38/06/21
تحمیل
آیةالله الشيخ محمداسحاق الفیاض
بحث الأصول
38/06/21
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع: أصالة البراءة
الوجه الثالث: أن بعث الرسالة كناية عن صدور البيان من الشارع في الواقع لا عن وصوله فعلا.
ولكن هذا المعنى مما لا يمكن المساعدة عليه إذ لا يمكن حمل بعث الرسل في الآية على البيان الصادر من الشارع وإن لم يكن واصلا الى المكلف لأمرين:
الأمر الأول: أنه على هذا التفسير لا تدل الآية المباركة على أصالة البراءة الشرعية لأن دلالة الآية المباركة على البراءة الشرعية منوطة بوصول البيان إلى المكلف إما بالعلم الوجداني او بالعلم التعبدي فإذا وصل البيان إلى المكلف وجدانا او تعبدا فقد وصلت اليه الحجة في الواقع وحينئذ يكون منجزا ومخالفته موجبة لاستحقاق العقوبة وأما إذا لم يصل الواقع الى المكلف بل الواصل اليه هو مجرد الاحتمال ومجرد الشك فالمكلف يكون شاكا في الوصول ومحتملا له والاحتمال لا يكون منجزا ولا حجة والشك موضوع في أصالة البراءة الشرعية.
وعلى هذا يكون موضوع أصالة البراءة الشرعية محقق فتجري لا محالة وتكون رافعة لاحتمال العقوبة وجدانا لأن احتمال التكليف في الشبهات الحكمية بعد الفحص اللازم وعدم وجدان الدليل موجود واحتمال التكليف مساوق لاحتمال العقوبة ولكن هذا الاحتمال مرفوع بجريان أصالة البراءة الشرعية وجدانا ومن هنا تكون أصالة البراءة الشرعية واردة على قاعدة الاشتغال وحق الطاعة فإن موضوع قاعدة الاشتغال احتمال العقوبة والمفروض أن أصالة البراءة الشرعية رافعة لهذا الاحتمال وجدانا فلهذا يكون تقديمها على قاعدة الاشتغال وحق الطاعة من بابا الورود لأنها رافعة لموضوعها وجدانا.
واما إذا كان بعث الرسول في الآية الكريمة كناية عن صدور البيان من الشارع في الواقع وإن لم يصل الى المكلف فعندئذ لا تدل الآية على أصالة البراءة الشرعية فإن البيان إذا صدر من الشارع في الواقع ولم يصل الى المكلف فلا أثر له ولا يكون حجة ولا يكون منجزا للواقع فلا أثر للبيان فضلا عن أن البيان لم يصدر من الشارع في الواقع فعندئذ لا معنى لنفي العقاب قبل البيان فإن البيان في الواقع إذا لم يصل الى المكلف لا يوجب العقوبة فضلا عن عدم البيان لهذا يكون هذا التفسير في نفسه مما لا معنى له وخلاف الضرورة. والمراد من الآية الكريمة أن بعث الرسل كناية عن البيان الواصل الى المكلف إما وجدانا او تعبدا فإذا وصل الى المكلف فهو حجة ومخالفته موجبة لاستحقاق العقوبة واما إذا لم يصل الى المكلف بل المكلف شاك في الوصول ومحتملا له فعندئذ يتحقق موضوع أصالة البراءة فتجري لرفع احتمال العقوبة لأن احتمال التكليف في الشبهات الحكمية بعد الفحص وإن كان موجودا وهو مساوق لاحتمال العقوبة ولكن هذا الاحتمال مرفوع وجدانا بجريان أصالة البراءة.
فالصحيح في المقام هو ان بعث الرسل كناية عن بيان الشارع الواصل الى المكلف ويكون حجة ومنجزا للواقع.
فإذاً هذا الإشكال لا أساس له بل لا يرجع الى معنى معقول.
الوجه الرابع: ان مفاد الآية الكريمة هو مفاد قاعدة قبح العقاب بلا بيان وليس مفادها أصالة البراءة الشرعية إذ مفاد البراءة الشرعية جعل الترخيص الظاهري في الفعل او الترك ومفاد الآية ليس جعل الترخيص بل مفادها نفي العقوبة بدون بيان وحجة وهو مفاد قاعدة قبح العقاب بلا بيان فالآية المباركة تؤكد هذه القاعدة وإرشاد إليها ولا تدل على أصالة البراءة الشرعية.
وعلى هذا لو قلنا إن الأصل الأولي بحكم العقل العملي في الشبهات الحكمية بعد الفحص وعدم وجدان الدليل على الحكم هو قاعدة الاشتغال وحق الطاعة فالآية المباركة واردة على هذه القاعدة ورافعة لموضوعها وجدانا فإن المراد من الرسول في الآية المباركة هو البيان الشرعي لا العقلي فيكون البيان الشرعي رافع لاحتمال العقوبة وجدانا الذي هو موضوع قاعدة الاشتغال وحق الطاعة.
وأما إذا كان المراد من الرسول في الآية البيان أعم من الشرعي والعقلي فهل يمكن الجمع بينهما بأن يراد من البيان أعم من البيان الشرعي والبيان العقلي؟
فالظاهر أنه لا مانع منه فإن البيان الشرعي غير البيان العقلي باعتبار أن البيان العقلي في المرتبة السابقة لأن النزاع في أن الأصل الأولي بحكم العقل العملي في الشبهات الحكمية بعد الفحص وعدم وجدان الدليل هل هو قبح العقاب بلا بيان او قاعدة الاشتغال وحق الطاعة؟ وأما جريان أصالة البراءة الشرعية او الاحتياط الشرعي فهو في مرتبة متأخرة أي بعد ورود الشرع والشريعة مع ان الأصل الأولي فهو بحكم العقل العملي بقطع النظر عن الشرع والشريعة وأصالة البراءة الشرعية فهي بعد ورود الشرع والشريعة فلا مانع من أن يكون بعث الرسول كناية عن البيان الأعم من البيان الشرعي وهو أصالة البراءة والبيان العقلي وهو قاعدة قبح العقاب بلا بيان فإن أريد قاعدة قبح العقاب بلا بيان فهي غير واردة على قاعدة الاشتغال وحق الطاعة بل هي في عرضها واما إن أخذنا بالبيان الشرعي وهو أصالة البراءة الشرعية فهي واردة على قاعدة الاشتغال ورافعة لموضوعها وجدانا لأن موضوع القاعدة احتمال العقوبة وأصالة البراءة رافعة لهذا الاحتمال وجدانا فيكون تقديمها على قاعدة الاشتغال وحق الطاعة من باب الورود.
إلى هنا قد تبين أن شيء من هذه الإشكالات غير وارد على الاستدلال بالآية المباركة على أصالة البراءة الشرعية.
ولكن مع ذلك فإن دلالة الآية المباركة على أصالة البراءة الشرعية محل نظر؛ لأن الظاهر من الآية المباركة أنها إرشاد إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان وتأكيد لها.
فلا يمكن الاستدلال بهذه الآية المباركة على البراءة الشرعية.
الآية الثانية: قوله تعالى: (لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا)[1] وكلمة الموصول موضوعة للمعنى المبهم من جميع الجهات مثل يا أيها الذين آمنوا وتعيين معنى الموصول إنما يكون بصلته فلو لم تذكر الصلة لا يفهم منه إلا الشيء المبهم من جميع الجهات.
وعلى هذا يكون تعيين معنى الموصول في مصاديقه وأفراده إنما هو بصلته او بقرينة أخرى تدل على أن المراد من الموصول فرد خصا معين لا أنه استعمل فيها لأن الموصول لم يستعمل في الفرد وإلا لكان استعماله مجازا لأنه لم يوضع بإزاء الفرد وإنما وضع بإزاء المعنى المبهم وهو مستعمل فيه وإرادة الفرد المعين من أفراد مفهومه ومصادق معين من مصاديق مفهومه فيكون المقام من باب تعدد الدال والمدلول.