39/05/12
تحمیل
الأستاذ الشيخ باقر الايرواني
بحث الفقه
39/05/12
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع:- مسألة ( 45 ) بعض مستحبات التجارة - المكاسب المحرّمة.
الأدب الخامس عشر:- كراهة الدخول في سوم الأخ المؤمن.
هذا الحكم ليس اتفاقياً ، بل قيل بالكراهة ، كما وقيل بالحرمة ، تبعاً للمباني في كيفية الاستفادة كما سوف يتضح ، وقد نقل صاحب الحدائق(قده) هذا الخلاف فقال:- ( اختلف الأصحاب في ذلك تحريماً وكراهة فذهب الشيخ وجماعة إلى التحريم والمشهور بين المتأخرين الكراهة )[1] .
أما مستند هذا الحكم:- فهو رواية المناهي ، وهي رواية مطوّلة منقولة في الفقيه حيث نقل أنه:- ( قال أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي الفقيه نزيل الرّي مصنّف هذا الكتاب أعانه الله على طاعته ووفقه لمرضاته روي عن شعيب بن واقد عن الحسين بن زيد عن الصادق جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام قال:- نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الأكل على الجنابة ........ ، ونهى أن يدخل الرجل في سوم أخيه المسلم )[2] .
وتوجد ملاحظة:- وهي أنَّ عبارة ( قال أبو جعفر محمد ) لمن هي ؟ من الواضح أنَّ الموجود في المكتبة الالكترونية الموجودة على الانترنيت هو:- ( قال أبو جعفر محمد بن الحسين ) ، ولكن الصحيح هو: ( قال أو جعفر محمد بن علي بن الحسين ) فيوجد سقط في العبارة حيث حذف ( عليّ ) منه ، وهذا مثل ما ذكرناه في المحاضرة السابقة حيث نقلنا عن صاحب الجواهر(قده) أنه قال ( وخوف الوقوع لا يوجب الحرمة ) فإنك لو راجعت النسخة الالكترونية لم تجد كلمة ( لا ) ولكنها موجودة في الكتاب ، فهنا أيضاً كلمة ( عليّ ) ساقطة والصحيح هو ( محمد بن عليّ بن الحسين ) ، فالرواية عن محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمّي نزيل الرّي.
ولمن هذا الكلام فهل الناقل عنه هو الذي يتكلّم ؟ قد يجعل الفقيه هذه العبارة قرينة على أنَّ القائل ليس هو نفس محمد بن علي بن الحسين ، كما يحتمل أن محمد بن علي بن الحسين هو الذي يقول وأنَّ كلمة ( الفقيه ) لا ترجعها إلى محمد بن علي بن الحسين وإنما ترجع إلى جدّه فهو يريد أن يصف جدّه بهذا الوصف ، والأمر سهل.
فإذن هذه نواهٍ متعددة وتستمر إلى عدّة صفحات ، فالمدرك إذن هو هذه الرواية.
وربما نقلت هذه الرواية بصيغ أخرى ولكن لا تغير المضمون وإنما هي زيادات أو نقيصة جزئية لا تؤثر شيئاً ، فنقلها النراقي(قده) في المستند:- ( لا يسوم الرجل على سوم أخيه ) [3] ، بينما الموجود في الفقيه ( نهى أن يدخل الرجل في سوم أخيه المسلم ) ، أما في المستدرك فالموجود هو ( نهى أن يساوم الرجل على سوم أخيه )[4] .
والمهم أنه هل هذا يدلّ على التحريم أو لا ؟
والجواب:- إنه مشكلٌ من ناحية السند والدلالة:-
أما السند:- فإنَّ الشيخ الصدوق(قده) لم يذكر سلسة السند وإنما قال ( عن شعيب بن واقد ) يعني أنه رُوِي عن شعيب بن واقد ونحن لا نعرف الراوي عنه فإنَّ الصدوق ليس من المعاصرين لشعيب بن واقد ، إلا اللهم تبني على أنَّ الشيخ الصدوق فقيه قد ذكر في مقدمة كتابه ( إني لا أروي إلا ما هو حجة بيني وبين ربي ) فحينئذٍ فلا مشكلة في ، وأما لو أننا ناقشنا فيه فهذه الرواية تكون مرسلة.
مضافاً إلى أنَّ شعيب بن واقد لا يوجد في حقه توثيق ، وكذلك الحسين بن زيد حيث تقدّم عندنا أنه لا يوجد في حقه توثيق إلا على أحد مبنيين ، فإما أن نبني على أنَّ أولاد الأئمة ثقاة جميعاً وهذا حفيد الامام السجاد عليه السلام فيكون ثقة ، أو نبني على أنه ورد في ترجمته أنه تبنّاه الامام الصادق عليه السلام وربّاه وزوّجه فهذا مثلاً قد يستفاد منه توثيقه ، فالمقصود هو أنَّ السند قابل للتأمل والتوقّف كما هو واضح.
وأما من حيث الدلالة:- فمبنانا يظهر أثره هنا ، لأنَّ كلمات ( نهى ) الواردة في الرواية كلّها إخبارية ، فإذا قلنا هي لا تدل على اللزوم لأنَّ غاية ما يستفاد منها أنَّ النهي قد صدر بصيغةٍ من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أما أنَّ تلك الصيغة كانت دالة على الحرمة أو دالة على الكراهة فلا نعرفه ، لأنَّ النهي قد يستعمل مع القرينة فيكون دالاً على الكراهة وقد يكون مجرّداً عن القرينة فيكون دالاً على الحرمة ، فعلى كلا التقديرين يصدق أنَّه نهى ، كما أنك لا تستطيع أن تقول: لو كان هذا حاصلاً لنقله الامام عليه السلام ، فنقول: كلا فإنه في مقام نقل صدور النهي ، فبناءً على هذا المبنى سوف نقع في مشكلة من هذه الناحية أيضاً ، فإذن لا يمكن أن نستفيد منها ذلك.
فإذن كلّ من السند والدلالة قابل للمناقشة ، ولكن حيث إنَّ الكراهة من الآداب وهي قابلة للتساهل فالحكم بالكراهة من باب التسامح في أسناد الآداب الشرعية شيء لا بأس به ، بل ربما يحتاط لأجل ذلك فإنَّ الذي يبني على أنَّ ( نهى ) تدل على الحرمة يحتاط لأجل ذلك إما وجوباً أو استحباباً ، وقد احتاط السيد الماتن(قده) استحباباً حيث قال ( والدخول في سوم المؤمن بل الأحوط تركه ).
فإذن القضية مرتبطة بالمباني ولكن الحكم بالكراهة من باب التسامح في أدلة السنن شيء لا بأس به.
وهناك القضية الأخرى نشير إليها:- هي أنه كيف يكون الدخول في سوم الآخر ؟
إنَّ ذلك له مصداقان:-
الأوّل:- ما هو موجود في أذهاننا ، وهو أن يأتي مشترٍ ثانٍ ويدخل على الخط قبل اعراض المشتري الأوّل فيحاول بذل ثمناً أكثر حتى يشتري السلعة من البائع.
الثاني:- أن يدخل بائعٍ آخر كما يحصل الآن مع الزوّار فيأتي شخص يريد أن بيع مسبحة مثلاً على الزوّار وفي الأثناء يأتي بائع آخر ويعرض مسبحته أيضاً على المشتري وبسعرٍ أقل فهذا أيضاً يصدق عليه أنهَّ دخول في سوم الأخ المؤمن .
فالدخول في سوم الأخ المؤمن قد يكون من طرف المشتري وقد يكون من طرف البائع ، فكلاهما يصدق عليه الدخول في سوم الأخ المؤمن ، والرواية باطلاقها تشمل ذلك لأنها قالت ( ونهى أن يدخل الرجل في سوم أخيه المسلم ).
بل بقطع النظر عن الاطلاق يمكن التمسّك بفكرة تنقيح المناط أو عدم الخصوصية ، فعرفاً لا يوجد فرقٌ سواء دخل مشترٍ ثانٍ بسعر أكثر أو دخل بائع ثانٍ بسعرٍ مخفّض فإنَّ كلتا الحالتين فيها نحوٌ من التجاوز على حق الغير - حق الأسبقية - ، فحتى لو فرض أنَّ النهي كان وارداً في الحالة الأولى يمكن بإلغاء الخصوصية فنتعدّى إلى الحالة الثانية ، ولكن يوجد عندنا إطلاق ، فإذن يمكن الحكم بهذا من ناحيتين الاطلاق وإلغاء الخصوصية.
وهناك قضية أخرى نلفت النظر إليها أيضاً:- وهي أنه متى يتحقق الدخول في السوم ويصدق الدخول في السوم ؟
والجواب:- إنَّ هذه قضية عرفية وليست شرعية ، فإن الشرع قال إنَّ هذا منهيّ عنه ، أما أنه متى يصدق إني دخلت في سوم أخي المؤمن ؟ ومن الواضح أنه ماداما هما بَعدُ في ترتيب المعاملة ولم تَرْسُ على شيءٍ ولم يحصل إِعراض من أحدهما فإنَّ هذا قدر متيقن من الدخول على سوم الأخ المؤمن ، ولكن نحن الآن نريد الحالة المقابلة وهي حالة عدم صدق الدخول على سومه ، فواحدة من الحالات هي أن يفترض أنَّ المشتري أعرض عن المعاملة فهنا لو جاء المشتري الآخر فلا يصدق أنه دخل على سوم أخيه المؤمن ، فلا كراهة لعدم صدق الدخول على سوم الأخ المؤمن هذا واضح ، أما الحالة الثانية فهي أن نفترض أنَّ المبيع معروض في المزاد فقال شخص أنا اشتريه بكذا ولا زال المزاد موجوداً على حاله فحينئذٍ إذا دخل شخص آخر وعرض سعراً أعلى من الأوّل فهل يكون هذا دخولاً على سوم الأخ المؤمن ؟ كلا ، وذلك من باب أنَّ القضية مبنيّة على أنه يتقدم أشخاص متعدّدون للشراء والمزاد بَعدُ لم يغلق ، نعم إذا أغلق المزاد وأنا جئت وقلت للبائع أنا أدفع ثمناً أكثر هذا يكون دخولاً على سوم الخ المؤمن ، أما لو فرض أن المزاد بِعدُ موجود فهذا لا يصدق عليه عنوان الدخول على سوم الأخ المؤمن ، وهناك حالة ثالثة وكلامنا يقع فيها وهي أن نفترض أني أعلم بأن المعاملة بين الطريفين سوف تتم ولكنهما بَعدُ على المعاملة ولم تنتهِ القضية فهنا هل يكون دخولي في المعاملة بعد علمي بأنهما لا يتفقان يصدق عليه أنه دخول على سوم الأخ المؤمن ؟ أجاب السيد الماتن(قده) بعدم الصدق ، ونصّ عبارته: ( والدخول في سوم المؤمن بل الأحوط تركه . والمراد به الزيادة في الثمن الذي بذله المشتري أو بذل مبيع له غير ما بذله البائع مع رجاء[5] تمامية المعاملة بينهما فلو انصرف أحدهما عنه أو عُلِم بعدم تماميتها بينهما فلا كراهة وكذا لو كان البيع مبنياً على المزايدة ).
ونحن نعلق ونقول:- إنه لا يبعد أن تكون هذه الحالة مشمولة للاطلاق ، لأنه بالتالي يصدق عنوان الدخول في سوم الأخ المؤمن.
إن قلت:- ولكن المفروض أننا نعلم أنَّ المعاملة سوف لا تتم بينهما وافترض أنَّ هذا العلم مطابقٌ للواقع ، فأيُّ موجبٍ آنذاك للكراهة ؟!!
قلت:- ما هو الموجب للكراهة ؟ فهل هو قضية الوقوف أمام المعاملة التي سوف تتم والحيلولة دون تحققها ؟ فإن كانت هذه هي النكتة فما أفيد وجيه وهي أنه الكراهة ترتفع ، ولكن يحتمل أن يكون موجب الكراهة هو أنَّ هذا خلقٌ سيء وليس بمحبّب فمادام الأخ المؤمن مشغولاً بالمعاملة فالدخول على معاملته يكون نحواً من الاهانة له وغير صحيح ، فإذا كان هذا الاحتمال وجيهاً فمن المناسب أن نأخذ بإطلاق النص.
فعلى هذا الأساس لا موجب لرفع اليد عن اطلاق النص بعد احتمال أن تكون نكتة الكراهة ما أشرنا إليه ، فالمناسب إذن أنَّ الكراهة ترتفع في حالتين ، في حالة الاعراض ، وفي حالة بقاء القضية على المزايدة ، أما مثل الحالة الثالثة فالمناسب هو الكراهة فيها.