38/11/27
تحمیل
الأستاذ الشيخ باقر الايرواني
بحث الفقه
38/11/27
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع:- مسألة ( 37 ) حكم الضرائب – المكاسب المحرمة.
والمناسب في هذا المجال - بعد اتضاح التأمل فيما أفاده الأعلام أعني الشيخ الطوسي وصاحب الحدائق والشهيد الثاني - أن يقال:- إنَّ الطائفة الأولى كما ذكرنا تساوي سبع روايات وعدد سبع ليس من البعيد أنه يورث الاطمئنان أو بالأحرى القطع بصدور المضمون ، فيصدق أن هذه الروايات - يعني روايات الطائفة الأولى - هي سنَّة قطعية بينما الرواية الثانية هي رواية واحد فهي مخالفة للسنة القطعية فآنذاك تطرح بعد كون المعارضة مستقرة فحينئذٍ لا يمكن الجمع فتطرح الرواية الثانية من باب أنها مخالفة للسنَّة القطعية.
إن قلت:- الثابت عندنا هو الطرح في حالتين بعد استقرار المعارضة ، أحدهما المخالف لكتاب الله عزّ وجلّ فتوجد عندنا روايات تقول ( ما خالف كتاب الله فهو زخرف ) أو ( فاضرب به عرض والجدار ) وغير ذلك والثاني ما وافق الغير ، فالموجب للسقوط هو هذا أما أنَّ المخالف للسنَّة القطعية يطرح أيضاً فهذا شيء ثالث ليس موجوداً في الروايات ، فمن أين لك هذا ؟
قلت:- إنَّ ما دلّ على سقوط المخالف للكتاب الكريم عند استقرار المعارضة يمكن أن نستفيد منه أنَّ المخالف للسنَّة القطعية أيضاً يحكم بسقوطه ، ببيان: أنَّ المخالف لكتاب الله عزّ وجلّ إنما يسقط من باب أنه مخالف للحكم القطعي لله عزّ وجل وليس لكونه مخالفً لكتاب الله بعنوانه ، كلا بل بما أنه مخالف لحكم الله القطعي فالحيثية الموجبة لإسقاط المخالف لكتاب الله هو أنه مخالف للحكم القطعي لكتاب الله وإلا فكتاب الله عزّ وجلّ ليست له خصوصية وإنما كل الخصوصية لكونه يمثل الحكم القطعي ، فإذا كانت السنَّة القطعية تمثل حكم الله القطعي فلا فرق بينها آنذاك وبين المخالف للكتاب فالمخالف لها كالمخالف لكتاب الله فكلاهما يسقط عن الاعتبار ، باعتبار أنَّ مخالف لحكم لله القطعي فعلى هذا الأساس نحكم بسقوط هذه الرواية لأنها مخالفة لحكم الله القطعي ، والمهم عندي أن تحفظ هذه الكبرى التي بيّناها لأنه يمكن أن نستفيد منها في موارد متعددة.
إن قلت:- إنه لا حاجة إلى اتعاب النفس بهذا الشكل بل هناك طريق أيسر وهو أن نقول تعارضا فتساقطا فنرجع إلى الأصل حيث إنه لا يوجد عموم نتمسك به فنرجع إلى الأصل وهو يقتضي براءة الذمة من لزوم الدفع ، فإذن وصلنا إلى نفس النتيجة وهي عدم الحاجة إلى دفع المال ثانياً بل ذمته بريئة تمسكاً بأصل البراءة ، فإنَّ النتيجة وصلنا إليها بهذا الطرق فمن يرفض ما أشرنا إليه يمكنه أن يقول تساقطا فنرجع إلى الأصل وهو يقتضي البراءة وبذلك تثبت براءة ذمة المالك الدافع بلا حاجة إلى دفع ثانية ، فإذن نفس النتيجة وصلنا إليها من طريق أخصر وأوضح.
قلت:- هذا جيّد على مسلك السيد الخوئي(قده) الذي يرى أنَّ الاستصحاب لا يجري في الأحكام الكلّية فإنه هنا كانت ذمة المالك هذا حكم شرعي وهو حكم بالاشتغال نشك هل زال ذلك الحكم بالاشتغال بالدفع للحاكم الجائر فنستصحب بقاء الاشتغال وهذا استصحاب في حكم كلّي وبناءً على رأي السيد الخوئي لا يجري ، فالمقصود أنَّ استصحاب بقاء اشتغال الذمة معارض بأصالة عدم شغل الذمة بالمقدار الزائد والمقدار الزائد هو ما بعد الدفع إلى الظالم فهناك جعل للاشتغال في الفترة التي لم يتحقق فيها الدفع بأي شكل من الأشكال هنا نجزم بأنه يوجد جعل لاشتغال الذمة مادام الدفع ليس موجوداً أما إذا صار الدفع إلى الظالم فنشك هل يوجد جعل بلحاظ هذه الفترة فالأصل عدم الجعل الزائد بلحاظ هذه الفترة فيعارض استصحاب بقاء الاشتغال فدائماً استصحاب الكلي في أي مورد له معارض له ودليل حجية الاستصحاب لا يمكن أن يشمل الاثنين معاً للمعارضة ولا يمكن أن يشمل استصحاب بقاء الحكم لأنه بلا مرجح فالمناسب أنه لا يشمل هذا ولا ذاك وهذا هو معنى التساقط ، فعلى رأي السيد الخوئي(قده) استصحاب بقاء شغل الذمة لا يجري فإذا كان لا يجري فيكون أصل البراءة جارياً فهو المحكّم ولا يوجد عليه حاكم ، أما بناءً على ما نختاره من أنَّ الاستصحاب في الحكم الكلّي يجري فعلى هذا الأساس لا معنى للرجوع إلى البراءة ، فلذلك لابد أن تنتهي العملية بأنَّ تفترض أنَّ الرواية ساقطة عن الاعتبار فإذا لم نسقطها عن الاعتبار صارت المعارضة مستقرة وسوف تصير النتيجة هي وجوب الدفع ثانية للاستصحاب.
والنتيجة من خلال هذا كلّه:- هي أنَّ الطائفة الثانية مادامت مخالفة للسنَّة القطعية فتكون ساقطة عن الاعتبار فذمة المالك بريئة من الدفع ثانية وبهذا ننهي كلامنا عن الحكم الثاني.
الحكم الثالث:- وهو أنَّ حوالة السلطان على المالك بأخذ الزكاة أو الخراج أو غير ذلك يكفي في ثبوت الحكمين السابقين - يعني في براءة ذمة المالك ويكفي أيضاً في جواز الأخذ من الظالم بهبة أو شراء أو ما شاكل ذلك - فإذن الحوالة من قبل الظالم يكفي ، فإذا حوّل الظالم إما حوالة بنحو الهبة كأن قال الظالم لشخصٍ حوّلتك على فلان فخذ منه الخراج أو الزكاة ، أو شراءٍ فيقول الظالم لشخصٍ أعطني الثمن واذهب أنت وخذ المبيع من ذلك لشخص المالك الذي عليه الخراج فهنا أيضاً تثبت براءة ذمة المالك وفي نفس الوقت يجوز لهذا الشخص الثالث من طريق الحوالة أن يأخذ هذا المال ، ولا يلزم أن يعزل من البداية من قبل المالك أو السلطان ثم يأتي الشخص الثالث ويأخذه كلا بل الحوالة وحدها كافية أيضاً.
وهذه القضية وقعت محلّ كلامٍ بين الأعلام وهي أنه هل تكفي الحوالة من دون عزل للحق ؟ ، وسبب هذا الاختلاف هو اختلاف الروايات فتوجد رواية يظهر منها أنَّ العزل المسبق لازم بينما توجد روايات أخرى يظهر منها عدم لزوم ذلك.
أما ما دل على لزوم العزل المسبق في جواز تطبيق الحكمين:-فهي صحيحة أبي عبيدة المتقدمة وهي:- ( قيل له:- فما ترى في مصدّق يجيئنا فيأخذ منا صدقات أغنامنا فنقول بعناها فيبيعناها فما تقول في شرائها منه ؟ فقال:- إن كان قد أخذها وعزلها فلا بأس ) يعني أنت تريد أن تأخذ هذه الزكاة بشراء فلابد أن يكون هناك عزل مسبق فالحوالة وحدها لا تكفي بل يلزم العزل المسبق.
وأما الرواية المعارضة:- فلعلّها أكثر من وراية مضمونها أنه يأتي شخص إلى السلطان فيقول له أتقبل منك أيها السلطان ما على هؤلاء الناس من خراج أو من جزية الرؤوس أو من زكوات فأنا الآن اشتري كل هذا منك مقابل مبلغ كذا وأنا ابقى طرفاً في مقابلهم - ومن الواضح أنَّ هذا المتقبّل سوف يربح والسلطان سوف يستفيد من هذا التقبل إذ لعلّ وقت جباية الخراج أو لزكاة لم يحل بعدُ أو أنها تحتاج إلى وقت أو أنَّ السلطان لديه مشروعاً وكان محتاجاً إلى المال الآن - فهنا توجد عندنا روايات دلت على الجواز والحال أنه لم يتحقق العزل هنا فإنَّ هذا شراءٌ وتقبّلٌ - والقبالة هي نفش الشراء - للخراج أو غير ذلك قبل أن يُعزل فماذا نصنع ؟
وقال الشيخ الأعظم(قده) في المكاسب:- إنَّ ظاهر الأكثر اعتبار العزل المسبق ، ثم نقل عن جماعة أنه لا يلزم العزل المسبق ، ونصّ عبارته:- ( إنَّ ظاهر عبارات الأكثر بل الكل أن الحكم بجواز الشراء أو التملك بغير الشراء يختص بما إذا أخذ السلطان المقدار الخراجي أو الزكوي ، لكن صريح جماعة عدم الفرق بل صرّح لمحقق الثاني بين عدم الفرق بين القبض وعدمه ، هذا هو الظاهر من الأخبار المتقدّمة الواردة في قبالة الأرض وجزية الرؤوس حيث دلت على أنه يحل ما في ذمة مستعمل الأرض من الخراج لمن تقبّل الأرض من السلطان )[1] .
وأما الرواية الثانية:- فهي موثقة اسماعيل بن الفضل الهاشمي وسندها:- محمد بن يحيى عن عبد الله بن محمد عن علي بن الحكم وعن حميد بن زياد - وهو من أهالي نينوى ويروي عنه الكليني كثيراً وهو من ثقات أصحابنا - عن الحسن بن محمد بن سماعة عن غير واحد جميعاً عن أبان بن عثمن عن اسماعيل بن الفضل الهاشمي - وأبان بن عثمان من أصحاب الاجماع واسماعيل بن الفضل الهاشمي ثقة - ، أما مصطلح ( جميعاً ) يلزم أن نلتفت إليه يعني أنه يوجد طريقان إلى أبان بن عثمان الطريق الأوّل هو محمد بن يحيى عن عبد الله بن محمد عن علي بن الحكم عن أبان والطريق الثاني حميد بن زياد عن الحسن بن محمد بن سماعة عن غير واحد عن أبان فهذان طريقان إلى ابن ، وإذا كان الطريق الأوّل فيه اشكال لأنَّ عبد الله بن محمد لا نعرفه وعلي بن محمد مشترك يكفيك الطريق الثاني وهو حميد بن زياد عن الحسين بن محمد بن سماعة ولكن هذا واقفي وكذلك أبان لذلك سوف تصير موثقة ، ولكن المشكلة هنا وهي أنه قيل ( عن غير واحد ) فقد يتوقف هنا ولكن لا تتوقف لأنَّ تعبير ( عن غير واحد ) قد يقول قائل هذا معناه أن هذه قضية مشهور لا واحد ولا اثنين ولا أربعة كما يذهب إلى ذلك السيد الخوئي(قده) ، أو أنَّ هذا التعبير لا أقله ثلاثة أو أكثر واحتمال اجتماع ثلاثة أو أكثر على الكذب في هذه القضية احتمال ضعيف وهذه قضية نفسية فإذا لم تقبل بها فلك الحق ، ولكن من يوافقني على هذه القضية فلا مشكلة ، عن سماعيل بن الفضل الهامشي عن أبي عبد الله عليه السلام:- ( في الرجل يتقبّل بجزية رؤوس الرجال وبخراج النخل والآجام والطير وهو لا يدري لعله لا يكون من هذا شيء أو يكون أيشتريه وفي أي زمان يشتريه ويتقبل منه ؟ قال:- إذا علمت أنَّ من ذلك شيئاً واحداً أنه قد أدرك فاشتره وتقبّل به )[2] ، وفي نسخة الفقيه ( وتقبل منه ).
ونحن قد قرأنا في اللمعة وغيرها أنَّ البيع الذي لا يقدر على تسليمة لعدم تحققه يكفي فيه ضم الموجود إلى ذلك غير الموجود ، وهنا أيضاً كذلك إذا ادرك بعضه فضمّه إلى ذاك كافٍ.
وهنا قد يقال:- إنَّ الرواية ناظرة إلى الاشكال من حيث بيع ما ليس بموجود ، فلا تنفعنا في محل الكلام.
وجوابه:- صحيح أنها واردة في بيع ما ليس بموجود ولكن بالتالي هي تدل على أنَّ بيع ما ليس بموجود إذا ضمّ إلى الموجود كفى ، وفي الأثناء نستفيد منها أيضاً أنه إذا لم تتعيّن ولم تُعزل يجوز شراؤها قبل عزلها وتعيّنها بالعزل.
فماذا نصنع ازاء هاتين الطائفتين ؟