33/03/05
تحمیل
(بحث يوم الأحد 5 ربيع الأول 1433 ه 64)
تنبيهات تتعلّق بالبحث السابق :
التنبيه الأول : تقدّم أن مفاد الدليل الثاني من أدلة عدم النفوذ هو التمسّك بأن إصرار الروايات على اعتبار كون الإقرار أربع مرات بالرغم من فرض حصول العلم قبل ذلك فيه دلالة على عدم اعتبار العلم ، ومبنى هذا الاستدلال - كما هو واضح - على أنه في حدّ الزنا لا يُقبل الإقرار إلا أربع مرات ولكن ورد في معتبرة للفضيل بن يسار
[1]
كفاية الإقرار في حدّ الزنا مرة واحدة فلو بنينا على هذا المضمون فلا يكون هذا الدليل في مورد الإقرار حينئذ تاماً كما لا يخفى .
ولكن هذه الرواية بالرغم من اعتبارها سنداً إلا أن الأصحاب لم يعملوا بها وقد حُملت عندهم على التقية وذلك باعتبار أنها تتضمّن أموراً لا يلتزمون بها كقبول إقرار العبد مع أن بناءهم على عدم مضيّ إقراره وكعدم تحقّق حدّ الرجم في شأن الزاني المحصن بالإقرار ولو كان أربع مرات بل لا بد من شهادة أربعة شهود مع أنهم يبنون على تحققّه بالإقرار أربع مرات .. ولأجل ذلك حملوا الرواية على التقية ولم يعملوا بها ، ومن هنا لا يكون وجود هذه الرواية مؤثّراً في الحكم الواضح والمسلّم عندهم من اعتبار أن يكون الإقرار أربع مرات في إقامة حدّ الزنا فلا ينهدم ما بُني في الدليل الثاني من هذه الجهة .
التنبيه الثاني : تقدّم أن المحصّلة النهائية بعد استعراض أدلة النفوذ وما يقابلها من أدلة عدم النفوذ هي التفصيل بين العلم الحسّي والعلم الحدسي في حقّ الله وحقّ الناس فالأول يثبت مطلقاً في الحقّين والثاني لا يثبت مطلقاً فيهما ، وكان مستند هذا التفصيل ما استُفيد من قوله (عليه السلام) في معتبرة الحسّين بن خالد : (الواجب على الإمام إذا نظر إلى رجل يزني أو يشرب الخمر أن يقيم عليه الحدّ ولا يحتاج إلى بيّنة) ، وقوله (عليه السلام) في معتبرة سليمان بن خالد : (كيف أقضي في ما لم أر ولم أشاهد)
[2]
[3]
، ولا ريب أن المستفاد من هذه الأخيرة جواز استناد القاضي إلى الرؤية والمشاهدة في القضاء لأنها كما تقدّم تفترض المفروغية من ذلك وإنما كان الاستفهام فيها عن كيفية القضاء في حال فقدانهما ، ومن الواضح أن المتفاهم العرفي أن لا خصوصية للرؤية والمشاهدة وإنما سيقا من باب المثالية لما يوجب العلم الحسّي فحالهما حال سائر أدوات تحصيل هذا العلم كالسمع واللمس وسواهما وعلى ذلك فلا إشكال في إمكان التعدّي عنهما إلى غيرهما من تلك الأدوات فإن المناط في الحقيقة هو العلم الحسّي بالواقعة وهو حاصل بهما ، ومثل هذا التعدّي لا إشكال في مقبوليته وإنما الإشكال في التعدّي إلى مطلق العلم ولو كان علماً حدسياً مبنياً على التأمل والاستدلال والانتقال إلى النتيجة بمقدمات نظرية صرفة .. اللّهم إلا أن يقال إن مثالية الرؤية والمشاهدة إنما هي إلى مطلق العلم لا إلى خصوص العلم الحسّي إلا أن الجزم بهذا مشكل جداً لاسيما مع احتمال الفرق
[4]
في محلّ الكلام
[5]
.
وعلى أيّة حال فالظاهر عدم مقبولية هذا النحو من التعدّي .
ولكن الكلام في الحقيقة في نحو ثالث من التعدّي إلى قسم من العلم يكاد يكون برزخاً بين العلمين ، وبيان ذلك :
أنه قد يحصل العلم بالواقعة من مقدمة حسّية كما لو علم القاضي بالواقعة لا من جهة اطّلاعه المباشري عليها بل من جهة إقرار المقرّ أو إخبار الثقة أو الشياع الخارجي فهنا يقع السؤال عن إمكان التعدّي إلى هذا النحو من العلم بالواقع المستند إلى قضية حسّية فهل يجوز للقاضي الاستناد إلى هذا العلم كما يجوز له الاستناد إلى علمه الحسّي المباشري ؟
لا بدّ أولاً قبل الإجابة على هذا السؤال من تحديد هويّة هذا العلم فهل هو من قبيل العلم الحسّي أم من قبيل العلم الحدسي بعد عدم الإشكال في كونه علماً حسّياً بنفس تلك المدارك المشار إليها من الإقرار والإخبار والشياع
[6]
؟
ربما يقال بأنه علم حسّي بالواقعة من جهة كون مقدماته حسّية .. ولكنه ممنوع فإنه لا يصدق أن هذا القاضي قد رأى الواقعة على حدّ رؤية المقرّ والثقة لها فليس له في الحقيقة علم حسّي بها وإنما الذي حصل له هو انتقالة ذهنية من تصديق المقرّ في إقراره والثقة في إخباره إلى الاعتقاد الجازم بحصول ما أقرّ به أو أخبر وهذا إن لم يكن علماً حدسياً موضوعاً فهو ملحق به حكماً فلا يمكن التعدّي إليه .
وقد يُعترض بأنه يكفي في انتساب هذا النحو من العلم إلى العلم الحسّي كون مقدماته حسّية ويشهد لذلك ما ذُكر في علم الرجال من أن توثيقات الرجاليين حسّية وإن كان بين الموثِّق والموثّق فاصل زمني كبير فإنه لا ريب أن ذلك من جهة كون مقدّمات تلك التوثيقات حسّية تتمثّل في ما تلقاه الرجالي سماعاً عن أساتذته الذين يخبرونه عمّا تلقّوه بدورهم عن أساتذتهم مع أنه لم يتلقّ عن غير أساتذته حسّاً ، وكذا في ما اطّلع عليه من كلمات المتقدّمين في كتبهم الرجالية مع أنه لم يُدرك أعصارهم ليتلقّى عنهم حسّاً .
ولكن الظاهر أن هذا الاعتراض غير وارد لأن توثيقات الرجاليين تدخل في باب الإخبار وأن حجيّتها باعتبار أنها أخبار ثقات فتشملها أدلة حجية خبر الثقة
[7]
[8]
فالاعتماد في الحقيقة ليس على رأي النجاشي - مثلاً - في توثيقه لهذا الراوي أو ذاك بل على قوله ونقله لأنه يُخبرنا عن توثيق من تقدّمه ممن عاصر الشخص الموثّق وعايشه ولمس منه الوثاقة حسّاً ، ومن هنا ورد إشكال الإرسال في توثيقاتهم حيث تكون إخباراتهم مع الواسطة وإلا فلو كان الاعتماد على توثيق الرجالي من جهة أنه يمثّل رأياً له - ولو بالاستناد إلى مقدمات حسّية لا خبراً عنه فلا يكون حينئذ ثمة موضوع لذلك الإشكال أصلاً كما لا يخفى
[9]
فهذه الأخبار وإن كانت مع الواسطة وهي قد لا تكون مصرّحاً بها إلا أنها لا ريب في كونها أخباراً حسّية على حدّ الأخبار المنقولة عن الواسطة المصرّح بها ومن هذه الجهة كانت توثيقات الرجاليين حسّية
[10]
وأين هذا من محلّ الكلام الذي هو حديث عن علم بالواقعة مستند إلى قضية حسّية فيقال هل هو علم حسّي بالواقعة أم هو علم حدسي بها أم هو قسم ثالث ملحق بالحدسي حكماً ؟
فأقول : لا ينبغي أن يقع التساؤل عن ثبوت التسمية له وعدم ثبوتها
[11]
فإنه لم يرد في الرواية التعبير بالعلم الحسّي حتى يقال إنه إذا شُكّ في شموله لهذا النوع من العلم يُتمسّك بإطلاقه للشمول له فيجري عليه حكمه وإنما الوارد فيها التعبير بالرؤية والمشاهدة الذي قلنا بأنه على سبيل المثال لما يوجب العلم الحسّي فحينئذ يمكن التعدّي عنهما إلى سائر الأدوات الموجبة له ولا مجال للتعدّي إلى العلم الحدسي للمباينة بينهما بالذات وإنما وقع الإشكال في العلم المستند إلى مقدمات حسّية فهل يقال بإلحاقه بالعلم الحسّي بغضّ النظر عن صدق عنوانه عليه وعدمه - أم لا ؟
والجواب على ذلك هو عدم إمكان التعدّي إليه وذلك لقيام الاحتمال على وجود الفرق في باب القضاء بين العلم بالواقعة مباشرة من غير مقدمات والعلم بالواقعة المستند إلى المقدمات وهذا الاحتمال لا دافع له ولا يمكن التغاضي عنه وعلى ذلك فيكون هذا النحو من العلم
[12]
ملحقاً بالعلم الحدسي من حيث عدم جواز التعويل عليه والاستناد إليه .
فالنتيجة هي التفصيل بين العلم الحدسي وما يلحق به من العلم المستند على مقدمات حسّية فلا يكون معتبراً مطلقاً
[13]
والعلم الحسّي بالواقعة مباشرة فيجوز مطلقاً .
التنبيه الثالث : إن محلّ الكلام في الحقيقة - في جواز الاستناد إلى علم القاضي وعدم جواز الاستناد إليه - إنما هو في الشبهات الموضوعية ، وأما الشبهات الحكمية فلا إشكال عندهم ولا خلاف بينهم في جواز استناد القاضي إلى علمه الحدسي للحكم فيها كما مثّلوا لذلك بما إذا فُرض أن الولد الأكبر تنازع مع بعض الورثة في حكم الحبوة فإن هذا التنازع الذي هو من حيث الشبهة الحكمية لا بد أن يكون ناشئاً من اختلاف المتنازعين في التقليد
[14]
أو الاجتهاد
[15]
فإذا تراضوا في الرجوع إلى حاكم شرعي ممن يُشترط فيه أن يكون مجتهداً
[16]
ففي هذه الحال لا إشكال في أن القاضي يجوز له أن يحكم بعلمه الحدسي في هذه الشبهة الحكمية ويجب على كلّ منهم أن يعمل بحكمه وإن كان مخالفاً لرأيه
[17]
أو لرأي من يرجع إليه في التقليد .
هذه تنبيهات ترتبط بالبحث السابق .
[1] عن الفضيل بن يسار : " قال : سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول : من أقرّ على نفسه عند الإمام بحقّ من حدود الله مرة واحدة حرّاً كان أو عبداً أو حرّة كانت أو أمة فعلى الإمام أن يقيم الحدّ عليه للذي أقرّ به علي نفسه كائناً من كان إلا الزاني المحصن " الوسائل مقدمات الحدود الباب الثاني والثلاثون الحديث الأول مج28 ص58 .
[2] لا إشكال في أن ما يرتبط بمحل الكلام فعلاً وهو القضاء هي معتبرة سليمان بن خالد ، وأما معتبرة الحسين بن خالد فهي ترتبط بإقامة الحدود الي هي حقّ الله تعالى لا فصل الخصومات بين الناس الذي هو محلّ الكلام .
[3] (منه دامت بركاته)
[4] أي بين العلم الحسّي والعلم الحدسي .
[5] أي باب القضاء .
[6] إذ لا إشكال في أن القاضي قد سمع إقرار المقرّ وإخبار الثقة ورأى الشياع خارجاً .
[7] هذا بناءً على المختار من أن حجية خبر الرجالي من باب حجية خبر الثقة كما هو مبنى كثير من المحقّقين .
[8] (منه دامت بركاته)
[9] إذ لا واسطة في البين أصلاً لأن المفروض أن توثيقه قد تُلقّي على أنه رأي له ولم يُتلقّ على أنه خبر عن فلان عن فلان إلى أن يصل إلى الموثِّق المباشر حتى تثبت الواسطة بينه وبين من نُقل عنه التوثيق .
[10] أي لا من جهة كون مقدّماتها حسية كما ادُّعي في الاعتراض .
[11] أي من أنه يصدق عليه العلم الحسّي أو لا يصدق .
[12] أي المستند إلى مقدمات ولو كانت حسّية .
[13] أي في حقوق الله وحقوق الناس .
[14] بأن كانوا عواماً فيرجع الاختلاف بينهم إلى الاختلاف بين مراجع تقليدهم في الحكم المتنازع عليه .
[15] بأن كانوا مجتهدين فيرجع الاختلاف بينهم إلى الاختلاف في فتواهم في الحكم المتنازع عليه .
[16] وهو القاضي المنصوب .
[17] أي في ما لو كان مجتهداً .