16-12-1434
تحمیل
الأستاذ الشيخ باقر الايرواني
بحث الفقه
34/12/16
بسم الله الرحمن الرحیم
الموضـوع:- الحلق والتقصير / حج التمتع / مناسك الحج للسيد الخوئي(قد).
الحلق والتقصير
وهو الواجب[1] السادس من واجبات الحج . ويعتبر فيه قصد القربة وايقاعه في النهار على الأحوط من دون فرق بين العالم والجاهل . والأحوط تأخيره عن الذبح والرمي ولكن لو قدمه عليهما أو على الذبح نسياناً أو جهلاً منه بالحكم أجزأه ولم يحتج الى الاعادة.
يشتمل المتن المذكور على عدة نقاط:-
النقطة الأولى:- وهي في إثبات وجوب الحلق أو التقصير في مقابل كونه سنّةً وأمراً ليس بواجب فنريد أن نثبت أصل الوجوب . والكلام في ذلك تارةً يقع من حيث الفتوى وأخرى من حيث المستند:-
أما من حيث الفتوى:- فالمعروف بين الفقهاء هو الوجوب ولكن قد يظهر الخلاف من الشيخ الطوسي(قده) في تبيانه وأن ذلك سنّة وقد أشرنا الى ذلك عند البحث في الواجب الأوّل من واجبات منى في اليوم العاشر - أعني رمي جمرة العقبة - فإنه هناك ذكرنا أن الشيخ الطوسي(قده) يظهر منه الخلاف حتى بالنسبة الى جمرة العقبة وأنه سنّة وعبارته في التبيان هكذا:- ( ومناسك الحج تشتمل على المفروض والمسنون والمفروض يشتمل على الركن وغير الركن ...... والمسنونات:- الجهر بالتلبية واستلام الحجر وأيّام منى ورمي الجمار والحلق أو التقصير ....)[2] . إذن هو قد عدّ الحلق والتقصير من جملة مسنونات الحج، وقد تقدّم أيضاً من ابن إدريس(قده) في السرائر محاولة تفسير المسنون بما كان مشرّعاً من قبل النبي صلى الله عليه وآله فإن هذا مصطلح في الروايات فمصطلح الفريضة يطلق على الواجب من قِبَل الله عز وجل والسنّة هي الواجب والتشريع من قبل الرسول فإن الرسول كانت له سلطة تشريعية فهو قد شرّع ذلك فحمل ابن ادريس السنّة على ذلك وبناءّ على هذا يجتمع الوجوب مع كون الشيء مسنوناً فإنه واجبٌ ولكنه بوجوبٍ من قبل الرسول صلى الله عليه وآله وليس بوجوبٍ من قبل الله عز وجل وقد تقدّم أن ما ذكره ابن إدريس وقع محلاً للخلاف وهل هو شيءٌ مقبولٌ وصحيحٌ أو لا.
وعلى أي حال لعلّ هناك بعض القرائن تُبعِّد إرادة هذا المعنى من قبيل أنه(قده) عَدَّ من جملة المسنونات الجهر بالتلبية واستلام الحجر فإن هذه من المستحبات جزماً . إذن هذا قد يُبعِّد مثل هذا الحمل، ولأجل هذا يصعب ان نقول بأن المسألة اجماعية - يعني الوجوب مع الاجماع ولا خلاف فيه - ولا أقل شبهة الخلاف موجودة من قبل الشيخ الطوسي(قده).
قال في المدارك:- ( المعروف من مذهب الأصحاب أن الحلق والتقصير نسكٌ واجبٌ بل قال في المنتهى أنه قول علمائنا أجمع . ونقل عن الشيخ في التبيان قال إن الحلق أو التقصير مندوب غير واجب . وهو نادرٌ مردودٌ بفعل النبي صلى الله عليه وآله الواقع في مقام البيان والأوامر الكثيرة الواردة بذلك عن أئمة الهدى صلوات الله عليهم )[3] . إذن صاحب المدارك ذكر أوّلاً أن ما ذهب إليه الشيخ الطوسي نادر - يعني أنه لم يوافقه الفقهاء على ذلك فهو ليس رأياً معروفاً بل هو نادر - وهذا الرد ليس بمهم -، ثم ردّه بردين، الردّ الأوّل إن هذا مردود بفعل النبي صلى الله عليه وآله في الأخبار البيانيّة فإنه كان يأتي بالحلق والتقصير وهو كان في مقام البيان فهذه أخبار بيانيّة تبيّن كيفية الحج . وكأنه توجد مقدمة مضمرة في كلام صاحب المدارك(قده) وهي أنه كل ما يؤتى به في الأخبار البيانيّة مادام هي في مقام البيان فهو حينئذٍ يراد به الوجوب إلا أن تقوم قرينة على الخلاف وقد قلنا إن هذا الأصل الأوّلي – الظهور الأوّلي - هو ما ذهب إليه السيد الخوئي(قده) . إذن جذوره موجودة في كلمات الأصحاب ومنهم صاحب المدارك(قده)، والرد الثاني هو الأوامر المتكثرة التي تأمر بالحلق والتقصير، وهذه قضية سوف نلاحظها فيما بعد.
وقريب منه ما أفاده صاحب الجواهر(قده)[4].
اذن النتيجة من حيث الفتوى هي أن المسألة يشكل تحصيل اجماع واتفاق فيها على وجوب التقصير أو الحلق.
وأما من حيث المستند:- فقد اتضح أنه لا يمكن التمسك بالإجماع لأن انعقاد الإجماع أمر لم يثبت بعد احتمال مخالفة الشيخ الطوسي وهو واحدٌ كألف.
ومن هذا يتضح أيضاً الاشكال في التمسك بالسيرة أو بالأحرى بالارتكاز المتشرعي فإن السيرة وحدها لا تنفع فهي أعمّ من الوجوب ولكنّ المقصود هو السيرة الناشئة عن ارتكاز الوجوب فهذا أيضاً يشكل التمسك به باعتبار أن هذا الارتكاز كيف ندّعي أنه ثابتٌ والحال أن الشيخ الطوسي الذي هو واحدٌ كألفٍ ليس عنده هذا الارتكاز ومخالفٌ في المسألة فدعوى السيرة الناشئة من الارتكاز يصعب القول بها.
وقد يستدل على ذلك بقوله تعالى:- ( لتدخلنّ المسجد الحرام إنشاء الله آمنين محلّقين رؤوسكم ومقصّرين )[5]، وقد نسب في الحدائق[6] ذلك الى مختلف العلّامة، يعني أن العلامة(قده) في المختلف تمسّك بهذه الآية لإثبات الوجوب، ومَن استند الى هذه الآية الكريمة السيد الخوئي(قده) في المعتمد[7] ولكنّه لم يذكر تقريب الدلالة على الوجوب وسياتي منه(قده) ذلك ثانيةً في مسألة أن الصرورة هل يجب عليه الحلق بنحو التعيين أو هو مخيّر بين الحلق أو التقصير التمسك بهذه الآية الكريمة لإثبات التخيير لبيانٍ يأتي فيما بعد ولكن هنا يراد إثبات أصل الوجوب في الجملة ولكنّ لم يقرّب الدلالة.
وأنت كما ترى:- فإن الآية الكريمة لا دلالة لها على الوجوب وإنما هي تُخبر على أنهم سوف يدخلون المسجد الحرام انشاء الله آمنين خلافاً لما حصل لعمرة الحديبية حيث صُدّوا ومُنِعوا من أداء الحجّ أو العمرة فالآية الكريمة أخبرت بأنكم سوف تدخلون المسجد الحرام وبعضكم محلّق وبعضكم مقصّر أما أن هذا واجب فلا دلالة لها على ذلك . إذن التمسك بهذه الآية محلّ تأمّل واضح، ومن الغريب أنه(قده) لم يذكر تقريباً فالتخيير سوف يأتي بأن الآية الكريمة قالت ( أو ) ما أصل الوجوب فالآية الكريمة أجنبية عن إثباته.
والأجدر التمسك بالوجهين التاليين:-
الوجه الأول:- السيرة بالبيان التالي - وأنا فيما سبق قلت إن السيرة لا يمكن التمسك بها ولكن الآن أوجّه السيرة ببيانٍ يمكن من خلاله التمسك بها - وهو أن المسلمين قبلعصر الشيخ الطوسي - وحديثنا مع الشيخ الطوسي - أي في زمان المعصوم كانت منعقدة بلا إشكال على الإتيان بالحلق أو التقصير وهذه قضيّة لم يشكك فيها أحد، وحينئذٍ نقول إن فعلهم هذا فيه ثلاثة احتمالات:-
الاحتمال الأول:- أنهم كانوا يأتون به بداعي الاستحباب فهناك ارتكاز للاستحباب لا الوجوب.
الاحتمال الثاني:- أن يكون اتيانهم بذلك ليس بنحو الاستحباب طرّاً وجميعاً بل كانت شريحة منهم تأتي به بنحو الاستحباب وشريحة أخرى كانت تأتي به بنحو الوجوب.
الاحتمال الثالث:- إن الجميع كانوا يأتون بذلك بداعي الوجوب وبارتكاز الوجوب.
فالاحتمالات ثلاث لا رابع لها، وإذا بطل الاحتمالان الأوّلان ثبت بذلك الاحتمال الثالث وهو المطلوب.
أما أن الاحتمال الأول باطل:- فإنه احتمالٌ بعيد في حدّ نفسه ويكاد أن يحصل للفقيه الاطمئنان ببطلانه فإنهم إذا كانوا يأتون به بداعي الاستحباب جميعاً فكيف حصل هذا التغيّر بعد ذلك للمسلمين وللفقهاء بعد عصر الشيخ الطوسي رغم أنهم كانوا يأتون به بنيّة الوجوب فهذا التحوّل شيءٌ بعيد لأن لازم اتيانهم به جميعاً بنيّة الاستحباب أن ذلك أمرٌ واضحٌ والتغيّر في الأمر الواضح وانقلابه بعد ذلك من الاستحباب الى الوجوب شيءٌ بعيدٌ وإن كان حاصلاً لنقله التاريخ فإن ذلك ظاهرة مهمّة فنفس التغيّر هو ظاهرة مهمّة تستدعي النقل وعدم النقل يحصّل للفقيه الاطمئنان بأن هذا الاحتمال باطل.
وأما أن الاحتمال الثاني باطل:- فباعتبار أن الاختلاف بين المسلمين لو كان ثابتاً لنقل والحال أنه لم ينقل التاريخ والحديث أن هناك خلافاً بين المسلمين في قضيّة الحلق والتقصير وأن بعضاً كان يقول كذا وبعضاً كان يقول كذا فعدم نقل الخلاف يورث الاطمئنان بأنه لم يكن هناك خلاف في المسألة، مضافاً الى أنه لو كان هناك خلاف فلابد وأن ينعكس على أسئلة الرواة فالرواة لابد وأن يسألوا من الأئمة عليهم السلام ( بأن الحلق والتقصير لازمٌ أو ليس بلازمٍ ؟ وهل يجوز تركه أو لا ؟ ) مادام هناك رأي على الساحة يرى بأنه مستحب فإن هذا يستدعي التساؤل . إذن يحصل بذلك الاطمئنان أيضاً ببطلان هذا الاحتمال الثاني وبذلك يثبت الاحتمال الثالث وهو المطلوب.
وهذه طريقة ظريفة لو تمّت كبراها ويمكن أن نستعين بها في مجالات أخرى ولكن ضمن هذه الشروط وهذه الأرضيّة الخاصّة كما أشرنا.
هذا كلّه بالنسبة الى الوجه الأوّل وهو وجهٌ وجدانيٌّ مرجعه الى حصول الاطمئنان لدى الفقيه بأن المسلمين كانوا يأتون به بداعي الوجوب، وواضح أن هناك مقدّمة مضمرة لم أذكرها لوضوحها وهي أنه مادام المسلمون يأتون به بداعي الوجوب فمن أين وصل لهم ذلك ؟ إنه وصل إليهم من المعصوم حتماً وإلا فلا يحتمل أنه حصل فجأةً وعبثاً.
الوجه الثاني:- الأخبار الخاصّة في هذه المسألة، ولا أقصد بذلك الأخبار البيانيّة كما تمسك بذلك صاحب المدارك فإن كون الخبر في مقام البيان أعم من كونه لبيان الواجب بالخصوص أو الواجب والمستحب فإن البيان يعني بيان ما هو المشروع في الشريعة والمشروع لا يختص بالواجب فدعوى أن ظاهر الأخبار البيانيّة هو الوجوب في كل ما يفعله المعصوم إلا ما خرج بالدليل عهدتها على مدّعيها وإنما نتمسك بأخبارٍ أخرى من قبيل صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام:- ( قال:- إذا أحرمت فعقّصت شعر رأسك أو لبّدته فقد وجب عليك الحلق وليس لك التقصير وإن أنت لم تفعل فمخيّر لك التقصير والحلق في الحجّ أفضل وليس في المتعة إلا التقصير )[8] وموضع الشاهد هو ( إذا أحرمت ... فقد وجب عليك الحلق ) فإنه يدلّ على أن المكلف مخيّر بين الحلق والتقصير ولابد وأن يأتي بأحدهما ولكن عند التلبيد أو التعقيص يكون الواجب عليه هو الحلق بعد ضمّ ضميمة وهي أن كلمة ( وجب ) تدلّ على الإلزام لا بمعنى ( ثبت ) التي هي أعمّ من اللزوم والاستحباب فدعوى الظهور في ذلك شيءٌ قريب، وصحيحة سعيد الأعرج في حديث:- ( أنه سأل أبا عبد الله عليه السلام عن النساء، فقال:- إن لم يكن عليهنَّ الذبح فليأخذن من شعورهنّ ويقصّرن من أظفارهن )[9] فإن قوله عليه السلام ( فليأخذن من شعورهن ) هو أمرٌ فإن اللام في ( ليأخذن ) هي لام الأمر فيستفاد منها الإلزام، اللهم إلا أن تُبرِز قرينة على الإجمال وهي قوله عليه السلام ( ويقصّرن من أظفارهن ) فإنه لا يلزم الجمع بين الأمرين - أي الأخذ من الشعر وبين التقصير من الاظفار - بناءً على عدم لزوم ذلك فربما هذا يشكّل قرينةً على العكس، وصحيحة هشام بن سالم:- ( قال أبو عبد الله عليه السلام:- إذا عقّص الرجل رأسه أو لبّده في الحجّ أو العمرة فقد وجب عليه الحلق )[10]، ودلالتها كالرواية الأولى، ونحو ذلك بقيّة الروايات في الباب.
هذا كله بالنسبة إثبات أصل الوجوب.
الحلق والتقصير
وهو الواجب[1] السادس من واجبات الحج . ويعتبر فيه قصد القربة وايقاعه في النهار على الأحوط من دون فرق بين العالم والجاهل . والأحوط تأخيره عن الذبح والرمي ولكن لو قدمه عليهما أو على الذبح نسياناً أو جهلاً منه بالحكم أجزأه ولم يحتج الى الاعادة.
يشتمل المتن المذكور على عدة نقاط:-
النقطة الأولى:- وهي في إثبات وجوب الحلق أو التقصير في مقابل كونه سنّةً وأمراً ليس بواجب فنريد أن نثبت أصل الوجوب . والكلام في ذلك تارةً يقع من حيث الفتوى وأخرى من حيث المستند:-
أما من حيث الفتوى:- فالمعروف بين الفقهاء هو الوجوب ولكن قد يظهر الخلاف من الشيخ الطوسي(قده) في تبيانه وأن ذلك سنّة وقد أشرنا الى ذلك عند البحث في الواجب الأوّل من واجبات منى في اليوم العاشر - أعني رمي جمرة العقبة - فإنه هناك ذكرنا أن الشيخ الطوسي(قده) يظهر منه الخلاف حتى بالنسبة الى جمرة العقبة وأنه سنّة وعبارته في التبيان هكذا:- ( ومناسك الحج تشتمل على المفروض والمسنون والمفروض يشتمل على الركن وغير الركن ...... والمسنونات:- الجهر بالتلبية واستلام الحجر وأيّام منى ورمي الجمار والحلق أو التقصير ....)[2] . إذن هو قد عدّ الحلق والتقصير من جملة مسنونات الحج، وقد تقدّم أيضاً من ابن إدريس(قده) في السرائر محاولة تفسير المسنون بما كان مشرّعاً من قبل النبي صلى الله عليه وآله فإن هذا مصطلح في الروايات فمصطلح الفريضة يطلق على الواجب من قِبَل الله عز وجل والسنّة هي الواجب والتشريع من قبل الرسول فإن الرسول كانت له سلطة تشريعية فهو قد شرّع ذلك فحمل ابن ادريس السنّة على ذلك وبناءّ على هذا يجتمع الوجوب مع كون الشيء مسنوناً فإنه واجبٌ ولكنه بوجوبٍ من قبل الرسول صلى الله عليه وآله وليس بوجوبٍ من قبل الله عز وجل وقد تقدّم أن ما ذكره ابن إدريس وقع محلاً للخلاف وهل هو شيءٌ مقبولٌ وصحيحٌ أو لا.
وعلى أي حال لعلّ هناك بعض القرائن تُبعِّد إرادة هذا المعنى من قبيل أنه(قده) عَدَّ من جملة المسنونات الجهر بالتلبية واستلام الحجر فإن هذه من المستحبات جزماً . إذن هذا قد يُبعِّد مثل هذا الحمل، ولأجل هذا يصعب ان نقول بأن المسألة اجماعية - يعني الوجوب مع الاجماع ولا خلاف فيه - ولا أقل شبهة الخلاف موجودة من قبل الشيخ الطوسي(قده).
قال في المدارك:- ( المعروف من مذهب الأصحاب أن الحلق والتقصير نسكٌ واجبٌ بل قال في المنتهى أنه قول علمائنا أجمع . ونقل عن الشيخ في التبيان قال إن الحلق أو التقصير مندوب غير واجب . وهو نادرٌ مردودٌ بفعل النبي صلى الله عليه وآله الواقع في مقام البيان والأوامر الكثيرة الواردة بذلك عن أئمة الهدى صلوات الله عليهم )[3] . إذن صاحب المدارك ذكر أوّلاً أن ما ذهب إليه الشيخ الطوسي نادر - يعني أنه لم يوافقه الفقهاء على ذلك فهو ليس رأياً معروفاً بل هو نادر - وهذا الرد ليس بمهم -، ثم ردّه بردين، الردّ الأوّل إن هذا مردود بفعل النبي صلى الله عليه وآله في الأخبار البيانيّة فإنه كان يأتي بالحلق والتقصير وهو كان في مقام البيان فهذه أخبار بيانيّة تبيّن كيفية الحج . وكأنه توجد مقدمة مضمرة في كلام صاحب المدارك(قده) وهي أنه كل ما يؤتى به في الأخبار البيانيّة مادام هي في مقام البيان فهو حينئذٍ يراد به الوجوب إلا أن تقوم قرينة على الخلاف وقد قلنا إن هذا الأصل الأوّلي – الظهور الأوّلي - هو ما ذهب إليه السيد الخوئي(قده) . إذن جذوره موجودة في كلمات الأصحاب ومنهم صاحب المدارك(قده)، والرد الثاني هو الأوامر المتكثرة التي تأمر بالحلق والتقصير، وهذه قضية سوف نلاحظها فيما بعد.
وقريب منه ما أفاده صاحب الجواهر(قده)[4].
اذن النتيجة من حيث الفتوى هي أن المسألة يشكل تحصيل اجماع واتفاق فيها على وجوب التقصير أو الحلق.
وأما من حيث المستند:- فقد اتضح أنه لا يمكن التمسك بالإجماع لأن انعقاد الإجماع أمر لم يثبت بعد احتمال مخالفة الشيخ الطوسي وهو واحدٌ كألف.
ومن هذا يتضح أيضاً الاشكال في التمسك بالسيرة أو بالأحرى بالارتكاز المتشرعي فإن السيرة وحدها لا تنفع فهي أعمّ من الوجوب ولكنّ المقصود هو السيرة الناشئة عن ارتكاز الوجوب فهذا أيضاً يشكل التمسك به باعتبار أن هذا الارتكاز كيف ندّعي أنه ثابتٌ والحال أن الشيخ الطوسي الذي هو واحدٌ كألفٍ ليس عنده هذا الارتكاز ومخالفٌ في المسألة فدعوى السيرة الناشئة من الارتكاز يصعب القول بها.
وقد يستدل على ذلك بقوله تعالى:- ( لتدخلنّ المسجد الحرام إنشاء الله آمنين محلّقين رؤوسكم ومقصّرين )[5]، وقد نسب في الحدائق[6] ذلك الى مختلف العلّامة، يعني أن العلامة(قده) في المختلف تمسّك بهذه الآية لإثبات الوجوب، ومَن استند الى هذه الآية الكريمة السيد الخوئي(قده) في المعتمد[7] ولكنّه لم يذكر تقريب الدلالة على الوجوب وسياتي منه(قده) ذلك ثانيةً في مسألة أن الصرورة هل يجب عليه الحلق بنحو التعيين أو هو مخيّر بين الحلق أو التقصير التمسك بهذه الآية الكريمة لإثبات التخيير لبيانٍ يأتي فيما بعد ولكن هنا يراد إثبات أصل الوجوب في الجملة ولكنّ لم يقرّب الدلالة.
وأنت كما ترى:- فإن الآية الكريمة لا دلالة لها على الوجوب وإنما هي تُخبر على أنهم سوف يدخلون المسجد الحرام انشاء الله آمنين خلافاً لما حصل لعمرة الحديبية حيث صُدّوا ومُنِعوا من أداء الحجّ أو العمرة فالآية الكريمة أخبرت بأنكم سوف تدخلون المسجد الحرام وبعضكم محلّق وبعضكم مقصّر أما أن هذا واجب فلا دلالة لها على ذلك . إذن التمسك بهذه الآية محلّ تأمّل واضح، ومن الغريب أنه(قده) لم يذكر تقريباً فالتخيير سوف يأتي بأن الآية الكريمة قالت ( أو ) ما أصل الوجوب فالآية الكريمة أجنبية عن إثباته.
والأجدر التمسك بالوجهين التاليين:-
الوجه الأول:- السيرة بالبيان التالي - وأنا فيما سبق قلت إن السيرة لا يمكن التمسك بها ولكن الآن أوجّه السيرة ببيانٍ يمكن من خلاله التمسك بها - وهو أن المسلمين قبلعصر الشيخ الطوسي - وحديثنا مع الشيخ الطوسي - أي في زمان المعصوم كانت منعقدة بلا إشكال على الإتيان بالحلق أو التقصير وهذه قضيّة لم يشكك فيها أحد، وحينئذٍ نقول إن فعلهم هذا فيه ثلاثة احتمالات:-
الاحتمال الأول:- أنهم كانوا يأتون به بداعي الاستحباب فهناك ارتكاز للاستحباب لا الوجوب.
الاحتمال الثاني:- أن يكون اتيانهم بذلك ليس بنحو الاستحباب طرّاً وجميعاً بل كانت شريحة منهم تأتي به بنحو الاستحباب وشريحة أخرى كانت تأتي به بنحو الوجوب.
الاحتمال الثالث:- إن الجميع كانوا يأتون بذلك بداعي الوجوب وبارتكاز الوجوب.
فالاحتمالات ثلاث لا رابع لها، وإذا بطل الاحتمالان الأوّلان ثبت بذلك الاحتمال الثالث وهو المطلوب.
أما أن الاحتمال الأول باطل:- فإنه احتمالٌ بعيد في حدّ نفسه ويكاد أن يحصل للفقيه الاطمئنان ببطلانه فإنهم إذا كانوا يأتون به بداعي الاستحباب جميعاً فكيف حصل هذا التغيّر بعد ذلك للمسلمين وللفقهاء بعد عصر الشيخ الطوسي رغم أنهم كانوا يأتون به بنيّة الوجوب فهذا التحوّل شيءٌ بعيد لأن لازم اتيانهم به جميعاً بنيّة الاستحباب أن ذلك أمرٌ واضحٌ والتغيّر في الأمر الواضح وانقلابه بعد ذلك من الاستحباب الى الوجوب شيءٌ بعيدٌ وإن كان حاصلاً لنقله التاريخ فإن ذلك ظاهرة مهمّة فنفس التغيّر هو ظاهرة مهمّة تستدعي النقل وعدم النقل يحصّل للفقيه الاطمئنان بأن هذا الاحتمال باطل.
وأما أن الاحتمال الثاني باطل:- فباعتبار أن الاختلاف بين المسلمين لو كان ثابتاً لنقل والحال أنه لم ينقل التاريخ والحديث أن هناك خلافاً بين المسلمين في قضيّة الحلق والتقصير وأن بعضاً كان يقول كذا وبعضاً كان يقول كذا فعدم نقل الخلاف يورث الاطمئنان بأنه لم يكن هناك خلاف في المسألة، مضافاً الى أنه لو كان هناك خلاف فلابد وأن ينعكس على أسئلة الرواة فالرواة لابد وأن يسألوا من الأئمة عليهم السلام ( بأن الحلق والتقصير لازمٌ أو ليس بلازمٍ ؟ وهل يجوز تركه أو لا ؟ ) مادام هناك رأي على الساحة يرى بأنه مستحب فإن هذا يستدعي التساؤل . إذن يحصل بذلك الاطمئنان أيضاً ببطلان هذا الاحتمال الثاني وبذلك يثبت الاحتمال الثالث وهو المطلوب.
وهذه طريقة ظريفة لو تمّت كبراها ويمكن أن نستعين بها في مجالات أخرى ولكن ضمن هذه الشروط وهذه الأرضيّة الخاصّة كما أشرنا.
هذا كلّه بالنسبة الى الوجه الأوّل وهو وجهٌ وجدانيٌّ مرجعه الى حصول الاطمئنان لدى الفقيه بأن المسلمين كانوا يأتون به بداعي الوجوب، وواضح أن هناك مقدّمة مضمرة لم أذكرها لوضوحها وهي أنه مادام المسلمون يأتون به بداعي الوجوب فمن أين وصل لهم ذلك ؟ إنه وصل إليهم من المعصوم حتماً وإلا فلا يحتمل أنه حصل فجأةً وعبثاً.
الوجه الثاني:- الأخبار الخاصّة في هذه المسألة، ولا أقصد بذلك الأخبار البيانيّة كما تمسك بذلك صاحب المدارك فإن كون الخبر في مقام البيان أعم من كونه لبيان الواجب بالخصوص أو الواجب والمستحب فإن البيان يعني بيان ما هو المشروع في الشريعة والمشروع لا يختص بالواجب فدعوى أن ظاهر الأخبار البيانيّة هو الوجوب في كل ما يفعله المعصوم إلا ما خرج بالدليل عهدتها على مدّعيها وإنما نتمسك بأخبارٍ أخرى من قبيل صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام:- ( قال:- إذا أحرمت فعقّصت شعر رأسك أو لبّدته فقد وجب عليك الحلق وليس لك التقصير وإن أنت لم تفعل فمخيّر لك التقصير والحلق في الحجّ أفضل وليس في المتعة إلا التقصير )[8] وموضع الشاهد هو ( إذا أحرمت ... فقد وجب عليك الحلق ) فإنه يدلّ على أن المكلف مخيّر بين الحلق والتقصير ولابد وأن يأتي بأحدهما ولكن عند التلبيد أو التعقيص يكون الواجب عليه هو الحلق بعد ضمّ ضميمة وهي أن كلمة ( وجب ) تدلّ على الإلزام لا بمعنى ( ثبت ) التي هي أعمّ من اللزوم والاستحباب فدعوى الظهور في ذلك شيءٌ قريب، وصحيحة سعيد الأعرج في حديث:- ( أنه سأل أبا عبد الله عليه السلام عن النساء، فقال:- إن لم يكن عليهنَّ الذبح فليأخذن من شعورهنّ ويقصّرن من أظفارهن )[9] فإن قوله عليه السلام ( فليأخذن من شعورهن ) هو أمرٌ فإن اللام في ( ليأخذن ) هي لام الأمر فيستفاد منها الإلزام، اللهم إلا أن تُبرِز قرينة على الإجمال وهي قوله عليه السلام ( ويقصّرن من أظفارهن ) فإنه لا يلزم الجمع بين الأمرين - أي الأخذ من الشعر وبين التقصير من الاظفار - بناءً على عدم لزوم ذلك فربما هذا يشكّل قرينةً على العكس، وصحيحة هشام بن سالم:- ( قال أبو عبد الله عليه السلام:- إذا عقّص الرجل رأسه أو لبّده في الحجّ أو العمرة فقد وجب عليه الحلق )[10]، ودلالتها كالرواية الأولى، ونحو ذلك بقيّة الروايات في الباب.
هذا كله بالنسبة إثبات أصل الوجوب.