32/12/02
تحمیل
(بحث يوم الأحد 2 ذح 1432 ه 31)
تبيّن مما سبق أن الصحيح كفاية التجزّي في القاضي سواء أكان منصوباً بالنصب العام أم لم يكن أما كفايته في الأول فباعتبار أن الأدلة الدالة على النصب العام لا يُستفاد منها اشتراط معرفة جميع الأحكام عن اجتهاد : أما المعتبرة فلأن الوارد فيها التعبير بقوله : (شيئاً من قضايانا) ودلالته على كفاية معرفة البعض واضحة ، وأما المقبولة فلما تقدّم من أنه لو سُلّم ظهورها الابتدائي في معرفة جميع الأحكام إلا أنه يصعب الالتزام بهذا الظهور لندرة مورده خارجاً مما يُستبعد كونه متعلّقاً للإذن فلا بد من حملها على معرفة الأحكام في الجملة عن اجتهاد .
وأما كفايته في الثاني
[1]
فهو من باب أولى لأن الاهتمام بالنصب العام في نظر الإمام (عليه السلام) أعظم لسعة مورده زماناً ومكاناً قياساً بالنصب الخاص الذي يتحدّد بحدود ضيّقة من حيث الزمان والمكان .
وما انتهينا إليه من كفاية التجزّي في القضاء مطلقاً
[2]
هو الموافق لجملة من علمائنا منهم العلامة في التحرير والفوائد والشهيدين في الدروس والروضة والمحققين السبزواري في الكفاية والقمي في الغنائم وهو الموافق كذلك للشيخ الأعظم في قضائه ولآخرين .
نعم .. ذكر المحقق في الشرايع في صفات القاضي أنه: " لا بد أن يكون عالماً بجميع ما وليه "
[3]
، وقد حملها الشهيد في المسالك على اعتبار الاجتهاد المطلق حيث قال : " فلا يكفي اجتهاده في بعض الأحكام دون بعض على القول بتجزّي الاجتهاد "
[4]
.
ولكن الظاهر أن هذا الفهم
[5]
محلّ تأمل بل منع لاحتمال إرادة المحقق الاجتهاد في خصوص ما وليه من القضاء لا مطلقاً وليس في العبارة ما يشير إلى إرادة الاجتهاد المطلق ، وقد نبّه على هذا التأمل المحققُ النراقي في مستنده والشيخ الأعظم في قضائه حيث ذكرا أن المقصود بالعبارة هو أن يكون عالماً بجميع أحكام الوقائع التي يريد أن يقضي بها لا أن يكون عالماً بجميع الأحكام حتى غير المرتبطة بباب القضاء لتكون دالة على اشتراط الاجتهاد المطلق وعليه فلا يمكن أن يُنسب إلى المحقق اشتراط ذلك .
هذا تمام الكلام في الشرط الثامن المذكور في المتن وهو الاجتهاد .
ثم ذكر السيد الماتن (قده) عقيب هذا الشرط قوله : " بل الضبط على وجه " أي يُعتبر في القاضي أن يكون ضابطاً ، والمقصود بالضبط - كما يظهر من كلماتهم - هو عدم غلبة النسيان ويعني في المقام أن لا يكثر من الناظر في القضايا والخصومات نسيان تفاصيلها .
واستُدلّ لاشتراط الضبط بانصراف أدلة نصب القاضي عن غير الضابط ، ولم يُذكر هذا الشرط مستقلاًّ بل جُعل في ضمن شرط الاجتهاد كما في المتن وكذا في الشرايع حيث قال في صفات القاضي وشرائطه : " ولا بد أن يكون عالماً بجميع ما وليه ، ويدخل فيه أن يكون ضابطاً فلو غلب عليه النسيان لم يجز نصبه "
[6]
، وعلّل في الجواهر هذا الإدخال بضرورة عدم الدليل عليه بالخصوص
[7]
.
والظاهر أن هذا هو الصحيح إذ لا دليل بالخصوص على اشتراط أن يكون ضابطاً فإن الغرض منه يتأدّى بغير الاشتراط كما لو عيّن ثقاة يضبطون عنه تفاصيل القضايا أو تُضبط له بالكتابة ونحوها حتى إذا أراد أن يحكم في الواقعة حكم فيها على طبق الوقائع الحاصلة المضبوطة من ثقاته مشافهة أو بالكتابة ونحوها من دون أن يقع في البين محذور النسيان ومن هنا لا يكون لاشتراط الضبط بحدّه في القاضي وجهٌ ما دام الغرض منه يتأدّى بطريق آخر يرفع المحذور وربما لهذه الجهة لم يرد دليل عليه بالخصوص ، ونظير هذا يقال في اشتراط البصر والكتابة فإنه مما لا دليل على اعتبارهما في القاضي بالخصوص بل مقتضى الإطلاقات التي يُستند إليها في نفوذ حكم القاضي عدم اعتبارهما ولذا نفى اشتراطهما في المتن .
نعم .. لا إشكال في لزوم اعتبار تلك الأمور إذا أدّى فقدانها إلى ارتفاع شرط مفروغ من اعتباره كالعدالة أو الاجتهاد ، ومن هذه الجهة اعتُبر الضبط شرطاً كما تقدّم عن الشرايع والمتن - وإن لم يدل عليه دليل بالخصوص لأن الاجتهاد بالمعنى الذي تدل عليه الأدلة في القاضي لا يتحقق عندما يكون القاضي كثير النسيان في تفاصيل الوقائع التي يريد أن يقضي فيها .
هذا .. ولكن الشيخ الأنصاري (قده) وجّه اشتراط تلك الأمور بما هو أشبه بالتفصيل بين منصب القضاء ونفس القضاء وفصل الخصومة في واقعة جزئية معيّنة حيث قال (قده) : " واعلم أنه لا يبعد أن يكون مراد القائلين باشتراط البصر والضبط والكتابة اشتراطها في تولية الشخص ولاية عامة في صقع من الأصقاع بحيث نعلم أن فقدان هذه الأمور موجب لاختلال قضائه في بعض الوقائع - كما هو كذلك بمقتضى الإنصاف - فهذه من شروط تولية الإمام له وليست شروطاً في صحة كل فردٍ فردٍ من أقضيته "
[8]
.
وكيف كان فالصحيح ما ذكرناه من عدم الدليل على اعتبار هذه الأمور بالخصوص اللهم إلا إذا كان فقدانها مؤثّراً في ارتفاع شرط مفروغ منه .
ثم قال السيد الماتن (قده) عقيب الضبط : " ولا تعتبر فيه الحرية " أي لا يُشترط في القاضي أن يكون حرّاً فيجوز للعبد أن يكون قاضياً .
وهذه المسألة من المسائل الخلافية وقد وافق الماتن (قده) فيها جملة من الفقهاء منهم المحقق في الشرايع والشهيد في المسالك وغيرهما خلافاً للمشهور بين الأصحاب لاسيما الشيخ الطوسي وأتباعه على ما ذُكر حيث اشترطوا في القاضي أن يكون حرّاً .
واستُدلّ لعدم اعتبار الحرية
[9]
بإطلاق أدلة النصب حيث لم تُقيّد بأن يكون القاضي حرّاً ومقتضى إطلاقها عدم اشتراط الحرية ، وبدعوى عدم الفرق بين الحرّ والعبد في أمثال ذلك من المناصب الإلهية .
ومقابل ذلك استُدلّ لاعتبارها بأن القضاء يحتاج إلى الإذن ولم يثبت الإذن للعبد ، وبما دلّ على عدم نفوذ شهادة العبد فعدم نفوذ حكمه أولى .
هذه عمدة الأدلة التي استدل بها الطرفان ويبدو أن أهمّها دعوى إطلاق أدلة النصب ونفوذ قضاء القاضي ، وهذا الإطلاق إن تمّ يثبت به الإذن للعبد في القضاء على حدّ ثبوته به للحرّ من غير فرق وهذا يُنتج عدم صحة الاستدلال بما ذُكر لمنع قضاء العبد من عدم ثبوت الإذن له لأن مقتضى الإطلاق على فرض تماميته - ثبوته له ، وكذلك عدم صحة الاستدلال بما دلّ على عدم نفوذ شهادته إذ الفرض وجود الدليل على نفوذ قضائه ولا تنافي بينهما
[10]
.
وبعبارة أخرى : إن أدلة عدم نفوذ شهادة العبد ليست دليلاً قطعياً على عدم نفوذ قضائه غاية الأمر دعوى ذلك استظهاراً بالأولوية العرفية وهي لا تقاوم دلالة الدليل على خلافها فيتعيّن رفع اليد عنها حينئذ .
هذا إذا قلنا بتمامية الإطلاق في الأدلة ، وأما إذا ناقشنا في ذلك فلا مجال حينئذ لما استُدل به على اعتبار قضائه من دعوى إطلاق الأدلة إذ الفرض عدم تماميته ، وكذا لا مجال لما استُدل به من دعوى عدم الفرق بين الحرّ والعبد في المناصب الإلهية من القضاء وغيره إذ لا جزم بذلك بل المرتكز في الأذهان وجود الفرق بينهما في تسنّم هذه المناصب حيث ثبت شرعاً في جملة منها عدم صلاحية العبد لها .
إذاً فالمهم في المقام هو الكلام حول ثبوت الإطلاق في الأدلة أو عدم ثبوته ليكون التمسّك به ممكناً على الأول ومحالاً على الثاني .
فأقول : تقدّم في بحث اشتراط طهارة المولد طرح احتمال انصراف الإطلاق عن الفاقد لهذا الشرط بنكتة أن ولادة الشخص من زنا تُعدّ بنظر العرف منقصة ولذا لا يرى العرف هذا الشخص مناسباً ليتحمّل منصباً من المناصب المهمة ، وهذا البناء من العرف لو لم يشكّل قرينة منفصلة في الكلام توجب تقييد الدليل الدال على النصب بغير ابن الزنا فلا يتم حينئذ الإطلاق فلا أقلّ من أنه يوجب انصراف الدليل عنه .
ومثل هذا الكلام يمكن أن يُذكر في المقام فإن العبودية بنظر العرف تُعدّ منقصة أيضاً وإن كان اتّجاه الشرع الحنيف إلى أن يُنظر إلى الحرّ والعبد نظرة سواء إلا أن العرف لا يتقبّل هذه المساواة بينهما ، وهذا الأمر إن لم يكن قرينة متّصلة في الكلام توجب تقييد الدليل فلا أقلّ من أنه يوجب انصرافه عن العبد فلا يكون الإطلاق تاماً بالنسبة إليه فلا دليل حينئذ على كفاية أن يكون القاضي عبداً .
وهل هذه القرينة من الوضوح بحيث تُستظهر في مقام فهم الدليل لتوجب صرفه عن العبد في محلّ الكلام أو أنها ليست كذلك فلا مانع من شمول الإطلاق له ؟
يمكن دعوى الأول لاسيما مع تأييده بما هو المرتكز في أذهان المتشرعة من أن العبد قد نُهي عن تسنّم جملة من المناصب كإمامة الصلاة والشهادة في باب القضاء مما يورث الظن بعدم صلاحية العبد لتسنّم مثل هذه المناصب ومعه كيف يتأتّى الجزم بعدم الفرق بينه وبين الحرّ ؟!
ومن هنا فلا يبعد في باب القضاء دعوى اشتراط الحرية بلحاظ الأدلة لاسيما مع ذهاب الشيخ ومتابعيه بل المشهور إليه ، نعم .. مورد ذلك هو منصب القضاء دون نفس القضاء وفصل الخصومة في كل واقعة جزئية و(في كل فرد فرد من أقضيته)
[11]
إذ لا دليل على اشتراط الحرية فيه ، وما ذُكر من القرينة الارتكازية العرفية على عدم صلاحية العبد إنما هو بلحاظ منصب القضاء لا بلحاظ أصل القضاء وفصل الخصومة فلا مانع من تولّي العبد القضاء في الوقائع الجزئية لعدم اعتبار الحرية شرطاً في المورد .
[1] أي غير المنصوب بالنصب العام .
[2] أي سواءً في النصب العام او الخاص .
[3] الشرايع مج4 ص860 .
[4] مسالك الأفهام مج13 ص328 .
[5] أي فهم الاجتهاد المطلق من قبل صاحب المسالك لعبارة المحقق في الشرايع .
[6] شرايع الإسلام مج4 ص860 .
[7] جواهر الكلام مج40 ص20 .
[8] القضاء والشهادات / الشيخ الأنصاري / ص44 .
[9] أي جواز أن يكون العبد قاضياً .
[10] أي بين نفوذ القضاء وعدم نفوذ الشهادة .
[11] على حدّ تعبير الشيخ الأنصاري المتقدم ، والأقضية جمع قضاء ، والضمير في أقضيته يرجع إلى القاضي .