38/04/24
تحمیل
الأستاذ الشيخ باقر الايرواني
بحث الفقه
38/04/24
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع: مسألة ( 29 ) حكم النوح – المكاسب المحرمة.
إن قلت: إنَّ الوارد في هذه الرواية هو: ( ولا ينبغي لها أن تقول هجرا ) وجملة ( لا ينبغي ) لا يفهم منها التحريم والمفروض أنا نريد أن نتمسّك بها لإثبات التحريم في حالة كون النياحة بالهجر وهي لا يستفاد منها التحريم فإنَّ هذا التحريم يلتئم مع الكراهة كما أشرنا إلى ذلك غير مرّة.
قلت: صحيح أنَّ فقرة ( لا ينبغي ) تلتئم مع الكراهة أيضاً إلا أنَّ المقصود منها في خصوص المقام لقرينةٍ داخليةٍ هو عدم الجواز إذ الهجر بمعنى الباطل يعني الكذب لا يحتمل جوازه ، وهكذا الهجر بمعنى القبيح لا يحتمل جوازه ، فلأجل هذه القرينة لابد من حمل فقرة ( لا ينبغي ) على التحريم وليس على الكراهة ، ولا على الجامع يعني مطلق المبغوضية بل لهذه القرينة يكون المقصود منها هو المحرّم.
إن قلت: إنَّ هذه الفقرة لا يستفاد منها المفهوم حتى يثبت التفصيل لأنه لا يوجد فيها إن الشرطية مثلاً ، فلا يوجد فيها أداة من أدوات الشرط لأنها لم تقل ( ولا ينبغي لها أن تقول شيئاً إذا كان هجراً ) فلكمة ( إذا ) أو ما شاكلها ليست موجودة فكيف نستفيد المفهوم ؟! ، إلا اللهم من باب اللقب ، فذكر الهجر هو بنفسه هو مفهوم اللقب وربما يصعب استفادة المفهوم منه.
قلت: نحن حينما نقرأها نستفيد منها المفهوم ، فإنَّ الامام عليه السلام لماذا أكّد على حالة الهجر وأنه لا ينبغي ؟! يعني أنَّ المناسب لو كان مطلق النياحة هو المحرّم فلا حاجة إلى ذكر الهجر بل كان من المناسب له أن يقول ( ولا ينبغي لها النياحة ) فيذكر مطلق النياحة لا أنه يذكر كلمة الهجر ، فذكر كلمة الهجر بالخصوص نستفيد منه المفهوم.
وإذا سألتني وقلت: هذا أي مفهومٍ هو ؟
قلت لك: لا يهمني تحديد اسمه فإنَّ هذه الأمور ترجع إلى الاستظهار ، فإذا استظهرنا المفهوم من ذلك بالوجدان فنأخذ به أما اسمه فهذا ليس بمهم ، لكنه ليس من البعيد أنَّ هذا وارد مورد التحديد ، فالامام عليه السلام في مورد التحديد مثلاً ، فنقول هذا من مفهوم التحديد أو غير ذلك ، والمهم أننا نفهم المفهوم فإنَّ هذا يكفينا ولا تهمّنا التسمية والألفاظ.
إذن اتضح أنه توجد عندنا ثلاث طوائف من الروايات ، والآن نريد أن نعرف كيف نعالجها لأنها متعارضة فيما بينها ، فواحدة تدل على الجواز وثانية على العدم وثالثة على التفصيل ، ولنفترض أنها جميعاً معتبرة من حيث السند ، فماذا نصنع ؟
والجواب: حيث إنَّ الثالثة مفصّلة خصوصاً رواية الصدوق فإنَّ فيها أداة ( إذا ) الشرطية إذ الوارد فيها: ( لا بأس بكسب النائحة إذا قالت صدقاً ) ومفهوماً أنه فيه بأس إذا لم تقل صدقاً ، فهي تدل على التفصيل ، ومادامت تدل على التفصيل فحينئذٍ تصير وجه جمعٍ بين الطائفتين الأوليين ، فنحمل الأولى المجوّزة مطلقاً على حالة غير الباطل ونحمل الثانية على الباطل بقرينة هذه الطائفة المفصّلة.
وإذا قلت لي: من أين لك هذا فإنَّ هذا لم نقرأه في علم الأصول ، نعم قرأنا أنَّ الخاص يخصّص العام ، أما إذا جاءت رواية مفصّلة فسوف تكون وجه جمعٍ بين طائفتين متعارضتين فهذا لم نقرأه بعنوانه فما هي النكتة في ذلك ؟
قلت: إنَّ النكتة عرفية ، فإنَّ العرف حينما يرى تفصيلاً ويسمع بطائفةٍ مفصّلةٍ يجمع بين الطائفتين المتعارضتين بحملها على حصّة خاصّة بما يتناسب مع المفصّلة وراجع وجدانك تجد صدق ما نقول ، وفي هذا المورد الأمر كذلك وهذه قضيّة عرفيّة وجدانيّة.
ولكن نسأل ونقول: لو فرض أنا أردنا أن نجمع جمعاً آخر وذلك بتطبيق كبرى انقلاب النسبة فهل يمكن ذلك في المقام أو لا ؟ ووجه تطبيق هذه الكبرى في المقام بأن يقال: إنَّ الطائفة الثالثة دلت على الجواز في حصّة فقالت لا بأس إذا كان صدقاً فتكون حينئذٍ أخصّ من الطائفة الثانية لأنَّ الطائفة الثانية حرّمت فهذه تكون مخالفة لها ، فالثانية تقول النياحة حرام والثالثة تقول هي جائزة إذا كانت صدقاً فتخصّصها ، وتصير النتيجة بعد التخصيص أنَّ الطائفة الثانية التي تدل على الحرمة تدل على أنه يحرم إذا لم يكن صدقاً ، فإذا كانت الثانية خاصة يعني الحرمة ثابتة فقط في حالة النياحة بالباطل فتصير اخص من الأولى لأنَّ الأولى تثبت الجواز مطلقاً فالثانية تثبت الحرمة في حالة النياحة بالباطل فتخرج الثانية من الأولى حصّة وهي حالة النياحة بالباطل ، فتصير النتيجة هي أنَّ الأولى الدالة على الجواز مطلقاً تصير دالة على الجواز في حالة عدم كون النياحة بالباطل ، وبذلك وصلنا إلى نفس النتيجة ولكن من خلال تطبيق كبرى انقلاب النسبة.
ويوجد كلام: وهو أنَّ أصل كبرى انقلاب النسبة هل هو مقبول كفكرة أو هو مرفوض أي نعمل هذا التخصيص التدرّجي إن صحَّ التعبير بأن نجعل الثالثة مخصّصة للثانية فالثانية فيما بعد تصير أخصّ من الأولى ، لأنَّ الثانية ليست أخصّ من الأولى مطلقاً وإنما بينهما تباين ، فالأولى تدل على الجواز مطلقاً والثانية تدل على العدم مطلقاً ولكن بعملية التخصيص صارت الثانية أخصّ مطلقاً من الأولى ، فهذه النسبة المنقلبة الجديدة هل نلاحظها أو نبقى نحن والنسبة القديمة التي هي نسبة التباين ؟ هذا فيه وقيل وقال بين الأصوليين وسوف لا نتعرّض له الآن ومورده في علم الأصول ، أما الآن فلنفترض أنَّ كبرى انقلاب النسبة تامة.
ولكن قد يأتي هذا السؤال: وهو أنه لماذا جعلنا الثالثة مخصّصة للثانية أوّلاً فلنجعل الثالثة مخصّصة للأولى وبذلك لا تعود النتيجة كما أردنا ، فالسؤال هو أنه لماذا جعلت الثالثة مخصّصة الثانية أوّلاً ولم تجعلها مخصصة للأولى أوّلاً ؟
قلت: إنَّ عملية التخصيص فرع المخالفة بين الطائفتين أما إذا كانت هناك موافقة بينهما فلا معنى للتخصيص ومن الواضح أنَّ الثالثة ليست هي مخالفة للأولى لأنَّ الأولى تدل على الجواز والثالثة أيضاً تدل على الجواز ، فإذن كلتاهما تدلان على الجواز فمادام كلتاهما تدلان على الجواز فعملية التخصيص لا معنى لها هذا بخلافه مع الثانية فإنَّ الثانية دلت على الحرمة بينما الثالثة دلت على الجواز إذا كان صدقاً فالثالثة قابلة لأن تصير مخصّصة للثانية.
فإذن توجد نكتة تجعلنا أن نجعل الثالثة هي المخصصة للثانية أوّلاً وإلا إذا فرض أنَّ الطائفة الثالثة قابلة لأن تخصّص الثانية وتخصّص الأولى فهنا انقلاب النسبة لا معنى له إذ لا مرجّح لجعلها مخصصة أوّلاً للثانية ثم نجعل الثانية مخصّصة للأولى.
والخلاصة: السؤال: هل يمكن أن نطبق كبرى انقلاب النسبة في المقام بناءً على قبولها ؟
والجواب: إنَّ السيد الخوئي(قده) في غير موضعٍ ومنه هذا الموضع طبّق كبرى انقلاب النسبة.
ونحن نقول: إنه حتى لو آمنا بكبرى انقلاب النسبة ونحن لا نؤمن بها لا نطبقها في المقام فإنه مادامت الطائفة الثالثة صالحة لأن تكون شاهد جمع بين الطائفة الأولى والثانية لا تصل النوبة إلى كبرى انقلاب النسبة إذ الثالثة هي بلسانها العرفي تقول إنَّ المقصود من الأولى حالة القول بالصدق من الثانية حالة الهجر فمادام هي تقول هكذا فلا معنى حينئذٍ لتطبيق فكرة انقلاب النسبة . نعم كبرى انقلاب النسبة لها وجه إذا فرض أنَّ الطائفة الثالثة لم تكن شاهد جمع عرفاً.
إذن هذه قضية لا بأس بالالتفات ليها ، فمن المناسب أن نطبق فكرة انقلاب النسبة في مورد لا يكون هناك شاهد جمع عرفي خلافاً للسيد الخوئي(قده) الذي يظهر منه تطبيق كبرى انقلاب النسبة حتى في حالة وجود شاهد جمع عرفي.
وعلى أيّ حال النتيجة من كل هذا أننا نطبق فكرة شاهد الجمع العرفي وتصير النتيجة هي التفصيل لا كبرى انقلاب النسبة وسوف تصير النتيجة هي التفصيل ، هذا لو قبلنا جميع الطوائف الثلاث سنداً.
وأما إذا رفضنا الطائفة الثالثة بأن قلنا هي ضعيفة السند مثلاً وبقينا نحن والطائفة الأولى والثانية فهل تتغير النتيجة أو لا ؟ والجواب: إنه في خصوص موردنا لا تتغير النتيجة لوجود قرينة داخلية ، يعني تبقى النتيجة هي التفصيل بين ما إذا كانت النياحة بالحق فتجوز أما إذا كانت بالباطل فلا تجوز ، وما هي القرينة الداخلية والحال أنَّ الأولى مطلقة والثانية مطلقة أيضاً فإذن بينهما تعارض وتباين فكيف تقول إن النتيجة نفس النتيجة ؟ والجواب: إنَّ الأولى وإن كانت مطلقة صورةً وشكلاً ولفظاً لكنها حتماً هي مختصّة بحالة النياحة بالحق إذ لا يحتمل أنَّ الصادر من الامام هو تجويز النياحة حتى إذا كانت باطلاً ونأخذ الرواية الثالثة من روايات الطائفة الأولى حيث قالت: ( قال أبو عبد الله عليه السلام: لا بأس بأجر النائحة التي تنوح على الميت ) فهي مطلقة لفظاً لكن حتماً هي تنوح بغير الباطل وإلا إذا كانت تنوح بالباطل فيكف يجوز كسبها فإن هذا لا يحتمل من الخارج ، فهذ القرينة يلزم أن نلتفت إليها ، فعلى هذا الأساس حتى لو حذفنا الطائفة الثالثة من الحساب وبقينا نحن والطائفة الثانية فالنتيجة هي النتيجة.
بل نقول أكثر: وهو أنه حتى لو حذفنا الطائفة الثانية من الحساب وبقينا نحن والطائفة الأولى فالنتيجة هي النتيجة ، لأن هذه الرواية حينما قالت: ( قال أبو عبد الله عليه السلام: لا بأس بأجر النائحة التي تنوح على الميت ) لا يحتمل أن يكون مقصوده هو أنها جائزة حتى ولو كان النوح بالباطل بالكذب ، فهنا يوجد مخصّص لبّي قطعي ، فإذن المخصص لبّي قطعي ، فالتفصيل نستفيده من هذه الرواية وحدها.
بل نقول أكثر: وهو أنه حتى إذ لم تكن هذه الرواية موجودة بل نحن القواعد الأوّلية فالنتيجة هي النتيجة ، فأصل النياحة لا مثبت لحرمتها فنجري البراءة ، أما إذا كانت بالباطل فلأجل أنها تشتمل على الكذب فسوف تكون محرّمة بسبب المقارن.
ومن خلال هذا كلّه اتضح أنَّ النتيجة واحدة على جميع التقادير سواء أخذنا بالطوائف الثلاث أم حذفنا الثالثة أم حذفنا الثانية ، بل لو حذفنا كلّ الطوائف وبقينا نحن والقاعدة فالنتيجة واحدة لا تتغير وهي التفصيل بالشكل الذي أوضحناه.