38/06/08
تحمیل
الأستاذ الشيخ باقر الايرواني
بحث الفقه
38/06/08
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع:- مسألة ( 32 ) حكم الرشوة – المكاسب المحرمة.
وأما بالنسبة إلى المطلب الثاني - وهو أنَّه لماذا تكون أصالة الصحّة مقدّمة على سائر الأصول - فذلك ببيان:- إنَّ أصالة الصحّة هي دائماً وأبداً توجد استصحابات مخالفة لها وتقف أمامها ، فعادةً يوجد استصحاب مقابل أصالة الصحّة فإذا قدّمنا تلك الأصول الموجودة في مقابل أصالة الصحّة عليها لم يبق لأصالة الصحة مورد أبداً ، فهي إذن مقدّمة على سائر الأصول ، وكيف يوجد أصل دائماً في مقابلها ؟ مثلاً أنت لو جرى عقد قبل عدّة سنوات ونشك الآن هل هو صحيح أو ليس بصحيح أو أن الصلاة الماضية صحيحة أو غير صحيحة أو غير ذلك من الأعمال ، فنشك هل العقد جرى بالماضوية أو لم يجر بها أو أنه هل جرى باللغة العربية أو لا فيأتي استصحاب عدم العقد بالعربية وعدم العقد بالماضوية ، وهكذا في الصلاة فأشك هل أتيت بالسجود أو بالركوع فنستصحب عدم الاتيان بهما لأنه شك في حدوث الحادث ، فدائماً أنت حينما تتشك في الصحّة فشكك ينشأ من الشك في تحقق جزءٍ أو شرط حتماً وإلا كيف تشكّ في الصحّة ؟! فيجري استصحاب عدم تحقق ذلك الجزء المشكوك أو عدم تحقق ذلك الشرط المشكوك فيقف أمام أصالة الصحّة ، ولذلك يمكن أن نقول إنه دائماً يوجد في مقابل أصالة الصحة أصلٌ منافٍ ، فإذن هي مقدّمة على الأصول المقابلة لها وإلا لم يبق لها مورد ، ومقامنا من هذا القبيل ، فنحن نشك في أن العقد الذي أجري هل هو صحيح أو ليس بصحيح فحينئذٍ نبني على صحته ، والأصل المقابل لذلك هو أنا نشك هل تحققت الهبة الصحيحة أو لم تحقق فنستصحب عدم تحقق الهبة الصحيحة ، فصحيحٌ أنه توجد هبة ولكن نشك في تحقق الهبة الصحيحة فنستصحب عدم تحقق الهبة الصحيحة ، هكذا قل ، أو قل:- هل نشأت من قصد القربة أو لم تنشأ من قصد القربة فنستصحب عدم تحقق الهبة عن قربة ، وهذا الأصل لا يقف أمام أصالة الصحّة وإلا لا يعود لها مورد أبداً.
فإذن اتضح لحدّ الآن أنَّ المناسب هو تقديم أصالة الصحّة.
ولكن أصالة الصحّة أقصى ما تثبته هو الصحّة ، فأنت لا تدري أنَّ هذا عقد صحيح أو لا فالسيرة تقول قل هو صحيح ، ولكن أنت تريد من وراء الصحيح شيئاً آخر ، فأنت تريد أن تثبت أنه لا ضمان على القاضي ، وأصالة الصحّة لا يثبت عدم الضمام أو الضمان إذ ليس من شأنها ذلك لأنها ناشئة من السيرة والسيرة أقصى ما تقوله هو إنك متى ما شككت في أنَّ هذا العقد صحيح أو لا فقل هو صحيح أما أنّه لا ضمان - لأنه إذا كان صحيحاً فالقاضي لا يكون ضامناً - فهذه اللوازم لا تثبتها صالة الصحّة ، ولا أقل نشك في أنَّ السيرة جارية على هذه السعة بحيث أنها تثبت عدم الضمان ؟ إنها ليست لها القابلية على ذلك.
والنتيجة:- هي أنه لا يوجد عندنا أصلٌ يثبت أنَّ هذا المال قد خرج عن ملك الدافع ، لأنَّ الأصل الذي يمكن التمسّك به كما قلنا هو استصحاب عدم تحقق الهبة الصحيحة ، وقد قلنا إنَّ هذا لا يجري لأجل أنَّ أصالة الصحّة مقدّمة عليه فلا يوجد أصل يثبت أن هذا المال قد خرج من ملك الدافع ، كما لا يوجد أصل يثبت الصحّة بنحوٍ لا يوجد ضمان وأنَّ القاضي لا يضمن ، فأصالة عدم تحقق الهبة الصحيحة يجري ولا يجري أصالة الصحّة لنفي الضمان.
فماذا نصنع إذن ؟
الجواب:- ننتقل إلى الأصول الطولية في المرحلة الثانية ، فإنَّ هذه الأصول في المرحلة الأولى قد تعذّرت وهي أصل الصحة واستصحاب عدم تحقق الهبة الصحيحة ، فننتقل حينئذٍ إلى الأصول في المرتبة الثانية ، وهذه قاعدة أصولية ( وهي أنه متى ما تعذّر جريان الأصول في المرتبة الأولى تصل النوبة إلى الأصول في المرتبة الثانية ) ، فنأتي إلى مقامنا ونقول: إنَّ هذا المال نشك هل خرج عن ملك الدافع أو لم يخرج عن ملكه فنستصحب بقاءه على ملك الدافع ، وهذا أصل في المرحلة الثانية لا أنه استصحاب عدم تحقق الهبة الصحيحة فإنَّ ذاك قلنا لا يجري وإنما بعد أن سقط الأصلان في المرحلة الأولى نأتي إلى هذا حيث نشكّ هل خرج هذا المال عن ملك الدافع أو لا فنستصحب بقاءه على ملكه ، ونشك هل ثبت ضمان في ذمّة القاضي أو لا فأيضاً نستصحب عدم الضمان.
وسوف تكون النتيجة بناء على هذا أنَّ المال باقٍ على ملك الدافع ولم يخرج عن ملكة ، وفي نفس الوقت لا ضمان على القاضي.
ولكن تواجهنا مشكلة واحدة:- وهي أنه يوجد علمٌ إجمالي ببطلان أحد هذين الأصلين ، لأنه إذا لم يخرج من ملك الدافع فلازمه الضمان ، وإذا فرض عدم الضمان فلازمه أنه خرج من ملك الدافع ، فالجمع بينهما شيء يعلم ببطلانه ، فيحصل علم إجمالي ببطلان أحد هذين الأصلين.
والجواب:- إنَّ هذه مخالفة التزامية قطعية وليست مخالفة قطعية عملية - فأنك لا تجزم بأنها مخالفة عمليّة قطعية وعيله فسوف يكون أحدهما باطلاً حتماً - ، فحينئذٍ عملاً سوف نحكم بعدم الضمان فنقول للقاضي لا ضمان عليك ، وهذه ليست مخالفة عمليّة قطعية وإنما هي مخالفة عمليّة احتمالية وليست قطعية ، هذا إذا كان المال تالفاً.
وأما إذا كان المال موجوداً فلا تصل النوبة إلى مسألة الضمان ، فإنه لابدّ وأن نفترض أنَّ المال تالفاً ، فلا تتحقّق مخالفة عمليّة قطعية وإنما توجد مخالفة التزامية ، والمخالفة الالتزامية لا تمنع من جريان الأصول.
والنتيجة النهائية هي عدم الضمان ، ولعل منشأ ما ذكره الشيخ الأعظم(قده) من أنَّ الأقوى هو الثاني - يعني تقديم أصالة الصحة - الذي أراد أن يثبت من خلاله عدم الضمان هو ما ذكرناه ، لأنه بالتالي هو توجيهٌ لما ذكره(قده) وإن لم يفصّله بهذا البيان.