34-06-13
تحمیل
الأستاذ الشيخ باقر الايرواني
بحث الفقه
34/06/13
بسم الله الرحمن الرحیم
الموضـوع:- مسألة ( 378 ) / الواجب الرابع من واجبات حج التمتع ( أفعال منى في اليوم العاشر ) / حج التمتع / مناسك الحج للسيد الخوئي(قد).
وأما بالنسبة إلى وصف الملتقطة:- فالوارد في الرواية ليس ذلك - أي ليس استحباب أن تكون ملتقطة - وإنما الوارد هو النهي عن التكسير كما في رواية أبي بصير حيث جاء فيها:- ( التقط الحصى ولا تكسِّرن منه شيئاً ) إن هذه تنهى عن التكسير ومن المعلوم إن النهي عن التكسير لا يدلّ على أنه لو خالف المكلف النهي المذكور وكسَّر فالرمي بما كسَّره يكون مكروهاً وأن المستحب هو الرمي بغير المكسورة ، كلا لا ملازمة بين المطلبين فغاية ما يستفاد هو النهي عن كسر الحصاة أما أنه يكره الرمي بما كان مكسوراً أو يستحب بما كان غير مكسور وملتقطاً بنفسه فهذا لا يستفاد من الرواية المذكورة والأمر سهل.
بقي شيء:- وهو أن الروايات المذكورة بعدما دلت على الصفات المذكورة من قبيل ( لا تأخذها سوداء ولا بيضاء ولا حمراء .... ) فهذه الأوامر أو النواهي بعد أن تمت دلالتها حسب الفرض كيف نحملها على الكراهة أو على الاستحباب والحال إن ظاهرها هو الوجوب والمفروض أنه لا توجد روايات معاكسة حتى تصير سبباً لحمل هذه الروايات على الاستحباب أو الكراهة ؟ إنه سؤال يحتاج إلى جواب ولابد وأن نبرز ما يصحح الحمل على الاستحباب أو الكراهة.
وفي هذا المجال إما أن يستند إلى الإجماع ويقال إن إجماع الفقهاء على عدم لزوم اتصاف الحصيات بهذه الأوصاف هو الذي يصير سبباً لرفع اليد عن ظاهر هذه الروايات - يعني بتعبير آخر هجران الأصحاب لظاهرها في الإلزام وحينئذ نرفع اليد عن الإلزام - ولكن لا مانع من الأخذ بالكراهة أو الاستحباب.
أو يقال إن هناك سيرة قطعيّة بين المسلمين على عدم مراعاة هذه الصفات في الحصاة وهذه سيرة قطعية مستمرة إلى الصدر الأوّل فيثبت بذلك أن مراعاة هذه الصفات ليست قضية إلزاميّة.
أو يقال إن المسألة حيث إنها ابتلائية فيلزم أن يكون حكمها واضحاً فلو كان يلزم في الحصيات أن تكون واجدة لهذه الصفات فحيث إن هذه قضية ابتلائية فيلزم أن يكون الحكم الشرعي باللزوم واضحاً وبالتالي يلزم أن ينعكس ذلك على فتوى الأصحاب - أي يفتون أجمع أو لا أقل المشهور بالوجوب - لا أن يفتون على الخلاف وأنه لا يلزم بل يستحب أو يكره فهذا يولّد القناعة الكافية للفقيه بأن الحكم الواضح بين المسلمين ليس هو اللزوم بل هو الاستحباب أو الكراهة ، وهذه نكتة ظريفة يجدر الالتفات إليها.
هذا كله بالنسبة إلى الصفات التي يستحب أن تتصف بها الحصاة.
وأما بالنسبة إلى وصف كون الرامي ماشياً بمعنى راجلاً:- وهذا أيضاً من أحد التعابير الفقهية التي تشتمل على المسامحة فإن من يقرأ هذه العبارة يفهم أنه يستحب أن يرمي وهو ماشياً لا أن يقف ويرمي ولكن المقصود ليس هذا وإنما المقصود من المشي هنا هو ما يقابل الركوب وقد وقعت مسامحة في التعبير والأمر سهل.
وقد وردت في هذا المجال طائفتان من الرايات طائفة دلت على أن بعض الأئمة عليهم السلام كانوا يرمون وهم ركوب ، وفي المقابل وردت روايات أخرى دلَّ بعضها على أن النبي صلى الله عليه وآله كان يرمي ماشياً فلنقرأ هذه الروايات حتى نرى كيفية الجمع بينها:-
أما الطائفة الأولى:- فهي من قبيل صحيحة عبد الرحمن ابن أبي نجران:- ( أنه رأى أبا الحسن الثاني عليه السلام رمى الجمار وهو راكب حتى رماها كلها )
[1]
، وصحيحة أحمد بن محمد بن عيسى:- ( أنه رأى أبا جعفر الثاني عليه السلام رمى الجمار راكباً )
[2]
، ومرسلة بعض أصحابنا عن أحدهم عليهم السلام في رمي الجمار:- ( أن رسول الله صلى الله عليه وأله رمى الجمار راكباً على راحلته )
[3]
، هذا هو مهم روايات الطائفة المذكورة.
وأما روايات الطائفة الثانية:- فأهمها صحيحة علي بن جعفر عن آبائه عليهم السلام:- ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله يرمي الجمار ماشياً )
[4]
.
ولأجل اختلاف هذه الروايات اختلف الفقهاء ، فقال الشيخ النراقي(قده):- ( واختلفوا في الأفضل منهما فعن المشهور أفضلية المشي وعن المبسوط وفي السرائر أفضلية الركوب في هذه الجمرة )
[5]
، وذهب صاحب الحدائق
[6]
إلى التخيير ووجهه واضح حيث إن بعض الروايات تدل على أنهم فعلوا الرمي مع الركوب والبعض دلّ على أنهم فعلوه مع المشي وهذا الاختلاف يدلّ على أن القضيّة مخيّرة.
هذا ولكن قد يوجّه استحباب المشي بالبيان التالي:- إن صحيحة علي بن جعفر التي هي من الطائفة الثانية عبّرت بكلمة ( كان ) حيث قالت ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله يرمي الجمار ماشياً ) وكلمة ( كان ) لا يبعد أن يستفاد منها أن ذلك هو الحالة العامَّة له صلى الله عليه وآله لا أنها قضيَّة اتفاقية فحينما يقال ( كان يرمي هكذا ) أي هكذا كانت طريقته وسيرته ومادام كان ملتزماً بهذا النحو فهذا يدلّ على الاستحباب ولا ينافي ذلك فعل الأئمة عليهم السلام الذي دلت عليه تلك الروايات وأنهم رموا وهم ركوب لأن ذلك فعلٌ والفعل لا لسان له بل هو مجمل فعلهم فعلوا ذلك بسبب عذرٍ خاص كأن لم يتمكنوا من المشي لصعوبة ذلك عليهم أو لغير ذلك من الأسباب فيبقى إذن ظهور صحيحة علي بن جعفر في الاستحباب بلا معارض . فإن قبلنا بهذا التوجيه فهو وإلا فالفتوى باستحباب الرمي راجلاً أمرٌ لا مستند له .
نعم قد يتمسك لذلك بقاعدة ( أفضل الأعمال أحمزها ).
ولكن يرده:-
أولاً:- إن مستند هذه القاعدة مرسل فإن هذه العبارة هي من الكلمات القصار التي نقلت عن النبي صلى الله عليه وآله ولكن بنحوٍ مرسل وربما يصعب العثور على الحديث المذكور في مصادرنا الحديثية وإذا عثرنا عليه فهو مرسل.
وثانياً:- إن دلالته على أفضيلة المشي ليست واضحة لأن تعبير ( أحمز ) يأتي بمعنى أمتن وأحسن ولا ينحصر معناه في الأشقِّ فغاية ما يدلّ عليه الحديث هو أن أفضل الأعمال هو أن يتقن الإنسان العمل لا أنه يأني به بشكل ناقص كما يفعل ذلك الكثير من الناس فيكون على وِزان ( رحم الله من عمل عملاً فأتقنه ).
وثالثاً:- يمكن أن يقال إن الحديث ناظر إلى حالة الدوران بين فعلين أحدهما اسهل والآخر أشقّ وليس ناظراً إلى الفعل الواحد بأن يؤتى به بصورته الشاقّة فلو كان هناك يتيم ودار الأمر بين أن نسلّمه بيد شخصٍ يعلّمه القرآن والآداب الشرعيّة وندفع لذلك الشخص راتباً وبين أن أتصدى أنا بنفسي لتأديبه وتعليمه - وواضح أن التصدي بنفسي قضية شاقة لي بسبب وآخر - فهنا تأتي هذه القاعدة وتقول إن أفضل الأعمال الأحمز أي أن تتصدى بنفسك أفضل من التسليم إلى الغير وأما لو فرض أن العمل كان واحداً ولكن له صورة شاقّة وأخرى غير شاقّة كما هو محل كلامنا فإن الرمي واحد ولكن الإتيان به على الدابة أسهل من الإتيان به على الأرض راجلاً فهنا لا يستفاد من ذلك استحباب المشي راجلاً ولا أقل يكون الحديث مجملاً من هذه الناحية وإلا يلزم أن نحكم بأن أداء الصلاة فوق السطح العالي وفي مهبّ الريح والجوّ البارد أفضل من الصلاة في الغرفة وهل تلتزم بذلك ؟ وهل يمكن أن يلتزم فقيه بذلك ؟ وهكذا كل عملٍ من الأعمال إذا كانت له صورة شاقّة ، إنه لا يساعد عليه الاعتبار العقلائي والحديث أيضاً مجملٌ من هذه الناحية بل القدر المتيقن هو إرادة ذلك المعنى ، وهذه نكتة ظريفة يجدر الالتفات إليها أيضاً ، وعلى هذا الأساس يكون الفتوى باستحباب الرمي راجلاً أمر يصعب تحصيل مدركٍ له.
[1] الوسائل، الحر العاملي، ج14، ص62، ب8 من أبواب رمي جمرة العقبة، ح3.
[2] الوسائل، الحر العاملي، ج14، ص62، ب8 من أبواب رمي جمرة العقبة، ح1.
[3] الوسائل، الحر العاملي، ج14، ص62، ب8 من أبواب رمي جمرة العقبة، ح2.
[4] الوسائل، الحر العاملي، ج14، ص63، ب9 من أبواب رمي جمرة العقبة، ح1.
[5] مستند الشيعة، النراقي، ج12، ص293.
[6] حدائق الناظرة، البحراني، ج17، ص23.