34/05/18
تحمیل
الموضوع: الدليل الثاني للاستصحاب ( التمسك بالسيرة ) / أدلة الاستصحاب / الاستصحـاب / الأصول العملية.
الرابع:- إنه في باب خبر الثقة عمل أصحاب الائمة علهم السلام بالأخبار التي وصلتهم من الأئمة السابقين عليهم فأصحاب الإمام الهادي أو العسكري عليهما السلام قد عملوا جزماً بالأخبار التي وصلت إليهم من الإمام الصادق والباقر عليهما السلام وهذه قضية لا يمكن أن نشك فيها إذ لا نحتمل أنهم طرحوا ذلك الكمّ الهائل من الروايات ولم يعتنوا له بل هم قد عملوا به جزماً وفي نفس الوقت كانت الآيات الناهية عن الظن بمرأى وبمسمعٍ منهم وهكذا أخبار البراءة وهذا مما يكشف عن عدم صلاحية هذه العمومات للردع وإلّا لارتدعوا وعدم ارتداعهم مع كونهم متشرعة وليسوا مجرد عقلاء حتى يقال إنهم خالفوا الشرع إذ العاقل بما هو عاقل قد يخالف الشرع كلا إنهم متشرعة ومن أجلّة الأصحاب فإن عدم ارتداعهم رغم أنها بمسمع وبمرأى يكشف عن عدم صلاحيتها عن الردع ، وهذا بخلافه في باب الاستصحاب فإنه لا توجد سيرة من هذا القبيل - يعني على العمل بالاستصحاب من قبل المتشرعة بشكل واضح - حتى يكشف ذلك عن عدم صلاحية العمومات للردع . وهذه نكتة فارقة بين السيرتين لم يشر إليها صاحب الكفاية(قده).
الخامس:- إن الآيات الناهية عن العمل بالظن وهكذا أخبار البراءة يمكن أن نقول هي مما احتفّت بمخصِّص متصل يمنع عن العمل بها وذلك المخصص المتصل هو إما جزمي أو محتملٌ بدرجة وجيهة وهو وضوح حجيّة خبر الثقة في أوساط الصحابة فإن هذه قضية كانت بديهية وارتكازية عندهم وهذا الارتكاز إن لم يكن قضيّة جزميّة فهو قضيّة احتمالية بدرجة وجيهة فإذا كان جزمياً فهو يمنع من انعقاد الإطلاق والعموم من البداية لقاعدة ( أن المخصص إذا اتصل بالعام يمنع من انعقاد أصل الظهور في العموم مادام المخصّص متصلاً ) خصوصاً إذا كان ارتكازاً وإذا فرضنا أنه لم يكن جزمياً وإنما كان محتملاً بدرجة وجيهة فالأمر كذلك إذ الأمر يصير من موارد احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية أو احتمال احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية وفي مثله لا ينعقد الظهور في العموم أيضاً . إذن نتمكن أن نقول في مسألة حجيّة الخبر حيث أنه يوجد هذا الارتكاز على العمل بالخبر - أي الارتكاز الجزمي أو المحتمل بدرجة وجيهة - فلا ينعقد للعمومات ظهور في العموم والشمول لمثل خبر الثقة ، وهذا بخلافه في باب الاستصحاب فإنه لا يوجد هذا الارتكاز والوضوح على العمل به حتى يشكّل قرينة متصلة جزميّة أو محتملة بدرجة وجيهة.
هذه خمسة فوارق بين السيرتين.
وقد يضاف فارق سادس:- وهو يتم على مباني الشيخ النائيني(قده) في مسألة جعل الحجيّة فإنه يرى أن معنى جعل الحجيّة في باب الأمارة هو بمعنى جعل العلميّة والطريقيّة وبناءً على هذا يصير دليل حجيّة خبر الثقة حاكماً على العمومات الناهية عن العمل بالظن أو الآمرة بالعمل بالبراءة إذ هو حينما يجعل خبر الثقة حجّة فذلك يعني أنه قد جعله علماً ومادام قد صار علماً فسوف يخرج من موضوع الآيات فإن موضوعها هو الظن وهذا ليس بظنٍّ بل هو علم غايته هو علم على مستوى التعبّد والاعتبار وليس علماً حقيقةً فيكون المورد من موارد الحكومة - أي يكون دليل حجيّة خبر الثقة حاكماً على العمومات الناهية عن العمل بالظن - وهكذا الحال بالنسبة إلى أخبار البراءة فإن موضوعها هو الشك وعدم العلم والمفروض أن المكلف بسبب دليل حجيّة الخبر صار عالماً وليس بشاكٍّ فتتحقق آنذاك الحكومة ، هذا بالنسبة إلى مسألة حجيّة الخبر وقد اتضح أن دليل حجيّة الخبر - أعني السيرة - يصير حاكماً على تلك العمومات.
وهذا بخلافه في باب الاستصحاب فإن المجعول في باب الاستصحاب ليس هو العلميّة والطريقيّة والكشف وإلا لصار أمارةً وإنما المجعول هو المنجزيّة والمعذريّة فقط أو بإضافةٍ وهي ما يستفاد من كلمات الشيخ النائيني(قده) وهي أن المجعول فيه هو العلميّة أيضاً غايته من زاوية الجري العملي وليس من زاوية الكشف ولذلك يعبّر عنه هو بـ( الأصل المحرز ) حيث أن المجعول فيه هو العلميَّة ولكن من زاوية الجري العملي خلافاً للسيد الخوئي(قده) فإنه يرى أن المجعول في باب الاستصحاب هو العلميّة من زاوية الكشف فيصير الاستصحاب على رأيه أمارة على حدِّ بقيّة الأمارات.
نعم واجه(قده) إشكالاً:- وهو أنه - وهذا من باب الكلام يجر الكلام - لو صار أمارة فيلزم أن يكون حاله حال بقيّة الأمارات - يعني كحجيّة خبر الثقة - والحال أن خبر الثقة مقدّم على الاستصحاب بينما بناءً على رأيه يلزم أن لا تقدّم إذ كلاهما أمارة فتحصل معارضة ويتساقطان والحال أنه لا يلتزم بذلك.
وأجاب عن ذلك:- بأنه قد أخذ في لسان حجيّة الاستصحاب الشك وعدم العلم وقيل ( لا تنقض اليقين بالشك ) بخلافة في خبر الثقة فإنه لم يؤخذ في موضوعه الشك ولأجل هذه النكتة يُتقدَّم خبر الثقة على الاستصحاب . وعلى أي حال هذه قضية ليست مهمة.
وإنما المهم الذي نريد أن نقوله هو أن الشيخ النائيني(قده) لا يرى في باب حجيّة الاستصحاب أن المجعول هو الطريقيّة والكشف وإنما هو المنجزيّة والمعذريّة أو بإضافةِ جعل العلميّة من زاوية الجري العملي وليس من زاوية الكشف ، وعلى هذا الأساس لا يصير الاستصحاب حاكماً على العمومات النهاية عن العمل بالظن.
والجواب:- إن هذا الفارق قابل للمناقشة فإن السيرة في باب حجيّة الخبر لا يمكن أن تكون حاكمة إذ الحاكم هل هو نفس السيرة بقطع النظر عن الإمضاء الشرعي لها أو أن الحاكم هو الإمضاء الشرعي دون السيرة بمجردها ؟ والأول باطل باعتبار أن السيرة بمجردها لا عبرة بها ولا حجيّة لها فكيف تصير حاكمة على العمومات ؟! إضافة إلى أنه لا معنى لحكومة شخصٍ على أدلة شخصٍ آخر وإنما الحاكم والمحكوم يلزم أن يكون كلاهما من شخص واحد أما أن يكون كلامك وفعلك حاكماً على الأدلة والكلام الصادر منّي فهذا لا معنى له وإنما ما يصدر منّي يمكن أن يكون حاكماً على ما يصدر منّي من الأمور الأخرى وهذه قضية بديهية إذ حكومة كل شخصٍ تختصّ بدائرته ، وبناءً على هذا لا معنى لأن يحكم العقلاء ويوسّعوا أو يضيقوا من موضوع حكم الشارع وإنما الشارع هو الذي يوسّع أو يضيّق موضوعات أحكامه الأخرى لا أنه يأتي الآخرون ويضيّقوا أو يوسّعوا إنه لغوٌ من القول ولا معنى لأن يصدر هذا من العاقل . إذن نفس البناء العقلائي لا يصلح للحكومة من جهتين.
وأما على الثاني فلا محذور في أن يكون الإمضاء الشرعي - إن تحقق - حاكماً على العمومات إذ كلاهما من واحدٍ ، ولكن المشكلة هي أنه كيف نستكشف الإمضاء الشرعي للسيرة بعد وجود تلك العمومات فإن هذه السيرة يمكن أن تكون مردوعاً عنها بسبب تلك العمومات فلا يمكن أن نستكشف الامضاء الشرعي حتى يكون حاكماً على تلك العمومات ، هذا إشكال يتوجّه على الشيخ النائيني(قده).
إذن فكرة الحكومة مرفوضة في باب السيرة العقلائية ، وهذا مطلب ينبغي عدّه واضحاً.
إن قلت:- هذا شيء جميل ولكن أليس ما ذكره الشيخ الخراساني(قده) في الوجه الثاني من الوجوه المتقدمة
[1]
الذي حاصله:- إن العقلاء بعدما يعملون بخبر الثقة يصبح بنظرهم علماً وبالتالي لا يرون الآيات شاملة لهم وصالحة لردعهم بعد اعتبارهم خبر الثقة علماً إن هذا الذي ذكرناه سابقاً عن الشيخ الخراساني(قده) أليس هو نفس ما ذكرناه على مباني الشيخ النائيني(قده) فكيف رفضنا هذا من قبل الشيخ النائيني وقبلنا ذاك من قبل الشيخ الخراساني بعد أن كانت روحهما واحدة فلماذا عدَّ هذا وجهاً مستقلاً بل قبول هذا دون ذاك ؟
قلت:- إن روحهما ليست واحدة فالشيخ الخراساني(قده) لم يدّع الحكومة حتى يُشكل عليه بأن الحاكم هل هو السيرة بمجردها أو الإمضاء الشرعي ؟ كلا إنه لم يدّعِ ذلك وإنما ادعى أن العقلاء بعدما اعتقدوا بأن الخبر علماً - ولو كان اعتقادهم هذا اعتقاداً باطلاً - فالآيات سوف لا تصلح لردعهم لأن الخبر بنظرهم علمٌ فهي لا تكون رادعة من دون إدخال فكرة الحكومة في الحساب حتى يقال إن هذا يحتاج إلى إمضاء شرعيٍّ للسيرة حتى تثبت الحكومة ، وهذا بخلاف الشيخ النائيني(قده) فإنه أراد أن يدخل المسألة في باب الحكومة والحكومة فرع الإمضاء وكيف نستكشف الإمضاء بعد فرض صلاحية العمومات للردع عن السيرة ؟!
وبهذا نختم كلامنا عن هذا الدليل الثاني - أي السيرة - على حجيّة الاستصحاب وقد اتضح عدم تماميته ، والمهم هو الدليل الثالث - أي الأخبار -.
[1] والذي نحن الآن ذكرناه في عداد الوجوه الخمسة بأنه الوجه الأول ولكنه في الكفاية ذكره كوجهٍ ثانٍ.