36/08/21
تحمیل
الموضوع:- منطقة الفراغ -قواعد
وفوائد.
وفي مقام الجواب نقول:- إنّ أحكام الإسلام على أنحاء مختلفة:-
النحو الأوّل:- لا يقبل التغيّر إلى الأبد مثل وجوب الصلاة والصوم والحج والأمر بالمعروف والنهي عن النكر والخمس والزكاة وحرمة الزنا والقتل والظلم وما شاكل ذلك، إنّ هذه أحكام مستمرة إلى الأبد ولا يمكن لقائلٍ أن يقول إنّ الحياة قد تطورت فكيف تستمر هذه الأحكام ؟ فإنّ الجواب واضحٌ لأنّ الحاجة إلى هذه الأحكام حاجة غريزية فطرية، فالإنسان دائماً يحتاج إلى الارتباط بالله عزّ وجلّ من خلال الصلاة أو الصوم أو من خلال غير ذلك، فالظلم والسرقة وقتل البريء دائماً هو مبغوضٌ ولا يختلف باختلاف الزمان وهذا نظير الطعام والشراب والنوم فإنّه لا يمكن أن يستغنى عنها فإنّ الطعام حاجة غريزية من الداخل فلا يمكن أن يعيش الإنسان من دون الطعام والنوم، وهنا أيضاً لا يمكن أن ترتبط حياة الانسان ويكون إنساناً مستقيماً ومعتدلاً إلا من خلال الطقوس المعيّنة، ولا معنى لأن يقول قائل نحن الآن نعرف الله عزّ وجلّ لا من خلال هذه الأمور ففي الزمان الأوّل كانوا يحتاجون إلى الارتباط والآن لا نحتاج إلى الارتباط من خلال هذه الطقوس لأننا أصبحنا نتصل بالله عزّ وجلّ من خلال معرفتنا بعظمته وقدرته في السماء والأرض والمخلوقات التي خلقها والدقّة الموجودة في الكون.
وجوابه واضح:- وهو أنّ مجرّد هذا لا يجعل ارتباطاً بين العبد وبين مولاه، فإنه من خلال الصلاة يشعر المؤمن بالارتباط ومن خلال الصوم والحج يشعر بالارتباط . إذن الذي يحصل به الارتباط هي هذه الطقوس وهي كما قلنا تمثّل حاجة غريزية كالطعام والشراب والنوم.
النحو الثاني:- أحكام قابلة للتغير بتغيّر الزمان، والارتباط بين المتغيّر والثابت يحصل من خلال هذا، وإلّا فالأول كما قلنا فيه حاجة مستمرة إلى يوم القيامة، أمّا القسم الثاني ففيه أحكام قابلة للتغير باختلاف الزمان لكن من حيث المصداق لا من حيث أصل الحكم كما مثلنا سابقاً بالآية الكريمة ﴿ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوّة ﴾ فمصداق ( من قوّة ) في ذلك الزمان شيء وفي هذا الزمان شيء آخر ولا يقول عليكم الاقتصار على السهم والقوس والفرس والرمح والسيف، كلّا بل نلاحظ الزمان الذي نحن فيه فإن كان زمان الطائرات فنعدّ الطائرات .. وهكذا، فالحكم ثابتٌ - وهو ﴿ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوّة ﴾ - ولكن مصداق القوّة قد تغيّر، وبذلك تمكن الإسلام أنّ يربط بين الثابت والمتغيّر، فهو قد أشبع الحاجة من خلال التغير بالمصداق.
ومن هذا القبيل ﴿ وعاشروهن بالمعروف ﴾، فالزوجة تحتاج الآن إلى شقة سكن مثلاً، فالحكم ثابت إلى يوم القيامة ولكن التغيّر في مصداقه باختلاف الزمان والحياة.
ومن هذا القبيل قوله تعالى:- ﴿ إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله فريضة من الله والله عليم حكيم ﴾[1]، وموضع الشاهد هو قوله تعالى ﴿ وفي سبيل الله ﴾ فإن عنوان في سبيل الله وهكذا عنوان ( الفقراء ) يتغير مصداقة بتغيّر الزمان، فإنّ سبيل الله سابقاً كان هو تعليم الأطفال مثلاً أو بناء جسرٍ أو ما شاكل ذلك أمّا في زماننا فهو كفتح قناة فضائية نعلّم فيها أحكام وتعاليم أهل البيت عليهم السلام، والفقير في ذلك الزمان كان هو الذي لا يملك قوت سنته وهو مقدارٌ معيّن من المال أمّا هذا الزمان فإذا كان لا يملك بيتاً ولا سيارة ولا تلفزيوناً ولا غير ذلك فهو بَعدُ فقير، فهذا الحكم ثابت والتغير هو من حيث المصداق، فبسبب التغير من حيث المصداق حينئذٍ يحصل بذلك الارتباط.
بل لعلّ بعض النصوص الشرعيّة تؤكد على مسألة الزمان وأنه ينبغي أن تلاحظوا تغير الزمان، كالكلمة الذهبية لمولانا أمير المؤمنين عليه السلام حيث يقول:- ( لا تقسروا أولادكم على آدابكم فإنهم مخلوقون لزمانٍ غير زمانكم )[2].
النحو الثالث:- منطقة الفراغ - كما أشرنا إليها كما سبق - فإنّ الإسلام وإن شرّع بعض الأحكام ولكن هذه الأحكام أيضاً جوّز أن تتغير بتغيّر الزمان، ولكن التغير ليس في أصل الحكم وإنما التغير أيضاً في المصداق، من قبيل ما لو فرض أنّ نظام الحياة توقف في زماننا على فرض التجنيد الاجباري وقانون التأشيرة والجنسيّة وجواز السفر فيمكن للحاكم الإسلامي أن يفرض بعض الأمور من باب حفظ نظام الحياة، وهذا حكم ثابتٌ إلى يوم القيامة ولكن مصداق الحفظ يختلف باختلاف الزمان، وهذا ما نعبّر عنه بمنطقة الفراغ باعتبار أنّ الحاكم الإسلامي يشخّص أنّه متى هناك حاجة إلى فرض هذا القانون لحفظ نظام الحياة أو ذلك القانون لحفظ نظام الحياة فهذه منطقة فراغ للحاكم الاسلامي ويمكن من خلالها أن يواكب الإسلام تطورات الحياة، فالإسلام لا يقول دعه يعبر الحدود ولا تمنعه، كلّا بل يأتي قانون جواز السفر فللحاكم الاسلامي أن يفرض ذلك . وكذلك إذا كان نظام الحياة يحتاج إلى فرض غرامة فيفرضها الحاكم الإسلامي.
إذن واكب الاسلام الحياة ولكن الحكم مستمر وهو لزوم التحفّظ على حياة المسلمين وبلاد الإسلام ولكن باختلاف الزمان قد يتغيّر الحكم والحاكم الاسلامي يضع أحكاماً مختلفة.
النحو الرابع:- من جملة أحكام الإسلام القواعد العامّة، فالإسلام قدّم قواعد عامّة مثل قاعدة لا ضرر، ولا حرج، ورفع عن أمتي ما استكرهوا عليه، ورفع عن أمتي ما اضطروا إليه، وما غلب الله عليه فالله أولى بالعذر، وقاعدة الحلية، وقاعدة الطهارة، وقاعدة البراءة، فهذه قواعد نستفيد منها كثيراً، فالآن تأتي الأقمشة والأدوية من خارج البلاد الإسلامية فهل يلزم أن نغسل القماش أو لا نشرب الدواء لاحتمال أنّه متنجّس من قبلهم وهكذا الأمور الأخرى - التي ليس فيها لحوم - ؟ كلّا، بل كلّها يجري فيها أصل الطهارة أو الحليّة.
ولا يقولن قائل:- إنّ أصل الطهارة يجري في حقّ المسلمين ولا يجري في غير المسلمين ؟
إذ نقول:- إنّه لا مانع من جريانه في حق غير المسلمين، إذ لعلّ هذا الفراش الذي هو لهم لم ينجّسوه، فحينئذٍ لماذا لا يجري أصل الطهارة فإنّ أصل الطهارة لم يقيّد بالإسلام والمسلمين.
وإذا فرضنا أنّه في موردٍ كان يلزم الحرج كما لو ذهبنا إلى مكانٍ كان لو لم أحلق لحيتي فسوف أقع في الحرج أو أُحبس فهنا يجوز لي حلق لحيتي ... وما شاكل ذلك.
إذن يوجد في الإسلام هذه المرونة بقاعدة لا حرج ولا ضرر أشياء أخرى من هذا القبيل ولا يبقى مانعاً من هذه الأمور.
نعم نلفت النظر إلى أمور:-
الأمر الأوّل:- الإسلام لا يقف أمام التطوّر والعلم بل على العكس حيث يقول:- ( وقل ربي زدني علماً ) و ( قيمة كلّ امرئٍ ما يحسنه )، نعم كُن عالماً في الذرة وغير ذلك لا أنك تصنعها وتلقيها على الناس، فالتطوّر في العلم والكمال يدعو إليه الاسلام بقوّة لكن ضمن الإطار الإسلامي لا مع التحلّل الخلقي، فالنبت المسلمة تذهب إلى طلب العلم ليس مع التحلل الخلقي بل ضمن الأطر الإسلامية مع المحافظة على حجابها وعفافها فإن ذلك لا مشكلة فيه وهو شيء جيد.
الأمر الثاني:- الإسلام يرفض التقليد الأعمى للآخرين، فيقلدهم في حلاقة الشعر وشكل الملابس وغير ذلك ليس بصحصح، فالإسلام يقول:- ( انظر إلى ما قال ولا تنظر من قال )، وعلى منواله نحن نقول انظر إلى ما فعل ولا تنظر إلى من فعل، فلاحظ هل هذا الفعل صحيحٌ وجيّدٌ أو لا، فلو كانت عندهم نظافة فكن أنت نظيفاً فإنّ النظافة من الإيمان، وإذا كانت عندهم صفات جيّدة كأن كانوا لا يتدّخلون في شؤون الآخرين فهذه صفة جيّدة فأفعلها أنت - والإسلام قد دعا إليها من البداية - سواء فرض أنهم كفّار أو غير كفار استعمار أو غير استعمار كانوا غرباً أو غير غرب، فالمهمّ أن تأخذ الحَسَن من كلّ أحدٍ واترك السيء من كلّ أحدٍ، أمّا أن نصنع هذا الشيء لأجل أنّ هؤلاء صنعوا هكذا فهذا ثقافة غير جيّدة ن فكيف نقف أمام هذا التيار ؟ فمسألة تقليد الآخرين مسألة لابد وأن يُحذَر منها أشدّ الحذر.
الأمر الثالث:- صحيحٌ أنّ الإسلام أعطى مرونةً كثيرةً فهو أعطى لا حرج ولا ضرر وأعطى العناوين الثانويّة وغير ذلك ولكن في نفس الوقت لا يحقّ لك أن تتسامح وتتساهل وتقدّم يدك إلى المرأة وتتصافح معها فإنّ هذا تساهلٌ والإسلام يقول:- ﴿ ولا يخافون لومة لائم ﴾، فلا يجوز أن تصافحها إلّا من وراء حاجبٍ، وهذا يدلّ على أنّك صاحب مبادئ وأنت تسير عليها . نعم لو فرض أنّك وقعت في مأزقٍ وحرجٍ والمرأة قدّمت لك يدها فلا مشكلة حينئذٍ، ولكن نحن نقول لا تتساهل وتدّعي حصول الحرج.
الأمر الرابع:- وهو ما أشرت إليه وااكد عليه من جديد، وهو أنّه في جميع هذه الموارد التي ذكرتها للأحكام الشرعيّة لا يوجد تغيّر في أصل الحكم وإنما التغير في التطبيق والمصداق، إلّا في مثل وجوب الصلاة ووجوب الصوم فهذه تبقى غير قابلة للتغير، نعم يتغيّر مكانها أمّا نفس الصلاة فلا . أمّا مثل ( عاتب أخاك بالإحسان إليه واردد شره بالإنعام عليه ) و ( إذا غلبت على عدوّك فأجعل العفو شكراً للقدرة عليه ) فهذا يبقى ثابت فإنّ هذه مثلٌ وقيمٌ ليست قابلة للتغيّر.
فالأوّل غير قابلٍ للتغيّر مثل حاجتنا إلى الطعام والشراب والنوم، أمّا ما عدى ذلك فهي أحكامٌ تتبدّل لكن من حيث المصداق لا من حيث نفس الحكم، وبذلك لا يحصل تضاربٌ بين هذه المرونة وبين ( حلالي حلال إلى يوم القيامة وحرامي حرام إلى يوم القيامة ).
وفي مقام الجواب نقول:- إنّ أحكام الإسلام على أنحاء مختلفة:-
النحو الأوّل:- لا يقبل التغيّر إلى الأبد مثل وجوب الصلاة والصوم والحج والأمر بالمعروف والنهي عن النكر والخمس والزكاة وحرمة الزنا والقتل والظلم وما شاكل ذلك، إنّ هذه أحكام مستمرة إلى الأبد ولا يمكن لقائلٍ أن يقول إنّ الحياة قد تطورت فكيف تستمر هذه الأحكام ؟ فإنّ الجواب واضحٌ لأنّ الحاجة إلى هذه الأحكام حاجة غريزية فطرية، فالإنسان دائماً يحتاج إلى الارتباط بالله عزّ وجلّ من خلال الصلاة أو الصوم أو من خلال غير ذلك، فالظلم والسرقة وقتل البريء دائماً هو مبغوضٌ ولا يختلف باختلاف الزمان وهذا نظير الطعام والشراب والنوم فإنّه لا يمكن أن يستغنى عنها فإنّ الطعام حاجة غريزية من الداخل فلا يمكن أن يعيش الإنسان من دون الطعام والنوم، وهنا أيضاً لا يمكن أن ترتبط حياة الانسان ويكون إنساناً مستقيماً ومعتدلاً إلا من خلال الطقوس المعيّنة، ولا معنى لأن يقول قائل نحن الآن نعرف الله عزّ وجلّ لا من خلال هذه الأمور ففي الزمان الأوّل كانوا يحتاجون إلى الارتباط والآن لا نحتاج إلى الارتباط من خلال هذه الطقوس لأننا أصبحنا نتصل بالله عزّ وجلّ من خلال معرفتنا بعظمته وقدرته في السماء والأرض والمخلوقات التي خلقها والدقّة الموجودة في الكون.
وجوابه واضح:- وهو أنّ مجرّد هذا لا يجعل ارتباطاً بين العبد وبين مولاه، فإنه من خلال الصلاة يشعر المؤمن بالارتباط ومن خلال الصوم والحج يشعر بالارتباط . إذن الذي يحصل به الارتباط هي هذه الطقوس وهي كما قلنا تمثّل حاجة غريزية كالطعام والشراب والنوم.
النحو الثاني:- أحكام قابلة للتغير بتغيّر الزمان، والارتباط بين المتغيّر والثابت يحصل من خلال هذا، وإلّا فالأول كما قلنا فيه حاجة مستمرة إلى يوم القيامة، أمّا القسم الثاني ففيه أحكام قابلة للتغير باختلاف الزمان لكن من حيث المصداق لا من حيث أصل الحكم كما مثلنا سابقاً بالآية الكريمة ﴿ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوّة ﴾ فمصداق ( من قوّة ) في ذلك الزمان شيء وفي هذا الزمان شيء آخر ولا يقول عليكم الاقتصار على السهم والقوس والفرس والرمح والسيف، كلّا بل نلاحظ الزمان الذي نحن فيه فإن كان زمان الطائرات فنعدّ الطائرات .. وهكذا، فالحكم ثابتٌ - وهو ﴿ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوّة ﴾ - ولكن مصداق القوّة قد تغيّر، وبذلك تمكن الإسلام أنّ يربط بين الثابت والمتغيّر، فهو قد أشبع الحاجة من خلال التغير بالمصداق.
ومن هذا القبيل ﴿ وعاشروهن بالمعروف ﴾، فالزوجة تحتاج الآن إلى شقة سكن مثلاً، فالحكم ثابت إلى يوم القيامة ولكن التغيّر في مصداقه باختلاف الزمان والحياة.
ومن هذا القبيل قوله تعالى:- ﴿ إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله فريضة من الله والله عليم حكيم ﴾[1]، وموضع الشاهد هو قوله تعالى ﴿ وفي سبيل الله ﴾ فإن عنوان في سبيل الله وهكذا عنوان ( الفقراء ) يتغير مصداقة بتغيّر الزمان، فإنّ سبيل الله سابقاً كان هو تعليم الأطفال مثلاً أو بناء جسرٍ أو ما شاكل ذلك أمّا في زماننا فهو كفتح قناة فضائية نعلّم فيها أحكام وتعاليم أهل البيت عليهم السلام، والفقير في ذلك الزمان كان هو الذي لا يملك قوت سنته وهو مقدارٌ معيّن من المال أمّا هذا الزمان فإذا كان لا يملك بيتاً ولا سيارة ولا تلفزيوناً ولا غير ذلك فهو بَعدُ فقير، فهذا الحكم ثابت والتغير هو من حيث المصداق، فبسبب التغير من حيث المصداق حينئذٍ يحصل بذلك الارتباط.
بل لعلّ بعض النصوص الشرعيّة تؤكد على مسألة الزمان وأنه ينبغي أن تلاحظوا تغير الزمان، كالكلمة الذهبية لمولانا أمير المؤمنين عليه السلام حيث يقول:- ( لا تقسروا أولادكم على آدابكم فإنهم مخلوقون لزمانٍ غير زمانكم )[2].
النحو الثالث:- منطقة الفراغ - كما أشرنا إليها كما سبق - فإنّ الإسلام وإن شرّع بعض الأحكام ولكن هذه الأحكام أيضاً جوّز أن تتغير بتغيّر الزمان، ولكن التغير ليس في أصل الحكم وإنما التغير أيضاً في المصداق، من قبيل ما لو فرض أنّ نظام الحياة توقف في زماننا على فرض التجنيد الاجباري وقانون التأشيرة والجنسيّة وجواز السفر فيمكن للحاكم الإسلامي أن يفرض بعض الأمور من باب حفظ نظام الحياة، وهذا حكم ثابتٌ إلى يوم القيامة ولكن مصداق الحفظ يختلف باختلاف الزمان، وهذا ما نعبّر عنه بمنطقة الفراغ باعتبار أنّ الحاكم الإسلامي يشخّص أنّه متى هناك حاجة إلى فرض هذا القانون لحفظ نظام الحياة أو ذلك القانون لحفظ نظام الحياة فهذه منطقة فراغ للحاكم الاسلامي ويمكن من خلالها أن يواكب الإسلام تطورات الحياة، فالإسلام لا يقول دعه يعبر الحدود ولا تمنعه، كلّا بل يأتي قانون جواز السفر فللحاكم الاسلامي أن يفرض ذلك . وكذلك إذا كان نظام الحياة يحتاج إلى فرض غرامة فيفرضها الحاكم الإسلامي.
إذن واكب الاسلام الحياة ولكن الحكم مستمر وهو لزوم التحفّظ على حياة المسلمين وبلاد الإسلام ولكن باختلاف الزمان قد يتغيّر الحكم والحاكم الاسلامي يضع أحكاماً مختلفة.
النحو الرابع:- من جملة أحكام الإسلام القواعد العامّة، فالإسلام قدّم قواعد عامّة مثل قاعدة لا ضرر، ولا حرج، ورفع عن أمتي ما استكرهوا عليه، ورفع عن أمتي ما اضطروا إليه، وما غلب الله عليه فالله أولى بالعذر، وقاعدة الحلية، وقاعدة الطهارة، وقاعدة البراءة، فهذه قواعد نستفيد منها كثيراً، فالآن تأتي الأقمشة والأدوية من خارج البلاد الإسلامية فهل يلزم أن نغسل القماش أو لا نشرب الدواء لاحتمال أنّه متنجّس من قبلهم وهكذا الأمور الأخرى - التي ليس فيها لحوم - ؟ كلّا، بل كلّها يجري فيها أصل الطهارة أو الحليّة.
ولا يقولن قائل:- إنّ أصل الطهارة يجري في حقّ المسلمين ولا يجري في غير المسلمين ؟
إذ نقول:- إنّه لا مانع من جريانه في حق غير المسلمين، إذ لعلّ هذا الفراش الذي هو لهم لم ينجّسوه، فحينئذٍ لماذا لا يجري أصل الطهارة فإنّ أصل الطهارة لم يقيّد بالإسلام والمسلمين.
وإذا فرضنا أنّه في موردٍ كان يلزم الحرج كما لو ذهبنا إلى مكانٍ كان لو لم أحلق لحيتي فسوف أقع في الحرج أو أُحبس فهنا يجوز لي حلق لحيتي ... وما شاكل ذلك.
إذن يوجد في الإسلام هذه المرونة بقاعدة لا حرج ولا ضرر أشياء أخرى من هذا القبيل ولا يبقى مانعاً من هذه الأمور.
نعم نلفت النظر إلى أمور:-
الأمر الأوّل:- الإسلام لا يقف أمام التطوّر والعلم بل على العكس حيث يقول:- ( وقل ربي زدني علماً ) و ( قيمة كلّ امرئٍ ما يحسنه )، نعم كُن عالماً في الذرة وغير ذلك لا أنك تصنعها وتلقيها على الناس، فالتطوّر في العلم والكمال يدعو إليه الاسلام بقوّة لكن ضمن الإطار الإسلامي لا مع التحلّل الخلقي، فالنبت المسلمة تذهب إلى طلب العلم ليس مع التحلل الخلقي بل ضمن الأطر الإسلامية مع المحافظة على حجابها وعفافها فإن ذلك لا مشكلة فيه وهو شيء جيد.
الأمر الثاني:- الإسلام يرفض التقليد الأعمى للآخرين، فيقلدهم في حلاقة الشعر وشكل الملابس وغير ذلك ليس بصحصح، فالإسلام يقول:- ( انظر إلى ما قال ولا تنظر من قال )، وعلى منواله نحن نقول انظر إلى ما فعل ولا تنظر إلى من فعل، فلاحظ هل هذا الفعل صحيحٌ وجيّدٌ أو لا، فلو كانت عندهم نظافة فكن أنت نظيفاً فإنّ النظافة من الإيمان، وإذا كانت عندهم صفات جيّدة كأن كانوا لا يتدّخلون في شؤون الآخرين فهذه صفة جيّدة فأفعلها أنت - والإسلام قد دعا إليها من البداية - سواء فرض أنهم كفّار أو غير كفار استعمار أو غير استعمار كانوا غرباً أو غير غرب، فالمهمّ أن تأخذ الحَسَن من كلّ أحدٍ واترك السيء من كلّ أحدٍ، أمّا أن نصنع هذا الشيء لأجل أنّ هؤلاء صنعوا هكذا فهذا ثقافة غير جيّدة ن فكيف نقف أمام هذا التيار ؟ فمسألة تقليد الآخرين مسألة لابد وأن يُحذَر منها أشدّ الحذر.
الأمر الثالث:- صحيحٌ أنّ الإسلام أعطى مرونةً كثيرةً فهو أعطى لا حرج ولا ضرر وأعطى العناوين الثانويّة وغير ذلك ولكن في نفس الوقت لا يحقّ لك أن تتسامح وتتساهل وتقدّم يدك إلى المرأة وتتصافح معها فإنّ هذا تساهلٌ والإسلام يقول:- ﴿ ولا يخافون لومة لائم ﴾، فلا يجوز أن تصافحها إلّا من وراء حاجبٍ، وهذا يدلّ على أنّك صاحب مبادئ وأنت تسير عليها . نعم لو فرض أنّك وقعت في مأزقٍ وحرجٍ والمرأة قدّمت لك يدها فلا مشكلة حينئذٍ، ولكن نحن نقول لا تتساهل وتدّعي حصول الحرج.
الأمر الرابع:- وهو ما أشرت إليه وااكد عليه من جديد، وهو أنّه في جميع هذه الموارد التي ذكرتها للأحكام الشرعيّة لا يوجد تغيّر في أصل الحكم وإنما التغير في التطبيق والمصداق، إلّا في مثل وجوب الصلاة ووجوب الصوم فهذه تبقى غير قابلة للتغير، نعم يتغيّر مكانها أمّا نفس الصلاة فلا . أمّا مثل ( عاتب أخاك بالإحسان إليه واردد شره بالإنعام عليه ) و ( إذا غلبت على عدوّك فأجعل العفو شكراً للقدرة عليه ) فهذا يبقى ثابت فإنّ هذه مثلٌ وقيمٌ ليست قابلة للتغيّر.
فالأوّل غير قابلٍ للتغيّر مثل حاجتنا إلى الطعام والشراب والنوم، أمّا ما عدى ذلك فهي أحكامٌ تتبدّل لكن من حيث المصداق لا من حيث نفس الحكم، وبذلك لا يحصل تضاربٌ بين هذه المرونة وبين ( حلالي حلال إلى يوم القيامة وحرامي حرام إلى يوم القيامة ).