38/04/29
تحمیل
الأستاذ الشيخ باقر الايرواني
بحث الفقه
38/04/29
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع: مسألة ( 30 ) حكم الهجاء – المكاسب المحرمة.
ورب قائل يقول: إنَّ البحث عن سعة الهجاء وضيقه شيء جيد لأنه ورد في بعض الروايات توجيه بعض الأحكام على عنوان الهجاء ، حيث ورد أنَّ أمير المؤمنين كان يعزّر على الهجاء ، وحينئذٍ مادام يعزّر عليه فمن المناسب أن نبحث عن سعة وضيق دائرة الهجاء ، ونصّ الرواية عن الامام الباقر عليه السلام: ( قضى أمير المؤمنين عليه السلام في الهجاء التعزير ) ، توجد ورواية أخرى عن الامام الصادق عليه السلام: ( إنَّ علياً عليه السلام كان يعزّر في الهجاء )[1] ، فإذن بهذا الاعتبار قد يقال إنَّ البحث عن معنى الهجاء شيء لا بأس به لما أشرنا إليه من وروده موضوعاً للحكم بالتعزّير.
ويرده:
أوّلاً: إنَّ كلامنا في موضوع الحرمة حيث ذكر الفقهاء إنَّ الهجاء حرام ، وحينما نبحث عن الحرمة هل نحتاج إلى تحديد الهجاء ، فكلامنا كان هنا وقلنا إنه لا داعي إلى ذلك فإنَّ الهجاء لم يقع مصبّاً للحكم بالحرمة ، نعم ربما وقع مصبّاً لأحكامٍ أخر ولكن لم يقع موضوعاً للحرمة ، ومادام لم يقع موضوعاً للحرمة فالحرمة حينئذٍ تدور مدار الدليل لا مدار عنوان الهجاء لأنَّ الهجاء لم يؤخذ موضوعاً للحرمة فلا معنى حين البحث عن سعة الحرمة وضيقها للبحث عن الهجاء بعدما كان لم يؤخذ موضوعاً لها وإنما أخذ موضوعاً لحكمٍ آخر كالتعزير مثلاً وهذا لا ينفعنا.
ثانياً: صحيحٌ أنَّ الرواية ورد فيها عنوان التعزير وأنَّ الامام عليه السلام كان يعزّر على الهجاء ولكن التعزير كما نعرف هو حكم ثابت لارتكاب أيّ حرام كان ، فكلّ حرامٍ يرتكبه المكلّف وهو لا يقلع عنه فسوف يعزّر عليه لردعه ، ولو كان الحاكم الشرعي مبسوط اليد فلابد وأن يؤدّبه حتى يقلع عنه وهو عبارة أخرى عن التعزير ، فالتعزير إذن هو ثابت على ارتكاب أيّ محرّم من دون خصوصية لمحرّمٍ دون آخر ، نعم بقيد أن يكون ذلك المحرّم لم يثبت له حدّ معيّن ، فإذا تثبت له معيّن فالمتبع هو الحدّ المعيّن ، أما إذا فرض أنه ليس له حدّ معيّن ففي مثل هذه الحالة تنتقل النوية إلى التعزير ، فعلى هذا الأساس التعزير يكون ثابتاً سوء فرض أنَّ دائرة الهجاء ضيقة أم وسيعة ، فهو بالتالي حتى لو لم يكن بالشعر بل كما لو جلس شخص في المحافل أو في الفضائيات أو غير ذلك وذكر الناس بمعايبهم ففي مثل هذه الحالة افترض أنه لم يكن بالشعر ولكن هذا ارتكابٌ لمحرّمٍ ولا يقلع عنه فيؤخذ ويعزّر.
إذن التعزير لا ينصبّ على عنوان الهجاء ، نعم أمير المؤمنين عليه السلام كان يعزّر على الهجاء من باب أنه أحد المصاديق البارزة للحرام من دون موضوعيّة له حتى نبحث عن دائرته سعةً وضيقاً.
إذن أعود وأقول: لا داعي للبحث عن دائرة موضوع الهجاء سعة وضيقاً بعدما كانت الحرمة لا تدور مدار الهجاء بل تدور مدار ذكر معايب المؤمنين ، نعم إذا كان الشخص عنده نذر أو غير ذلك فسوف تظهر الثمرة في النذر وما شاكل ذلك ولكن هذه قضية ثانية.
هجاء غير المؤمن:
ما تقدّم كان بحثاً عن هجاء المؤمن بكلا قسميه العادل والفاسق ، وقلنا إنَّ العادل لا يجوز هجاؤه جزماً لأنه القدر المتيقن ، وأما غيبة الفاسق بالمعايب الموجودة فيه فقد دلّ الدليل على جوازها ولكن الهجاء لم يدل الدليل على جوازه فعلى هذا الأساس يشكل الحكم في جواز الهجاء في حقه وإن كانت الغيبة جائزة ، هذا إذا كانت المعايب موجودة وأما إذا لم تكن موجودة فالحرمة حينئذٍ سوف تكون من ناحيتين ، من ناحية أنه كذب ، ومن ناحية أنه تشهير بالمؤمن وهذا لا يجوز وإن جازت الغيبة ولكن عنوان التشهير والتعيير لم يدل دليل على جوازه فلا يجوز.
أما الآن فنريد نتكلّم عن غير المؤمن ، فهل يجوز هجاؤه أو لا ؟
ومن الواضح أنه مرّةً نفترض أنَّ هجاءه بالمعايب الموجودة فيه بحث لا يلزم الكذب ، وأخرى بالمعايب التي ليست موجودة فيه بحيث يلزم الكذب:
أما إذا كان بالمعايب الموجودة فيه: فيمكن أن يقال بالجواز مادام ليس مؤمناً لما دلّ على أنَّ غير المؤمن يشترك مع المؤمن في حقن دمه وحقن ماله أما ما زاد على ذلك لم يدل الدليل على ثبوت الحرمة له ، وقد وردت أكثر من وراية في هذا المجال وأنَّ المؤمن بالشهادتين تثبت له الحرمة من حيث المال والدم ، منها صحيحة الفضيل بن يسار: ( سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: إنَّ الايمان يشارك الاسلام ، إنَّ الايمان ما وقَرَ في القلوب والاسلام ما عليه المناكح والمواريث وحقن الدماء . والايمان يشرك الاسلام والاسلام لا يشرك الايمان )[2] ، وقريب منها صحيحة حمران بن أعين[3] .
والخلاصة: إنَّ أقصى ما ثبت بالروايات هو أنَّ غير المؤمن يشارك المؤمن في حرمة المال وحرمة الدم ، أما أنه يشاكه في حرمة الغيبة وبيان العيوب فهذا لم يثبت.
وأما إذ كانت العيوب ليست موجودة فيه وإنما هي ملفقة: فحينئذٍ يمكن أن يقال إنَّ هذا محرّم من باب أنه كذب ، نعم إذا دلّ الدليل على جواز تلفيق العيوب له كذباً وزوراً وإن لم تكن موجودةً فلا بأس بأن نلتزم بذلك ، ولكن لو فرض أنَّ الدليل لم يدل على ذلك فيبقى عموم حرمة الكذب على حاله ، فإذن لابد وأن نلاحظ هل يوجد دليل يدل على جواز ذكر غير المؤمن بالعيوب الملفّقة المصطنعة غير الثابتة فيه حقاً أو لا ؟
يظهر من الشيخ الأنصاري(قده)[4] أنه لا يجوز حتى لو فرض ورود رواية ظاهرها جواز تلفيق العيوب حيث قال: إنَّ هذا الظهور لا يمكن التمسّك به لدليل حرمة الكذب فإنَّ هذا كذب وهو حرام.
وكأنّ دليل حرمة الكذب عنده ليس قابلاً للتخصيص.
ولكن الاشكال عليه واضح: فإنَّ حرمة الكذب ليس حكماً عقلياً فهو قابل للتخصيص ، فمن هذه الناحية لا موجب للتوقف ، نعم تعال إلى الروايات لنلاحظ هل هي تدل حقاً على جواز ذكرهم بالعيوب حتى كانت العيوب ملفّقة أو لا تدل على ذلك ؟
في هذا المجال ربما تذكر ثلاث روايات: الأولى بلسان أنه ( محّصوا ذنوبكم بذكر الفاسقين ) ، يعني أنت اذكر الفاسق بسوءٍ ومحّص ذنبك ، أي أزل ذنوبك بذلك ، وغير المؤمن يدخل تحت عنوان الفاسق ، الثانية بلسان باهتوهم ، وباهتوهم يعني ارموهم كذباً فإنَّ هذا نحو من المباهتة ، والثالثة أنَّ غير المؤمن من قال إنه ولد حلال وإن كان كفّ اللسان أجمل وأجدر ، والروايات هي:
الرواية الأولى: فالوارد فيها: ( محّصوا ذنوبكم بذكر الفاسقين )[5] .
وإذا رجعنا إلى مصادر الحديث لم نجد رواية بهذا اللسان ، نعم من هنا وهناك نقل السيد العاملي في مفتاح الكرامة[6] عن حواشي الشهيد في القواعد أنه ذكر هكذا: ( محّصوا ذنوبكم بغيبة الفاسقين ) , أيضاً يوجد نقل في روح المعاني: ( اذكروا الفاجر بما فيه يحذره الناس )[7] .
وبالجملة: إنّ التعبير بلسان ( محصّوا ذنوبكم بذكر الفاسقين ) ليس موجوداً ، نعم ( بغيبة الفاسقين ) قد نقله السيد العاملي عن حواشي الشهيد ، أما من أين أخذه الشهيد فهو مجهول ، فالسند إذن ضعيف.
ولكن حتى لو فرض أنَّ السند كان تاماً يشكل الالتزام بدلالتها وذلك بأن يقال: إنه ما المراد من الفاسق ؟ فهنا عبّر بذكر الفاسقين حيث قيل ( محصوا ذنوبكم بذكر الفاسقين ) ؟
فيه احتمالات ثلاثة:
الأوّل: وهو الظاهر ، وهو كلّ فاسق ، ويصدق ذلك على المؤمن أيضاً إذا كان فاسقاً ، فيكون المعنى محّصوا ذنوبكم بذكر أيّ فاسقٍ ومنه المؤمن ، وهذا ما يقتضيه ظهور كلمة الفاسق في الاطلاق.
الثاني: أنَّ يكون المقصود من الفاسق خصوص غير المؤمن ، فكل غير المؤمن هو فاسق ، هذا الاحتمال الثاني هو الذي نريده ونقصده وهو المطلوب اثباته.
الثالث: أن يكون ( بذكر الفاسقين ) اشارة إلى فئة وجماعة معيّنة من رؤوس الفاسقين.
هذه احتمالات ثلاثة والمناسب لو لم يكن هناك مانع الأخذ بالاحتمال الأوّل ، ولكن الاحتمال الأوّل لا يمكن أن يلتزم به فقيه لأنه يلزم أن نذكر أكثر الناس بعيوبهم مادام فاسقاً مستوراً وليس معلناً وهذا لا يلتزم به فقيه ، وحتى لو كان معلناً ولكن ليس لك أن تذكره وتختلق له شيئاًً كذباً ونحن نريد الذكر حتى بشكلٍ كاذب وهذا كيف يلتزم به ؟! بل على الأقل صادقاً لا أنه كاذباً ، فالاحتمال الأوّل لا يمكن التزام به فيدور الأمر بين الاحتمال الثاني والاحتمال الثالث ، وكلاهما خلاف الاطلاق وخلاف الظاهر ، ومعه يصير الكلام مجملاً ، لأنَّ الظاهر غير مراد ، يبقى غير الظاهر مردّد بين احتمالين فيحصل إجمالٌ ، ومعه يقتصر على القدر المتيقّن وهو بعض الشواخص في الفاسقين ، فعلى هذا الأساس يكون إشارة إلى فئة وجماعة خاصّة ولا يمكن أن نلتزم بأنَّ كلّ فاسق يجوز غيبته مادام ليس مؤمناً فإذا كان ليس مؤمناً فحينئذٍ يجوز على اطلاقه لأننا قلنا إنَّ الكلام يصير مجملاً وهذا يكون طبق قاعدة أصولية لم يسلط عليها الضوء في علم الأصول كما ذكرنا مراراً ، لكن من المناسب الاشارة إليه وهي أنه إذا فرض أنه لدينا اطلاق أو عموم والمرتبة الظاهرة التي يقتضيها الاطلاق أو العموم جزمنا من الخارج أنها ليست مرادة وتردّد الأمر آنذاك بين المرتبة الثانية والثالثة فهل نأخذ بالثانية أو أنه يلزم الأخذ بالثالثة ؟ المناسب الاقتصار على القدر المتيقن وأعني بذلك المرتبة الثالثة ، باعتبار أنَّ الكلام يصير مجملاً فإنَّ ظاهره لم يُرَد ، وإذا لم يُرَد ظاهره فحينئذٍ يصير مجملاً وعند الاجمال يؤخذ بالقدر المتيقن ، والقدر المتيقّن في موردنا هو خصوص الشخوص والرموز المعهودين فقط لا أكثر من ذلك ، فحينئذٍ هذه الرواية لا تنفعنا في اثبات أن كون غير المؤمن يجوز ذكره بالعيوب التي ليست موجودة فيه.
إذن هي ليس بتامّة سنداً ودلالةً.