32/12/01
تحمیل
(بحث يوم السبت 1 ذح 1432 ه 30)
ذكرنا في البحث السابق أن المتجزّي تارة يراد به القادر على استنباط بعض الأحكام دون بعض لعدم الإحاطة بجميع المسائل والعلوم التي يتوقف عليها تحقق الاجتهاد في جميع المسائل أو لعدم تهيّؤ وسائل الاستنباط وعناصره بالنسبة إلى بعض المسائل وفي هذا المعنى من التجزّي يُفترض وجود الملكة أي القدرة على استنباط جميع الأحكام لكنه لم يستنبط جميع الأحكام لأحد السببين المذكورين
[1]
وقد سُمّي هذا بالمتجزّي في الاستنباط .
وأخرى يراد به عدم اطّراد الملكة في جميع المسائل بأن كانت له القدرة على الاستنباط في بعض المسائل ولكن لم تكن له القدرة على الاستنباط في البعض الآخر .
وفي هذا الأخير ذكرنا أن جماعة ذهبوا إلى استحالته من جهة كون الملكة أمراً بسيطاً دائراً بين الوجود والعدم غير قابل للتجزّؤ إذا تحققت موجباته تتحقّق بالنسبة إلى جميع الأحكام وإلا لم يتحقّق بالنسبة إلى جميعها فنسبته إلى الجميع نسبة واحدة ولا يُتصوّر وجوده في بعض المسائل دون البعض الآخر .
ولكن الصحيح تبعاً للمحققين إمكان التجزّي في الملكة على نحو إمكانه في الاستنباط فمعنى التجزّي في الملكة هو القدرة على الاستنباط في بعض الأحكام وعدم القدرة عليه في البعض الآخر وهذا الأمر ليس محالاً كما ادُّعي بل هو واقع كما يُلاحظ بالوجدان أن بعض المسائل لسهولة مقدماتها وتيسُّر مداركها يكون المتصدّي لها قادراً على استنباط الحكم فيها في حين أن بعض المسائل الأخرى لصعوبة مقدماتها وتعسُّر مداركها وكثرة المتعارضات في أدلّتها وتعدد الأقوال فيها يصعب على المتصدّي لها أن يصل فيها إلى نتيجة حتى مع فرض توفر جميع وسائل الاستنباط لديه وعناصره عنده فهو ليست له القدرة على استنباط مثل هذه المسائل وإن كانت له القدرة على استنباط مسائل أخرى وهذا أمر بعد ثبوته بالوجدان ولحاظه بالعيان فلا ننازع في مرحلة إثبات إمكانه ورفع استحالته بل عن بعضهم
[2]
دعوى الضرورة عليه وأنه لا بد أن يمرّ به كل من يطوي المراحل في سلّم الاجتهاد فهو يبتدئ بالدائرة الضيّقة للاستنباط أولاً ثم يتطوّر شيئاً فشيئاً إلى أن يصل إلى مرحلة الاجتهاد المطلق .
ومن هنا لا يكون الفرق بين المجتهد المطلق والمتجزّي راجعاً إلى أن الملكة موجودة عند الأول بتمامها وعند الثاني بنقصان مما يعني قابلية الملكة للتبعّض والتجزّو بل الفرق بينهما في الحقيقة يكمن في سعة دائرة القدرة على الاستنباط وضيقها فثمة مجتهد له القدرة على الاستنباط في مساحة من المسائل واسعة وآخر تتحدّد قدرته في مساحة من المسائل ضيّقة .
وعلى ذلك فالفرق بينهما أن المتجزّي على المعنى الأول
[3]
يكون هو صاحب الملكة على الاستنباط في جميع المسائل إلا أنه لم يستنبط إلا بعض المسائل دون البعض الآخر لأحد السببين المذكورين آنفاً
[4]
، وأما على المعنى الثاني
[5]
فيُفترض فيه عدم وجود الملكة لديه بمعنى عدم قدرته على الاستنباط إلا في بعض المسائل دون البعض الآخر .
وبعد ما تقدّم فهل يُمكن الالتزام بكفاية التجزّي بالمعنى الأول في القضاء مع افتراض كون القاضي عالماً بالحكم الشرعي عن اجتهاد بأن تكون له القدرة على الاستنباط في باب القضاء في الأحكام التي يريد أن يقضي بها مع كونه قد استنبطها فعلاً ؟
الظاهر كفاية هذا المقدار وإن لم يكن كذلك بالنسبة إلى الأحكام الأخرى التي لا ترتبط بباب القضاء فلا يُشترط في هذا المستنبط المتجزّي أن يكون عالماً بتمام الأحكام الأخرى غير المرتبطة بباب القضاء عن اجتهاد غاية الأمر أن لا يكون مقلّداً في الواقعة التي يريد الحكم فيها سواءً كان غير مقلّد في غيرها من الوقائع أو كان مقلّداً فيها .
والحاصل أنه قد اشتُرط في المتجزّي بالمعنى الأول أن يكون قادراً على الاستنباط في جميع المسائل لكنه لم يستنبط فعلاً إلا الأحكام المرتبطة بباب القضاء فمثلُ هذا يجوز له القضاء لكونه مجتهداً وذا ملكة وقدرة على الاستنباط في جميع المسائل غايته أنه لم يستنبط فعلاً إلا الأحكام المرتبطة بباب القضاء بل هذا المقدار كافٍ في الجواز حتى لو كان غير قادر على الاستنباط في المسائل الأخرى المرتبطة بباب القضاء فإن المهمّ في المقام كما ذكرنا - أن لا يكون القاضي مقلّداً في المسألة التي يريد أن يقضي بها وإن لم يجتهد في المسائل الأخرى .
واعتُرض عليه بعدم كفاية ذلك وحده حتى لو فُرض كون المتجزّي ممّن له أهلية الفتوى بناءً على التفريق بين بابي الإفتاء والقضاء - بل يحتاج إلى الإذن
[6]
وهو منفي عن المتجزّي باعتبار ظهور أخبار الإذن والنصب العام في خصوص المجتهد المطلق وغيره لم يُؤذن له في تولّي القضاء ولم يُجعل قاضياً بالنصب العام وإن فُرض كونه أهلاً للفتوى والقضاء كما تشهد بذلك المقبولة التي هي أهم أخبار الإذن العام في القضاء حيث يقول (عليه السلام) فيها : " نظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا " إذ ليس المراد به النظر في بعض حلالهم وحرامهم ولا معرفة بعض أحكامهم (عليهم السلام) بناءً على تعريف النظر بالاجتهاد والمعرفة بالمعرفة الاجتهادية كما تقدّم بل المراد جميع الحلال والحرام بمقتضى ما يُفهم من إضافتهما إلى ذواتهم المقدسة والكلام نفسه يقال في رواية أبي خديجة - بطريقها الضعيف - حيث ورد فيها التعبير بقوله : " عرف حلالنا وحرامنا " وعلى هذا فالمجتهد المتجزّي لم يُؤذن له بالقضاء فهو غيرُ جائزٍ له ولا نافذٌ منه .
ولكن يمكن دفع هذا الاعتراض بوجوه :
الأول : صعوبة الالتزام بهذا الظهور المدّعى في الروايتين
[7]
لأن لازمه هو الالتزام بأن يكون من جاز له القضاء وأُذن له فيه خصوص العارف بجميع الحلال والحرام عن اجتهاد مع أنه صعب التحقق خارجاً إذ ليس هناك مجتهد مطلق عارف بجميع الأحكام - على نحو الاستيعاب المنطقي والشمول الدقّي - عن اجتهاد وإن كان فهو من الندرة بمكان بحيث يُستبعد كونه متعلّقاً للإذن .. مضافاً إلى عدم القائل به حتى ممن يشترط الاجتهاد المطلق وإنما يُكتفى منه بمعرفته لمعظم الأحكام عن اجتهاد فإن معرفة الأحكام والعلم بها مأخوذان عادةً على نحو الطريقية - بحسب الارتكاز العرفي - للوصول إلى الحكم الذي يريده الشارع ، ومن الواضح - بحسب الفهم العرفي - أنه ليس لمعرفة الأحكام غير المرتبطة بباب القضاء عن اجتهاد دخل في الوصول إلى الحكم في تلك الواقعة والقضاء بذلك الحكم فيها حتى تُشترط معرفته بتلك الأحكام عن اجتهاد ولا يُكتفى بعلمه عن اجتهاد في باب القضاء أو في خصوص الحكم الذي يقضي به .
ولأجل ذلك فالالتزام بهذا الظاهر صعب للغاية فلا بد من حمل الرواية على معرفة أحكامهم (عليهم السلام) في الجملة أو على معرفة أحكامهم في باب القضاء ونتيجة ذلك أن لا مشكلة في افتراض شمول الإذن للمتجزّي .
الوجه الثاني : لو تنزلّنا وسلّمنا ظهور الروايتين باعتبار الاجتهاد المطلق فهما تدلان على اعتباره في النصب العام فمن نصبه الإمام (عليه السلام) بالنصب العام اعتبر فيه أن يكون مجتهداً ، وأما النصب الخاص في واقعة معيّنة فلا يُستفاد من تلك الأدلة اعتباره فيه فلا تنافي إذاً بين اعتبار الاجتهاد المطلق في النصب العام وعدم اعتباره في النصب الخاص .
الوجه الثالث : إن في مقابل ذينك الروايتين رواية أخرى ظاهرها كفاية التجزّي في محلّ الكلام وهي رواية أبي خديجة بطريقها الصحيح الذي ينقله الشيخ الصدوق (قده) لأن الوارد فيها قوله (عليه السلام) : " يعلم شيئاً من قضايانا " أو " من قضائنا " فإن المفهوم منها بقرينة قوله : (شيئاً) هو العلم ببعض الأحكام فتكون ظاهرة في الاكتفاء بذلك وهي على حدّ المقبولة واردة في النصب العام ولسانها نفس اللسان .
إن قيل : إنه بناءً على ما تقدّم يحصل نوع من التنافي بين الظهورين لكون المراد في المقبولة هو العلم بجميع الأحكام والمراد في المعتبرة العلم ببعض الأحكام .
فإنه يقال : يمكن الجمع بينهما بالتصرّف بظاهر المقبولة بحمله
[8]
على إرادة معرفة أحكامهم في الجملة لا بالجملة - وهذا أهون بكثير من التصرّف بظاهر المعتبرة بحمله على إرادة معرفة جميع الأحكام لإبائه عنه إذ لا يمكن حمل قوله : (شيئاً من قضايانا) على إرادة العموم فيرتفع التنافي بين الروايتين حينئذ لاتّفاقهما في كفاية معرفة بعض أحكامهم (عليهم السلام) ولا يُشترط معرفة جميع الأحكام .
ثم إن روايات المقام جميعها ناظرة إلى النصب العام فإذا ناقشنا في استفادة الاجتهاد المطلق منها وأثبتنا كفاية التجزّي وكفاية معرفة بعض الأحكام فحينئذ يثبت في النصب العام عدم اشتراط الاجتهاد المطلق فمن ينصبه الإمام (عليه السلام) بالنصب العام لا يشترط فيه إلا معرفة بعض الأحكام عن اجتهاد ، وأما في باب النصب الخاص فهل يجوز للمجتهد المطلق أن يأذن للمتجزّي في القضاء وفصل الخصومة في واقعة معيّنة أم لا ؟
سيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى .
[1] من عدم الإحاطة بجميع المسائل والعلوم التي يتوقف عليها تحقق الاجتهاد في جميع المسائل أو عدم تهيّؤ وسائل الاستنباط وعناصره بالنسبة إلى بعض المسائل .
[2] وهو صاحب الكفاية (قده) .
[3] أي التجزّي في الاستنباط .
[4] أي إما لعدم إحاطته بالعلوم التي يتوقف عليها الاستنباط في كل المسائل أو لعدم توفر أدوات الاستنباط إلا في بعض المسائل وكل منهما مع فرض وجود الملكة والقدرة على الاستنباط لديه .
[5] أي التجزّي في الملكة .
[6] وهذه خصوصية معتبرة في باب القضاء .
[7] أي مقبولة ابن حنظلة ورواية أبي خديجة بطريقها الضعيف .
[8] أي ظاهر المقبولة .أأأ