39/03/02
تحمیل
الأستاذ الشيخ باقر الايرواني
بحث الأصول
39/03/02
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع:- حجية القطع - مبحث القطع والأمارات والأصول العملية.
الاحتمال الثاني:- وهو منجّزية القطع من باب الحكم العقلي
وهذا المسلك يمكن توجيهه بثلاثة بيانات:-
البيان الأوّل:- أن يقال: إنَّ القطع بالحكم يكون منجزاً ، يعني يجب السير على ضوء القطع من باب أنه لو لم يسر المكلف على طبق ما قطع به من الحكم يلزم من ذلك ظلم المولى وهتك احترامه ، ونبني على أنَّ ظلم الغير - أعم من كونه مولىً أو لا - هو قبيح بحكم العقل ، أي أنَّ العقل يدرك قبح الظلم بلا حاجة إلى أن ندخل فكرة العقلاء كما كان يصنع الشيخ الأصفهاني وإلا كان هذا راجع إلى المسلك الأوّل[1] .
وقد قلنا إنّ المقصود بحكم العقل بقبح الظلم هو الادراك لا أنه هو الذي يحكم وإنما هو يستكشف وإلا يلزم أنه قبل خلق العقل لا قبح للظلم ، وهذا لا يمكن لالتزام به فإنَّ الظلم قبيح حينما كان الله تعالى ولم يكن معه شيء خُلِقَ العقل أو لم يخلق.
البيان الثاني:- أن نقول إنَّ القطع بالحكم هو منجّز من باب أنه يحصل بالقطع انكشاف ، بل القطع هو عين الانكشاف ، وإذا انكشف الواقع وثبوت الحكم في الواقع فالعقل بعد تحقق الانكشاف وازاحة الستار بسبب القطع يحكم بلزوم العمل على طبق هذا الحكم المقطوع من دون دخال مسألة قبح الظلم في الحساب وإلا كان هذا عين البيان الأوّل ، فمن دون إدخال مسألة قبح الظلم نقول إنه بعد أن كشف الواقع وازيح الستار عنه وعلمنا بأن الثابت في الواقع كوجوب الصلاة أو حرمة الخمر فالعقل يحكم بالمنجّزية ولزوم الامتثال من دون ادخال مسألة قبح الظلم في الحساب ، إذ المفروض أنه قد تحقق الانكشاف.
ومن الواضح أنه لابد من أن نفسّر الحكم هنا بمعنى الادراك والكشف ، فكما فسّرناه في الأوّل فهنا أيضاً كذلك ، وهذا الاحتمال ربما يلوح من صاحب الكفاية(قده) في بداية بحث القطع حيث قال ما نصه:- ( لا شبهة في وجوب العمل على وفق القطع عقلاً ولزوم لحركة على طبقه جزماً وكونه موجباً لتنجّز التكليف ...... وتأثيره في ذلك لازم وصريح الوجدان به شاهد وحاكم )[2] ، إنَّ هذه العبارة ربما يلوح منها أنَّ الوجدان ابتداءً يحكم بمجّزية القطع من دون ادخال مسألة قبح الظلم في الحساب ، ولعلّ الموجود في أذهاننا هو هذا ، يعني إذا سألنا سائل وقال أنا انكشف لي الواقع وقطعت بأنَّ الشيء الفلاني واجب أو حرام فنقول له إذا انكشف لك الواقع فيلزمك السير على طبقه من باب أنَّ العقل يحكم بالسير على طبق الواقع إذا انكشف ، وهذا ليس فيه ادخال مسألة حسن العدل وقبح الظلم.
فإذن البيانان يشتركان في شيء ويختلفان في آخر ، فهما يشتركان في أنَّ حكم العقل بمعنى الكشف دون الحكم الابتدائي ، ويختلفان في أنَّ الأوّل يستعين بمسألة قبح الظلم أما الثاني فلا يستعين بها بل يقول إذا حصل الانكشاف فالوجدان - أي العقل - يقول لابد من العمل بلا إدخال مسألة قبح الظلم في الحساب.
الثالث:- وهو الذي ربما يظهر من الشيخ العراقي(قده)[3] ، وهو ما قد يخطر في أذهاننا ، وحاصله أن نقول: إنَّ العقل ابتداءً يحكم من دون مسألة الكشف ، فهو يحكم ويقول يلزمك أن تسير على طبق القطع لأنه قد انكشف لك الواقع لا بنحو الادراك والكشف وإنما هو يصدر جعلاً وحكماً.
والاشكال عليه واضح:- فإنَّ شأن العقل ليس شأن الحكم والتأسيس وإنما وظيفته الادراك ، فهو يدرك ما هو ثابت في لوح الواقع ، فحينما يقول العقل يلزمك أن تفعل ذلك فهذا اللزوم ثابت بقطع النظر عن العقل بل هو ثابت ووظيفة العقل هي الادراك والكشف دون الحكم الابتدائي فإنه يدرك ما ثبت لا أنه ثبت ما لم يكن ، وإلا كان لازمه أنه قبل خلق العقل أنَّ القطع ليس منجزاً ولا يجب السير على طبقة ، وهذا من البعيد أن يقول به أحد ، فإن القطع منجّز حتى قبل خلق العقل وقبل أن يخلق الله تعالى الإنسان لا أنه حينما خلق العقل سوف يثبت وإلا كان هذا كمسلك حكم العقلاء ويرد عليه نفس ما يرد على مسلك حكم العقلاء من أنه قبل خلق العقلاء يلزم أن يكون الحكم ليس بثابتٍ فهنا أيضاً إذا كان التنجيز حكماً للعقل لا بنحو الكشف فقبل خلق العقل لا يكون موجوداً وبالعقل توجد منجّزية القطع.
مضافاً إلى أنه واقعاً أنَّ دور العقل دائماً ليس هو دور الحاكم وإنما هو دور الكاشف في أيّ شيءٍ من الأشياء.
فإذن ما ذهب إليه لشيخ العراقي(قده) مرفوض فإنَّ دور العقل دور الكشف لا دور الحكم ابتداءً.
إذن نبقى نحن والبيانين الأوّلين ، والبحث عنهما سقماً وصحةً يرتبط ببيان المسلك الثالث وهو مسلك السيد الشهيد(قده) فحينما نبيّنه سوف يتبيّن الحال في هذين البيانين.
المسلك الثالث:- وهو مسلك حق الطاعة ، وهو ما بنى عليه السيد الشهيد(قده) ، حيث ذهب إلى شيءٍ آخر جديد وحاصل ما ذكره: هو أنَّ الأصوليين صنعوا شيئاً ليس بالصحيح فإنهم بحثوا مسألة حجية القطع - يعني تنجيز القطع - مستقلاً عن مولوية المولى ، والمولوية بمعنى حقّ الاطاعة[4] ، ففي علم الأصول في مسألة القطع لم يبحثوا أنَّ الله تعالى له مولوية علينا لكنهم بحثوها في علم الكلام ، فبحثت هذه المسألة منفصلة عن تلك المسألة سبّب التشويش ، وكان المناسب بحث المسألتين في موردٍ واحد ، يعني في نفس علم الأصول يشار إلى أنَّ الله تعالى له مولوية - أي حقّ الاطاعة - ، وهذا ليس بحثاً مطولاً حتى يقال إنه سوف يدخل علم الكلام في علم الأصول وسوف نقضي فترة طويلة في علم الكلام داخل علم الأصول ، كلا بل نقول باختصار إنَّ الله تعالى له المولوية علينا لأنه مالكنا وخالقنا وموجدنا فمن هذا الباب نقول إنَّ له حقّ الاطاعة علينا[5] وهذا المقدار مقبول ومن الأشياء المسلّمة ، فإذا قبلت أنَّ الله تعالى له حق الاطاعة علينا فإذن مسألة قبح الظلم لا نحتاج إليها لأنَّ النتيجة سوف تصير هي أنَّ القطع بحكم المولى منجّز ، وأنت حينما فرضت حكماً للمولى - أي حكم من تجب إطاعته - فأنت قد فرضت أنه تجب إطاعته فالتنجيز يكون ثابتاً بشكلٍ قهري لأنك افترضت أنه تجب طاعته ، وهذا كافٍ بلا حاجة إلى التمسّك بمسالة قبح الظلم كما صنع أصحاب المسلك الأوّل وأصحاب المسلك الثاني حيث تمسّكوا بمسألة قبح الظلم ولكن اختلفوا في أنَّ قبح الظلم هل هو عقلي أو عقلائي ، أما بناءً على هذا لا نحتاج إلى مسألة قبح الظلم ، فابتداء أنت قل إنه مادام مولى فأوتماتيكياً يصير القطع بحكمه منجّزاً[6] ، فمنجّزية القطع سوف تصير ثابتة بشكلٍ واضح من دون حاجة إلى الاستعانة بمسألة قبح الظلم ولا أي مسألة أخرى إنَّ ذلك تطويل بلا طائل ، بل فيه إشكال فنّي.