39/05/10
تحمیل
الأستاذ الشيخ باقر الايرواني
بحث الفقه
39/05/10
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع:- مسألة ( 45 ) بعض مستحبات التجارة - المكاسب المحرّمة.
ويردّه:-
أولاً:- إنَّ الطائفة الأولى - التي قال بأنها تدل على التحريم بل هي صريحة فيه ولا يمكن حملها على الكراهة - لا يمكن ابقاؤها على التحريم ، بل لابد من رفع اليد عن التحريم حتى ولو لم توجد الروايات المعارضة ، فلو كنّا نحن وهاتين الروايتين لكنّا نقول بعدم الحرمة ونرفع اليد عن ظاهرهما ، والوجه في ذلك:- هو أنه أما الرواية الثانية - يعني رواية زيد الشحّام التي ورد فيها ( الوضيعة بعد القعد حرام ) - فلا يمكن الالتزام بالحرمة فيها ، إذ المرفوض أنَّ البائع هو الذي تبرّع بوضع شيءٍ من الثمن والمشتري لم يطلب منه ذلك وإنما البائع بعد تمامية البيع وضع شيئاً من الثمن وهل يحتمل أحد أنَّ هذه الوضيعة وقبول هذا الاحسان حرام من جهة البائع حرام ؟!! كلا فإنَّ هذا غير مقبول ، فلاحظ الرواية حيث قالت :- ( أتيت أبا جعفر بجارية أعرضها عليه فجعل يساومني وأنا أساومه ثم بعتها إياه فضمن على يدي فقلت جعلت فداك إنما ساومتك لأنظر المساومة تنبغي أو لا تنبغي وقلت قد حططت عنك عشرة دنانير فقال: هيهات ألا كان هذا قبل الضمنة أما بلغك قول رسول الله صلى الله عليه وآله والوضيعة بعد الضمنة حرام ) ، فإذن هنا لا يمكن الالتزام بالحرمة ، ويبقى قول الرسول صلى الله عليه وآله في هذا المورد قد يحمل على الكراهة الشديدة فإنَّ المناسب هو ذلك إذا أمكن الحمل ، ووأما إذا لم يمكن هذا المعنى حيث يقال إنَّ هذا احسانٌ والاحسان محبّبٌ شرعاً فيردّ علمها إلى أهلها ، هذا هو المناسب فإنَّ الالتزام بالحرمة في موردها شيء غير ممكن.
أما بالنسبة إلى الرواية الأولى - وهي رواية إبراهيم الكرخي- ، فإنَّ الوارد فيها:- ( اشتريت لأبي عبد الله عليه السلام جارية فلما ذهبت انقدهم قلت: استحطهم[1] ؟ قال:- لا ، إنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله نهى عن الاستحطاط بعد الصفقة ) ، فإنه يمكن أن يقال:- إنَّ المفروض في طلب الحطّ هو طلبه لا بنحو الكره والإجبار - فإنَّ مفروضنا هو هذا - وإنما يقول لهم هل تحطّون عنّي عشرة دنانير مثلاً فإن قبلوا فبها وإن لم يقبلوا فلا ، وهل يحتمل حرمة ذلك ، فإنَّ هذا مجرّد طلب بنحو التخيير فأنا أخيّرهم في ذلك ؟ إنَّ الحرمة غير محتملة بالارتكاز والجزم المتشرعي ، ولذلك نكرّر ونقول: إنه لا يمكن أن يدخل أحد في الاستنباط من الروايات من دون أن تكون له يدٌ وارتكازات فهنا لو أتى وقال أنا أفهم من النصّ أنه حرام مطلقاً فنقول له إنَّ هذا غير صحيح فإنه توجد عندنا ارتكازات متشرّعية وهي أنَّ هذا لا يحتمل حرمته مادام بنحو التخيير ، نعم إذا كان بنحو الإجبار فهو حرام أما إذا كان بنحو التخيير فلا تحتمل حرمته ، نعم الكراهة لها مجال فإنَّ الكراهة معقولة ، أما أنه يعطيني من طيب نفسه فهذا لا تحتمل حرمته.
فإذن ابقاء هاتين الروايتين على ظاهرهما - وهو التحريم إذا كانتا ظاهرتين بالتحريم - شيء غير محتمل ولا يمكن الالتزام به ، فلا تصل النوبة إلى الجمع ، بل لا نحتاج إلى الجمع أصلاً ، لأنه من البداية لابد من حمل هاتين الرواية على الكراهة ولا يمكن حملهما على الحرمة حتى نقول إنَّ الطائفة الثانية معارضة لهما.
إذن الطائفة الأولى لا يمكن الالتزام بظاهرهما في الحرمة.
ثانياً:- إنه ذكر أنَّ الطائفة الثانية واردة في الهبة فيجمع بينهما بحمل الأولى على غير الهبة إذ لم تصرّح بالهبة بل على طلب الحطّ فهذا حرام فنبقيها على موردها ، أما الثانية المجوّزة فهي واردة في طلب الهبة والروايات جوّزت ذلك ، فنفصّل بين ما إذا كان طلب الحطّ بلسان الحطّ فهو حرام ، وأما إذا كان بنحو طلب الهبة فهذا جائز. هكذا صنعا.
ونحن نقول:- إنَّ هذا من باب الجمع بين الشيء ونفسه ، بمعنى أنَّ الحطّ يحصل بطريق الهبة ، فلو قلت ( حططت عنك عشرة ) يعني وهبت لك عشرة من الثمن ، أو أنَّ مرجع الحطّ إلى الابراء ، يعني ( ابرؤك عن عشرة ) ، فإذن لم يحصل الجمع بين الشيء ومغايره !! ، فلو أراد أن يجمع بحمل الأولى على الحطّ والثانية على المغاير وهو الهبة فلابد أن يكون بينهما تغاير ، بينما بناءً على ما أشرنا إليه يكون من باب الجمع بين الشيء ونفسه أو بعض أفراده ، وبالتالي سوف يصير جمعاً بين الشيء ونفسه أو الجمع بينه وبين بعض أفراده وهذا ليس جمعاً عرفياً وعقلائياً مقبولاً ، إنما الجمع المقبول هو الجمع بين الشيء ومغايره ، فإذن لا معنى للجمع المذكور بعد الالتفات إلى هذه النكتة.
ثالثاً:- إنَّ هذا الجمع لو تم فهو يتم بين الطائفة الأولى وبين الروايتين الأخيرتين من الروايات الثلاث في الطائفة الثانية حيث إنَّ الوارد فيهما التعبير بالهبة ، فنقول: إنَّ الطائفة الأولى ناظرة إلى حطّ قسمٍ من الثمن لكن لا بلسان الهبة ، والطائفة الثانية ناظرة إلى الهبة ، ولكن المفروض أنه توجد الرواية الأولى وهي ليس فيها لفظ ( الهبة ) بل فيها طلب الوضع ، يعني لسانها متّحد مع لسان الطائفة الأولى فهما ذا لسانٍ واحد ، فعلى هذا الأساس لا معنى للجمع هنا بالحمل على الهبة لأنه تبقى المعارضة مستقرة بين الطائفة الأولى وبين الرواية والأولى من الطائفة الثانية فإنَّ موردهما معاً هو الحطّ من الثمن بعد العقد والأولى تقول لا يجوز بينما الأولى من الطائفة الثانية تقول يجوز فلا معنى حينئذٍ للحمل على الهبة ، نعم الرواية الثانية والثالثة من الطائفة الثانية كان فهيما تعبير ( هبة ) فيوجد وجه للجمع بينهما أما الرواية الأولى من الطائفة الثانية فلا يوجد فيها لسان الهبة وطلب الهبة فلا معنى لحملها على الهبة ، ومجرّد كون الأخيرتين واردتان في الهبة ذلك لا يسوّغ حمل الرواية الأولى من الثلاث على الهبة بعدما فرض أنَّ لسانها متّحد مع لسان الطائفة الأولى ، وعليه فسوف تبقى المعارضة ولم نفعل شيئاً.
هذا ما يمكن أن يناقش به ما أفاده العلمان صاحب الحدائق(قده) والفيض الكاشاني(قده).
يبقى أنه ماذا نصنع نحن مع هاتين الطائفتين ؟
نقول:- يمكن أن يجاب بادئ الأمر بالجمع على الحمل بالكراهة كما صنع المشهور ، وذلك لوجهين:-
الأوّل:- التمسّك بفكرة القصور في المقتضي ، يعني نقول: إنَّ الطائفة الأولى التي يدّعى أنَّ ظاهرها التحريم لا يمكن الالتزام بمضمونها لما أشرنا إليه[2] ، فإذن الطائفة الأولى أصلاً لا يمكن الحكم بمضمونها ، فلا حرمة حتى نحتاج إلى جمعٍ بالحمل على الكراهة بل من البداية هناك قصور في مقتضي التحريم ، فلا يمكن الحكم بالحرمة من الأساس حتى نحتاج إلى الجمع.
ثانياً:- لو فرضنا أنَّ ظاهر الطائفة الأولى هو التحريم وأخذنا به فحينئذٍ نقول: حيث إنَّ الطائفة الثانية صريحة في الجواز فيمكن حمل الأولى على الكراهة.
أما الرواية الأولى: فجواز حملها على الكراهة ينبغي أن يكون شيئاً واضحاً ، لأنَّ الوارد فيها: ( قلت استحطهم ؟ قال: لا ، إنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله نهى عن الاستحطاط بعد الصفقة ) ، ولفظ ( نهى ) هنا يمكن حمله على الكراهة.
وأما الرواية الثانية - وهي رواية زيد الشحام - فصحيح أنه ورد التعبير فيها بالتحريم ولكن يمكن حمل كلمة ( حرام ) على الكراهة الشديدة في مقام الجمع فإنَّ هذا شيء مقبول عرفاً ، نعم في عرفنا هذا اليوم صار الحرام خاصاً بالحرام بالمعنى الأخص ولكن في ذلك الزمان من القريب أنَّ الحرام يطلق حتى على شديد الكراهة ، وإن كان الظاهر هو الحرمة بالمعنى الأخص ، ولكن ليس هناك صراحة حتى يقال لا يمكن الحمل على الكراهة ، فعند الاجتماع مع الطائفة الثانية المصرّحة بالجواز نحمل الحرام على الكراهة فإنه لا بأس به.
فالنتيجة لحد الآن هي كما قال المشهور من أنَّ طلب الحطّ بعد الصفقة وبعد انتهاء البيع مكروه.
لكن يبقى شيء أمامنا:- وهو أنَّ الطائفة الثانية ورد في الرواية الأولى منها أنِّ الراوي ينقل أنَّ الامام عليه السلام قال افعل لي ذلك ، حيث ورد أن معلة بن خنيس قال:- ( سالت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يشتري المتاع ثم يستوضع ؟ قال: لا بأس ، وأمرني فكلمت له رجلاً في ذلك ) ، يعني أنَّ الامام عليه السلام أمر بأنه افعل ذلك والامام هو أراد ذلك يعني اطلب من البائع أن يحطّ قسماً من الثمن والمعلّى يقول كلّمت له رجلاً يصنع ذلك ، وحينئذٍ يقال: بما أنَّ الامام عليه السلام لا يصنع المكروه فعلى هذا الأساس يصير الجمع بالحمل على الكراهة مشكلاً أيضاً من هذه الناحية.
ولكن يمكن أن يقال:- إنَّ نفس هذا العمل - يعني أن يقول الامام عليه السلام للمعلّى اذهب واصنع لي هذا - حتى لو كان مباحاً فهو مستبعدٌ من الامام عليه السلام حسب ما نعرفه من أخلاقهم ، فإذن لعلّ المراد شيء آخر ، فليس المقصود من ( أمرني فكلّمت رجلاً ) يعني أمرني بإجراء معاملة والحطّ من الثمن ، كلا وإنما أمرني بقضيّة أخرى غير تلك القضية وهو اجراء معاملة له مثلاً أو غير ذلك ، فعلى هذا الأساس يبقى الجمع بالحمل على الكراهة بقرينة الطائفة الثانية في محلّه ولا مانع منه.