38/08/19
تحمیل
الأستاذ الشيخ باقر الايرواني
بحث الفقه
38/08/19
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع:- تنبيهات - مسألة ( 35 ) حرمة الكذب – المكاسب المحرمة.
تنبيهات في المقام:-
فرغنا من المسألة التي كانت تتعرض إلى حرمة الكذب بما يرتبط بها من نقاط مذكورة في المتن وهناك أمور لم يتعرض إليها في المتن نذكرها ضمن تنبيهات:-
التنبيه الأوّل:- حكم الإخبار مع الشك.
إذا أخبر شخص عن تزول المطر مثلاً فتارة يكون جازماً بنزوله ويخبر بنزوله فهذا صدق أو يخبر بعدم نزول المفروض أنه يعتقد بنزوله فهذا كذب هذا واضح ، وأما إذا لم يكن معتقداً بنزوله بل كان شاكاً فالإخبار بنزوله هل يكون محرّماً وكذباً أو لا ؟
والكلام يقع تارة فيما تقتضيه القواعد بقطع النظر عن الروايات وأخرى بلحاظ الروايات:-
أما القاعدة:- فهي تقتضي التفصيل بين أن نفسّر الكذب بمخالفة الاعتقاد أو بمخالفة الواقع ، وهذه قضية قد تعرضنا إليها في بداية دخولنا في مسألة حرمة الكذب ونقلنا عن النظّام أنه يقول إن المدار على الاعتقاد وعن الجاحظ أنَّ المدار على الاثنين معاً ولكنا استظهرنا أن المدار على الواقع غايته يكون المكلف معذوراً لو أخبر وكان يعتقد أن ما أخبر به هو الواقع ولكن لمي كن هو الواقع فالكذب متحقق غايته يكون معذوراً وهذه قضيه ليست مهمة ، والمهم الذي أريد أن أقوله هو أنه لا يشغل بالك أنَّ المدار في تحقق الكذب على مخالفة الاعتقاد أو مخالفة الواقع وإنما الكلام هنا وهو أنه لو فسّرنا الكذب بمخالفة الاعتقاد فالقاعدة ماذا تقتضي في موردنا ، ولو فسّرناه بمخالفة الواقع فالقاعدة في موردنا ماذا تقتضي ؟
إن فسّرناه بمخالفة الاعتقاد ففي موردنا يرجع الشك إلى الشك في الشبهة المفهومية إذ نشك أنَّ مفهوم الكذب يختص بحالة ما إذا خالف الخبر الاعتقاد فقط أو يعم مفهومه حالة الإخبار مع الشك من دون اعتقاد ، إذن الدوران بين سعة مفهوم الكذب وضيقه والمناسب بمقتضى القاعدة في أمثال ذلك جريان البراءة عن الزائد المشكوك فإنَّ متيقن الكذب وهو المخالف للاعتقاد متيقن الحرمة وما زاد نشك في شمول مفهوم الكذب له وبالتالي نشك في الحرمة فنجري البراءة ككل مورد شككنا في سعة المفهوم وضيقه ، مثل القمار فإنها حرام في الجملة ولكن هل مفهومه وسيع ويشمل مثل الحالات الطفيفة التي نقول ( لو نزل المطر اليوم فسوف أعطيك كذا ) وأنت تقول لا ينزل المطر فحينئذٍ هل هذا قمار أو لا فنحن نشك في ذلك بالتالي يكون مجرى للبراءة هذا واضح.
إذن بناءً على تفسير الكذب بمخالفة الاعتقاد يكون المورد من الشك في سعة مفهوم الكذب وضيقه وبالمقدار الضيق متيقن الحرمة والمقدار الزائد مشكوك الحرمة للشك في صدق المفهوم فنجري البراءة في المقدار المشكوك.
وأما إذا فسّرناه بمخالفة الواقع فربما يقال:- إنَّ المناسب هو البراءة ايضاً باعتبار أنه إذا كنت شاكاً في نزول المطر فإذا كنت شاكاً في نزوله فأشك ان إخباري مخالف للواقع أو ليس بمخالف للواقع إذ يحتمل أن إخباري عن نزوله ليس مخالفاً للواقع بل هو مطابق للواقع فهنا تصير الشبهة موضوعية مصداقية فأنا اشك في انها مصداق للكذب أو لا فإذا كان في إخباري مخالفة للواقع فيصر كذباً حرام وإلا فلا فهنا يوجد شك في صدق الكذب المحرّم فيكون الشك في ثبوت الحرمة وعدم ثبوتها فيكون مجرى للبراءة ككل شبهة موضوعية.
إذن بناءً على هذا سوف تصير النتيجة هي أنَّ القاعدة تقتضي البراءة في كلا الموردين إذ على تقدير تفسير الكذب بمخالفة الاعتقاد يكون المورد من الشبهة المفهومية فيوجد قدر متيقن ويوجد مقدار زائد فتجري البراءة عن المقدار الزائد المشكوك ، وبناءً على تفسيره بمخالفة الواقع تكون الشبهة موضوعية إذ أشك أن إخباري هذا مخالفاً للواقع أو ليس مخالفاً للواقع فتكون الشبهة موضوعية فتجري البراءة ، هكذا ربما يقال.
ولكن يمكن أن يقال:- إنه بناءً على تفسير الكذب بمخالفة الاعتقاد المناسب الاشتغال دون البراءة ، والوجه في ذلك أن يحصل لي علم اجمالي بأنَّ أحد الإخبارين حرام إما الإخبار بالنزول إذا كان النزول مخالفاً للواقع وإما الاخبار بعدم الزول إذا كان عدم الزول مخالفاً للواقع ، فأحذ الاخبارين إذن حرام فيصير المورد نظير أحد الإناءين حتماً هو خمر أو حرام فيجب اجتنابهما فهنا أيضاً يجب اجتنابهما معاً للعلم الاجمالي بحرمة أحد الإخبارين ، فلا يمكن أن تخبر بالنزول ولا يمكن أن تخبر بعدم النزول ولابد من تركهما معاً.
إن قلت:- المناسب هو التخيير دون الاشتغال ، وذلك لأنني إذا أردت أن أخبر بنزول المطر فإن كان المطر واقعاً نازلاً فالإخبار سوف يصير صادقاً والصدق واجب وإذا لم ينزل فسوف يصير الإخبار بالنزول كاذباً فيصير حراماً ، فإخباري عن النزول يدور أمره بين الحرمة والوجوب وهكذا إخباري بعدم النزول يدور أمره بين الوجوب والحرمة وحينئذٍ يكون المورد مورد التخيير ، فالإخبار بالنزول يثبت فيه التخيير لأنه يدور أمره بين الحرمة والوجوب وفي موارد دوران الأمر بين المحذورين يكون مجرى للتخيير ، وهكذا الإخبار بعدم النزول أيضاً يدور أمره بين الوجوب والتحريم فيكون مجرى للتخيير.
والجواب:- إنَّ هذا مبنيٌّ على أنَّ الصدق واجب ، فإذا قلنا إن الصدق واجب كما أن الكذب حرام فصحيح يصير المورد دائراً بين المحذورين ، بيد أن الصدق ليس بواجب ولا يحمل في حق فقيه أن يحكم بأنَّ الصدق واجب ، فأوّلاً يكفينا عدم الدليل على وجوب الصدق إنما الدليل دل على حرمة الكذب ، وثانياً:- إنه مضافاً إلى أنه إذا كان الصدق واجباً - ومن الواضح سوف تأتينا روايات تقول إن الصدق واجب ولكن نفسره بعدم الكذب - فسوف يترتب على ذلك أنَّ المكلّف سوف ينشغل بالإخبارات الصادقة طوال اليوم ولا يستطيع ترك ذلك إلا بالمقدار الذي يلزم منه المشقّة والحرج ، وهل يلتزم أحدٌ بذلك ؟!! وهذا منبّهٌ وجداني على أنَّ الصدق ليس بواجب وإنما الكذب حرام ، فإذا قلنا إنَّ الصدق ليس بواجب فلا يتكون لك علم اجمالي دائر بين المحذورين فيبقى ما قلناه سابقاً من أنه يوجد علم اجمالي بحرمة إما الإخبار بالنزول وإما الإخبار بعدم النزول فعلى هذا الأساس يلزم التجنب عن كلا الإخبارين.
إذن القاعدة تقتضي بناءً على تفسير الكذب بمخالفة الاعتقاد الشبهة تكون مفهومية فنجري البراءة عن المقدار المشكوك الزائد ، وأما بناء على تفسير الكذب بمخالفة الواقع الشبهة ربما يقال هي موضوعية ولكنه يرد عليه أنه صحيح أن نفترض أنها موضوعية ولكن يوجد علم إجمالي بأنَّ أحد الإخبارين إما بالنزول أو عدم النزول هو حرام فيجب التجنّب عنهما معاً ، وشبهة أنَّ المورد من موارد التخيير يردّه أن الصدق ليس بلازم وإنما الكذب حرام.
هذا وربما يظهر من بعض الأخبار التي ذكرها صاحب الوسائل(قده) أنَّ الصدق واجب فإنه عقد باباً - هذا نذكره من باب الكلام يجر الكلام وإلا فهو ليس بمهم - باسم الباب الأول من أبواب العشرة واسمه ( باب وجوب عشرة الناس حتى العامة بأداء الأمانة واقامة الشهادة والصدق ) وذكر بعض الأحاديث ، من قبيل:- صحيحة الشحّام:- ( قال لي أبو عبد الله عليه السلام:- .... وأوصيكم بتقوى الله عزّ وجلّ والورع في دينكم والاجتهاد لله وصدق الحديث .. )[1] .
إن تعبير صاحب الوسائل(قده) في عنوان الباب وتعبير الرواية الشريفة يدلان على أنَّ الصدق واجب.
ولكن يرده:- إنَّ هذا التعبير يقصد فيه من الصدق عدم الكذب ، فمعنى ( عاشر الناس بالصدق ) يعني عليك أن لا تكذب ، وهذا تعبير عرفي سائد بيننا والمقصود في الحديث وفي عنوان الباب الذي ذكره صاحب الوسائل(قده) هو ذلك وإلا فقد قلنا يلزم من ذلك أنه سوف ننشغل بالإخبارات الصادقة وسوف يصير التعطيل بمقدار الضرورة أو غير ذلك.
إذن اتضح أن مقتضى القاعدة هو التفصيل.
وأما الأخبار:- فنذكر في هذا المجال روايتين:-
الرواية الأولى:- صحيحة هشام بن سالم ، قال:- ( قلت لأبي عبد الله عليه السلام ما حق الله على خلقه ؟ قال:- ان يقولوا ما يعلمون ويكفوا عمّا لا يعلمون فإن فعلوا ذلك فقد أدّوا إلى الله حقه )[2] .
وهذه الرواية قد يقال:- بأنها تدل على لزوم الكف عمّا لا يعلمون لأنه من حق الله على عباده أن يكفّوا عما لا يعلمون فالإخبار عن نزول المطر مادام أنت لست بجازم لا يجوز ، ولماذا ؟ لأنه ( يلزم الكفّ عمّا لا يعلمون ) ، بناءً على أنَّ تعبير ( قال ما حق الله .... ) يدل على اللزوم ، ثم بعد ذلك قالت الرواية ( فإذا فعلوا ذلك فقد أدوا إلى الله حقه ) فإذا قلنا يستفاد من هذا التعبير الزوم فحينئذٍ الرواية تكون دالة على لزوم الكفّ عن الإخبار بالأشياء التي لا نعلم بتحققها.
الرواية الثانية:- رواية العدّة عن أحمد بن محمد بن خالد عن السحن بن علي الوشّا عن أبان الأحمر عن زياد بن أبي رجاء عن ابي جعفر عليه السلام:- ( ما علمتم فقولوا وما لم تعلموا فقولوا الله أعلم )[3] .
وهذه الرواية دلالتها أوضح من دلالة الأولى لأنَّ الأولى يمكن التشكيك في دلالتها على اللزوم والوجوب لأنه يوجد فيها ما حق وغير ذلك فقد يقول شخص إنَّ هذا لا يدل على الوجوب أما هنا فتوجد صيغة أمر حيث قال ( ما علمتم فقولوا وما لم تعلموا فقولوا الله أعلم ) يعني لا تخبر بل قل الله أعلم فلا تقل نزل المطر بل قل الله أعلم ، فإذن دلالة هذه الرواية أوضح من السابقة.
فإذن بمقتضى هاتين الروايتين أنه لا يجوز الإخبار حالة الشك ، يعني لابد وأن نخالف القاعدة بناءً على تفسير الكذب بمخالفة الاعتقاد والذي قلنا يجري أصل البراءة فهنا بناءً على الأخذ بالأخبار تصير النتيجة هي عدم جواز الإخبار.