة على امتثال التكليف في ظرفه، ينجّز حرمة تفويت القدرة على امتثال التكليف في وقته، هذا يتنجّز بهذا العلم الإجمالي، باعتبار أنّ وجوب حفظ القدرة وقع طرفاً للعلم الإجمالي الذي شُكّل في المقام، فالعلم الإجمالي ينجّز وجوب حفظ القدرة على امتثال التكليف في ظرفه. هذا غاية ما يثبت بذلك. وأمّا تفويت الواجب في وقته عصياناً بعد فرض حفظ القدرة على امتثاله، هو حفظ القدرة على امتثاله، لكن تركه عصياناً في ظرفه، هذا العلم الإجمالي لا يمنع منه؛ لأنّه ليس طرفاً للعلم الإجمالي، تفويت الواجب في ظرفه ليس طرفاً للعلم الإجمالي؛ لأنّ المفروض أنّ العلم الإجمالي لا ينجّز التكليف الفعلي والتكليف الاستقبالي، وإنّما ينجّز التكليف الفعلي هو وجوب حفظ القدرة، فإذا حفظ القدرة على امتثال التكليف الاستقبالي يكون قد جاء بما تنجّز عليه، لكن عندما يجيء ظرف التكليف الاستقبالي تفويت هذا التكليف، ولو عصياناً لا يمنع منه العلم الإجمالي الذي أقتُرح، العلم الإجمالي ينجّز طرفيه، يمنع من تفويت القدرة على امتثال التكليف في ظرفه ويمنع من الدخول في المسجد فعلاً وهو قد حافظ على القدرة ـــــــــــ بحسب الفرض ــــــــــــ وامتثل هذا الطرف الثاني، لكنّه ترك التكليف في وقته، ترك الفعل في المستقبل، في ظرف فعلية التكليف، ما الذي يمنعه من هذا الترك ؟ ما الذي يمنعه من تفويت الواجب في ظرفه ؟ هذا العلم الإجمالي لا يمنعه؛ لأنّ التكليف في ظرفه ليس طرفاً لهذا العلم الإجمالي ـــــــــــ بحسب الفرض ــــــــــــ فهذا التكليف لا يمنعه، وليس هناك شيء يمنعه سوى العلم الإجمالي الأوّل الذي قلنا سابقاً أنّه ينجّز كلا الطرفين ولو كان أحد الطرفين ليس فعلياً.
يمكن أن يقال: أنّ وجوب حفظ القدرة على امتثال التكليف في ظرفه إذا ثبت وتنجّز بهذا العلم المقترح، فالظاهر أنّه يستلزم حرمة تفويت الواجب في ظرفه، باعتبار أنّ ملاك وجوب حفظ القدرة ليس إلاّ هو التمكن من الإتيان بالواجب في ظرفه، فلا يُعقل أن يُسمح للمكلّف بتفويت الواجب في ظرفه مع إيجاب حفظ القدرة على امتثاله في ظرفه، لا يُعقل هذا، أنّ الشارع يوجب على المكلّف أن يحفظ قدرته على امتثال التكليف في ظرفه، لكن عندما يأتي ظرفه يسمح له بمخالفة نفس التكليف، أو يسمح له بتفويت نفس الواجب الذي أمره سابقاً بأن يحفظ قدرته على امتثاله، هذا غير معقول.
بعبارة أخرى: أنّ الظاهر أنّ هناك ملازمة بين وجوب حفظ القدرة على امتثال التكليف في ظرفه وبين عدم السماح، والمنع من تفويت الواجب في ظرفه، يُفهم هذا باعتبار الملازمة بينهما، فنستطيع أنّ نقول بأنّ العلم الإجمالي هو بنفسه إذا نجّز وجوب حفظ القدرة على امتثال التكليف في ظرفه؛ حينئذٍ هو ينجّز المنع من تفويت الواجب في ظرفه، يعني ينجّز نفس الواجب على المكلّف؛ ولذا طُرح هذا العلم الإجمالي كبدلٍ عن العلم الإجمالي المفروض في محل الكلام لتنجيز كلا الطرفين، أصل اقتراح هذا العلم الإجمالي حتّى ينجّز التكليف الفعلي، ويكون منجّزاً للتكليف الاستقبالي، لكن حيث أنّ التكليف الاستقبالي تكليفاً ليس فعلياً والعلم الإجمالي إنّما ينجّز التكليف إذا كان فعلياً على كل تقدير، وهذا التكليف ليس فعلياً على كل تقدير، اقتُرحت هذه الصيغة لسدّ هذا الفراغ، فقيل بأنّ التكليف فعلي على كل تقدير إذا لاحظنا أنّ الطرف الآخر هو وجوب حفظ القدرة، لكن هذا الذي يقول بوجوب حفظ القدرة على امتثال التكليف في ظرفه يرى أنّ المكلّف ممنوع من تفويت الواجب في ظرفه، وما ذلك إلاّ لما قلناه من أنّ هناك ملازمة عقلية بين وجوب حفظ القدرة على امتثال التكليف في ظرفه وبين المنع من تفويت الواجب في ظرفه، وإلاّ لماذا أمره بوجوب حفظ القدرة على امتثال التكليف في ظرفه ؟ مع السماح له بتفويت الواجب في ظرفه؛ حينئذٍ غير معقول أنّ يأمره بوجوب حفظ القدرة على امتثال التكليف في ظرفه.
على كل حال: يبدو أنّ الصحيح هو ما تقدّم من أنّ العلم الإجمالي في النحو الأوّل المطروح في البحث فعلاً، وهو ما إذا كان التكليف خطاباً وملاكاً ليس فعلياً الآن، بأن يكون الزمان المتأخّر دخيلاً في التكليف خطاباً وملاكاً. الصحيح في هذا النحو هو أنّ العلم الإجمالي ينجّز التكليف كما هو في العلم الإجمالي العادي عندما تكون أطرافه ليس تدريجية، لا فرق بين العلم الإجمالي العادي الذي تكون أطرافه ليست تدريجية، وبين العلم الإجمالي في التدريجيات، كلٌ منهما يكون منجّزاً من دون أيّ فرقٍ بينهما.
ومنه يظهر الحال في النحو الثاني، وهو ما إذا فرضنا أنّ الزمان المتأخّر دخيل في التكليف خطاباً لا ملاكاً، بأن نفترض أنّ التكليف ثابت وفعلي الآن قبل الزمان المتأخّر، لكنّ الزمان المتأخّر دخيل في الخطاب في التكليف الفعلي، فعلاً التكليف ليس فعلياً؛ لأنّ الزمان المتأخّر دخيل فيه، لكنّ الملاك ثابت الآن وفعلي والزمان المتأخّر ليس دخيلاً فيه، ممّا ذُكر في النحو الأوّل يتبين الحال في هذا النحو حيث تثبت المنجّزية للعلم الإجمالي من بابٍ أولى؛ لأننا فرغنا عن المنجّزية للعلم الإجمالي حيث يكون التكليف خطاباً وملاكاً متأخّراً زماناً، التكليف عندما يكون خطاباً وملاكاً متأخّراً زماناً قلنا بأنّ العلم الإجمالي ينجّز هذا التكليف، فما ظنّك عندما يكون المتأخّر هو الخطاب فقط مع فعلية الملاك، فيثبت التنجيز فيه من بابٍ أولى، ومثاله ما إذا نذر صوم يومٍ معيّن وتردد بين أوّل الشهر وبين وسط الشهر، قالوا أنّ التكليف وجوب الوفاء بالنذر يكون ملاكه تاماً من البداية، حتّى على تقدير أن يكون المنذور هو وسط الشهر، لكنّه من حين النذر يتم فيه الملاك، ملاكه يكون تامّاً. نعم، الخطاب، التكليف بوجوب الصوم وفاءً للنذر لا يكون فعلياً، فرضاً لاستحالة الواجب المعلّق، وإنّما يكون استقبالياً، فالخطاب يكون متأخّراً، لكن الملاك يكون فعلياً. هذا تثبت فيه المنجّزية كما قلنا من بابٍ أولى.
وأمّا بناءً على عدم المنجّزية في النحو الأوّل، لو قلنا بأنّ العلم الإجمالي في النحو الأوّل لا ينجّز التكليف؛ حينئذٍ يقع الكلام في أنّ العلم الإجمالي في النحو الثاني هل يكون منجّزاً بنكتة فعلية الملاك، بنكتة أنّ الملاك في النحو الثاني فعلي، وهذا ما لم نكن نفرضه في النحو الأوّل، حيث لم نفرض في النحو الأوّل أنّ الملاك فعلي، كلا الملاك ليس فعلياً، والخطاب أيضاً ليس فعلياً. الآن نضيف في النحو الثاني عنصراً ليس موجوداً في النحو الأوّل وهو أنّ الملاك فعلي، هذا هل يؤثّر في منجّزية العلم الإجمالي إذا لم نقل بالمنجّزية في النحو الأوّل، أو لا يؤثّر في المنجّزية ؟ فيقع البحث بهذا الشكل.
نُسب إلى الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) القول بالمنجّزية في النحو الثاني؛ ولذا نُسب إليه أنّه أختار التفصيل بين النحوين، الأوّل والثاني، وأنّه قال بالمنجّزية في النحو الثاني دون النحو الأوّل، ففصّل بينهما. هذا التفصيل لا يُفهم صراحةً من عبارة الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) في الرسائل، وإنّما قد يُفهم من ظاهر كلامه؛ لأنّه ذكر في البداية مثال المرأة الحائض كمثالٍ للعلم الإجمالي في التدريجيات، ومنع من فعلية الخطاب قبل الابتلاء بالحيض، قال أنّ الخطاب لا يكون فعلياً قبل الابتلاء بالحيض، فالخطاب ليس فعلياً، ثمّ قال:(ويشكل الفرق بين هذا وبين ما إذا نذر، أو حلف في ترك الوطء في ليلةٍ خاصّة، ثمّ اشتبهت بين ليليتين، أو أزيد).[1] كأنّه بنا على عدم المنجّزية في مثال الحائض، ثمّ قال يشكل الفرق بينه وبين مثال النذر، ثمّ قال:(لكنّ الأظهر هنا ــــــــــ يعني في مثال النذر ـــــــــــ وجوب الاحتياط، وكذا في المثال الثاني من المثالين المتقدّمين).[2]وجوب الاحتياط يعني منجّزية العلم الإجمالي، فكأنّه فرّق بين مثال النذر ومثال التاجر من جهة، وبين مثال المرأة الحائض، استظهر في الثاني وجوب الاحتياط. من هنا فُهم التفصيل، أنّ الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) لا يقول بالمنجّزية مطلقاً، ولا يقول بعدم المنجّزية مطلقاً، وإنّما له تفصيل، والتفصيل بين مثال الحائض وبين مثال النذر، ما هو الفرق بينهما ؟ الظاهر أنّ الفرق بينهما هو أنّه في مثال الحائض كما أنّ التكليف ليس فعلياً الملاك أيضاً ليس فعلياً، وهذا هو النحو الأوّل، بينما في مثال النذر ومثال التاجر التكليف ليس فعلياً؛ لأنّ الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) يرى استحالة الواجب المعلّق، لكنّ الملاك يكون فعلياً، اتّصاف المعاملة بأنّها ربوية وفيها مفسدة تقتضي التحريم، هذا لا يتوقف على حلول زمان المعاملة الربوية؛ لأنّ المعاملة الربوية تتصف بأنّها فيها مفسدة تقتضي التحريم من البداية، فالملاك موجود في المعاملة الربوية قبل حلول وقتها، كما أنّ ملاك وجوب الوفاء بالنذر موجود من حين النذر قبل حلول وقت المنذور، فالفرق بينهما هو أنّ الملاك في مثال الحائض ليس فعلياً كما هو الخطاب، بينما الملاك في مثال النذر فعلي، فعندما يقول الأظهر وجوب الاحتياط في مثال النذر، بينما لم يقل في مثال الحائض الأظهر وجوب الاحتياط، هذا معناه أنّه يُفصّل بينهما، يعني يُفصّل بين النحو الأوّل كما قلنا وبين النحو الثاني.
أمّا احتمال أنّه يُفصّل بينهما على اساس فعلية الخطاب في مثال النذر وعدم فعليته في مثال المرأة الحائض، هذا بعيد؛ لأنّه هو يرى استحالة الواجب المعلّق، هذا معناه أنّ التكليف في كلٍ منهما ليس فعلياً، التكليف ليس فعلياً في مثال الحائض، وليس فعلياً في مثال النذر؛ لأنّه يرى استحالة الواجب المعلّق.
إذن: المائز بينهما هو فعلية الملاك في الثاني وعدم فعليته في مثال الحائض؛ ولذا في مثال الحائض قال بعدم المنجّزية، وفي مثال النذر استظهر وجوب الاحتياط ووجوب الموافقة القطعية.
الوجه في المنجّزية بنكتة فعلية الملاك؛ لأننا قلنا أنّ هذا الكلام إنّما يجري عندما نفترض القول بعدم المنجّزية في النحو الأوّل، فيقع الكلام في النحو الثاني لأنّه تميّز عن النحو الأوّل بفعلية الملاك، هذه نكتة فعلية الملاك كيف تقتضي تنجيز العلم الإجمالي ؟ استُدلّ على هذا بدعوى أنّ العقل يستقلّ بقبح الإقدام على ما يؤدّي إلى تفويت الملاك والغرض المُلزِم، عندما يكون الملاك مُلزِماً والغرض مُلزِماً العقل يستقل بقبح تفويته، من جهة العقل لا فرق في القبح بين مخالفة التكليف الفعلي وبين مخالفة الملاك الفعلي المُلزِم، الملاك المُلزِم بنظر المولى، تفويته وحكم العقل بقبح تفويته كما هو الحال في التكليف الفعلي، تفويت التكليف الفعلي قبيح بنظر العقل، تفويت الملاك الفعلي أيضاً قبيح بنظر العقل، العقل يرى أنّ الترخيص في تفويت الملاك والغرض المُلزِم للمولى كالترخيص في مخالفة التكليف الفعلي للمولى، كلٌ منهما قبيح وكلٌ منهما غير جائز باعتبار أنّ عدم التكليف ليس لعدم المقتضي، في مثال النذر لماذا لا يكون التكليف فعلياً على تقدير أن يكون المنذور في المستقبل ؟ ليس لعدم المقتضي، وإنّما لوجود المانع، لاستحالة الواجب المعلّق، هذا هو الذي منع من فعلية التكليف، وإلاّ التكليف تام الاقتضاء، المقتضي تام، وملاكه تام، وإنّما منع منه شبهة استحالة الواجب المعلّق، فإذن، عدم التكليف إنّما هو لوجود المانع وليس من جهة عدم المقتضي. إذن: المقتضي للتكليف تام، وإنّما منع منه المانع، عدم التكليف هذا لوجود المانع مع تمامية المقتضي لا يفرّق العقل بينه وبين التكليف الفعلي في أنّ مخالفة كلٍ منهما قبيحة والترخيص في مخالفة كلٍ منهما بنظر العقل أيضاً يكون قبيحاً. هذا هو الوجه في المنجّزية في النحو الثاني إذا لم نقل بالمنجّزية في النحو الأوّل.
ثمّ أنّه على تقدير القول بعدم منجّزية العلم الإجمالي للتكليف في باب التدريجيات، يقع الكلام في أنّه هل يثبت بذلك عدم وجوب الموافقة القطعية فقط ؟ أي لا يجب على المكلّف أن يأتي بكلا الطرفين إذا كانت شبهة وجوبية تدريجية، ولا يجب عليه ترك كلا الطرفين إذا كانت الشبهة تحريمية تدريجية، هل الذي يثبت بذلك هو فقط عدم وجوب الموافقة القطعية، أو يثبت مضافاً إلى ذلك جواز المخالفة القطعية ؟ علم إجمالي غير منجّز، فكما لا تجب موافقته القطعية، كذلك لا تحرم مخالفته القطعية، فيجوز للمرأة الحائض الدخول في المسجد في كلا اليومين، ويجوز لزوجها المقاربة في كلا اليومين. وفي مثال التاجر يجوز له ارتكاب كل المعاملات خلال يومه مع علمه بأنّ فيها معاملة ربوية؛ لأنّ العلم الإجمالي غير منجّز، فكما لا تجب الموافقة القطعية كذلك لا تحرم المخالفة القطعية. ما يترتب على عدم التنجيز هل هو فقط عدم وجوب الموافقة القطعية، أو يترتب عليه مضافاً إلى ذلك عدم حرمة المخالفة القطعية ؟
الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) التزم بالثاني، يعني التزم بعدم حرمة المخالفة القطعية، أي لا تجب الموافقة القطعية؛ بل تجوز المخالفة القطعية، وعللّ ذلك بأنّ المفروض عدم تنجّز التكليف الواقعي بالنسبة إليه؛ فحينئذٍ إذا لم يتنجّز التكليف الواقعي بالنسبة إليه، فكما لا تجب موافقته القطعية، كذلك لا تحرم مخالفته القطعية. بعبارة أخرى: يكون حال التكليف في المقام حال الشبهات البدوية، ففي الشبهات البدوية كما لا تجب موافقتها القطعية لا تحرم مخالفتها القطعية، مجرّد شبهةٍ تجري فيها الأصول المؤمّنة، فلا تحرم المخالفة القطعية كما لا تجب الموافقة القطعية؛ لأنّ العلم الإجمالي ليس منجّزاً للتكليف، هذا التكليف الواقعي عندما لا يتنجّز على المكلّف؛ حينئذٍ لا يكون المكلّف مسئولاً تجاهه، لا بوجوب موافقته القطعية ولا بحرمة مخالفته القطعية. عللّ بهذا التعليل.
المحقق النائيني(قدّس سرّه) عللّه بعدم تعارض الأصول، قال بأنّه كما لا تجب الموافقة القطعية إذا لم نقل بالمنجّزية، لا تحرم المخالفة القطعية؛ لعدم تعارض الأصول في المقام على مبناه هو الذي هو مسلك الاقتضاء؛ وعدم تعارض الأصول لأنّه لا يلزم من جريانها الترخيص في المخالفة القطعية للتكليف المنجّز؛ لأننا فرضنا أنّ العلم الإجمالي ليس منجّزاً؛ فحينئذٍ لا تتعارض الأصول، فيمكن إجراء الأصل المؤمّن في الطرف الأوّل وإجراء الأصل في الطرف الثاني ممّا يؤدي إلى المخالفة القطعية، وهذا لا مشكلة فيه؛ لأنّ الأصول لا تتعارض. [3]
هذا التعليل بعدم تعارض الأصول يصح بالنسبة إلى عدم وجوب الموافقة القطعية ـــــــــــ على رأي المحقق النائيني(قدّس سرّه) ــــــــــــ لأنّه يرى أنّ وجوب الموافقة القطعية من آثار تعارض الأصول، إنّما يجب الاحتياط ليس لأنّ العلم الإجمالي علّة لوجوب الاحتياط، وإنّما وجوب الموافقة القطعية من آثار تعارض الأصول في الأطراف وتساقطها، فتبقى الأطراف بلا مؤمّن، فيجب فيها الاحتياط، فإذا كان وجوب الموافقة القطعية من آثار تعارض الأصول يمكننا أن نعللّ عدم وجوب الموافقة القطعية بعدم تعارض الأصول، فنقول أنّ الأصول في المقام غير متعارضة، فتكون علّة لعدم وجوب الموافقة القطعية. هذا صحيح.
وأمّا حرمة المخالفة القطعية، فهي على رأي المحقق النائيني(قدّس سرّه) ليست من آثار تعارض الأصول، وإنّما هي من لوازم العلم الإجمالي؛ ولذا هو يرى كغيره أنّ العلم الإجمالي علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعية، وإنّما الاختلاف بين مسلك الاقتضاء وبين مسلك العلّية التامّة، إنّما هو بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية، هو يرى أنّ وجوب الموافقة القطعية من نتائج تعارض الأصول وغيره يرى أنّ العلم الإجمالي ينجّز وجوب الموافقة القطعية؛ لأنّه علّة تامّة لها، وأمّا حرمة المخالفة القطعية، فالظاهر أنّه هو أيضاً يقول بأنّ العلم الإجمالي علّة تامّة لها، أي لحرمة المخالفة القطعية؛ فحينئذٍ تعليل عدم حرمة المخالفة القطعية في محل الكلام بعدم تعارض الأصول ليس فنّياً؛ لأنّ حرمة المخالفة القطعية ليست من آثار تعارض الأصول حتّى نعللّ عدم الحرمة في المقام بعدم التعارض، وإنّما ينحصر التعليل بسقوط العلم الإجمالي عن المنجّزية، العلم الإجمالي حينئذٍ ليس منجّزاً، فإذا لم يكن منجّزاً لا تحرم المخالفة القطعية.
هذا تمام الكلام في هذا التنبيه وهوالعلم الإجمالي في التدريجيات، بعد ذلك ننتقل إلى بحثٍ آخر، وهو البحث عن الاضطرار إلى بعض أطراف العلم الإجمالي.
[2] مقصوده من المثال الثاني من المثالين المتقدّمين هو مثال التاجر
الذي يعلم أنّه يبتلي بمعاملة ربوية في يومه، أو في شهره.