1439/10/10
تحمیل
الأستاذ الشيخ باقر الايرواني
بحث الفقه
39/10/10
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع:- أصالة اللزوم - مسألة ( 52 ) – المكاسب المحرمة.
هذا وربما يخطر إلى الذهن التنافي بين ما ذكرناه هنا وبين ما تقدم في مناقشة السيد محمد صاحب البلغة:- فإنَّ صاحب البلغة ذكر فيما تقدم أنَّ الاستثناء إذا كان منقطعاً فلا يدل على العموم في جانب المستثنى منه أو في جانب المستثنى ، يعني لا يستفاد من ﴿ لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ﴾ مثلاً كل أكل بالباطل لا يجوز فلا يستفاد العموم ، وهكذا مثلاً قد يقال في جانب المستثنى ( كل تجارة عن تراضٍ يجوز الأكل بواسطتها ) فهذا قد لا يدل عليه ، فلا يدل على العموم ، هكذا ذكر في كلامٍ له ، ونحن علّقنا على كلامه هناك وقلنا نحن يتبادر إلى ذهننا كعرف أننا نفهم العموم في جانب المستثنى وفي جانب المستثنى منه.
والآن قد يقال:- إنَّ ما ذكرناه في مناقشة صاحب البلغة حيث قلنا الاستثناء المنقطع يدل على العموم في جانب المستثنى وجانب المستثنى منه يتنافى مع ما ذكرناه الآن في مناقشة الشيخ الأعظم(قده) ، فإننا قلنا إذا كان الاستثناء منقطعاً يمكن أن يقال إنَّه لا يدل على الحصر في جانب المستثنى ، وهذا يتنافى مع ما ذكرتموه هناك ؟!والجواب:- إنَّ ذاك ناظر إلى العموم وهذا ناظر إلى الحصر وشتان بينهما ، ففيما سبق قلنا إنَّ الاستثناء المنقطع يدل على العموم في جانب المستثنى وفي جانب المستثنى منه ولم نقل هو يدل على الحصر ، كلا بل في دائرته يدل على العموم ، يعني نستفيد من ﴿ لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ﴾ يعني كل فرد من أفراد الباطل لا تأكلوا بواسطه ولا تستعينوا به ، وهكذا في جانب المستثنى وهو ﴿ إلا أن تكون تجارة ﴾ ، يعني كلّ فرد كلوا بواسطته ولا محذور وهذا عموم ، بينما الذي نريده الآن هو الحصر ، فنحن نريد أن نقول الجائز فقط وفقط هو التجارة عن تراضٍ أما غيرها فلا ، بينما العموم الذي كان سابقاً في دائرة التجارة عن تراضٍ ، فكل فردٍ من التجارة عن تراضٍ كلوا به ، فذاك عموم ونحن نسلّمه ، أما الذي نريد أن نرفضه الآن فهو أنه في غير دائرة التجارة عن تراضٍ لا تدل الآية الكريمة على الحصر - يعني فقط هو الذي يجوز وغير التجارة عن تراض لا يجوز - ، فلا دلالة فيه ، لأنه لا يوجد فيه حصر ، فإذن لا منافاة بين ما ذكرناه هنا وبين ما ذكرناه هناك.
إذن تعليقنا الأوّل على الشيخ الأعظم(قده) هو أنَّ هذا الاستثناء منقطع والمنقطع ربما يقال بأنه لا يفيد الحصر.ثانياً:- نسلّم أنَّ الاستثناء المنقطع يدل على الحصر ، يعني حينما يقال ( ما جاء القوم إلا الحيوان الكذائي ) يفهم الحصر ، يعني فقط جاء الحيوان الكذائي أما غيره فلم يجئ ، ولكن نقول في خصوص الآية الكريمة لابد من رفع اليد عن الحصر في خصوصها لقرينة قطعية ، وهي أنه صحيح أنه لا يجوز الأكل إلا بالتجارة عن تراض ولكن هناك شيء آخر حتى لو لم تكن تجارة عن تراضٍ يجوز الأكل بواسطته ، وهو ما إذا أَذِنَ لمالك الحقيقي ، فهذا ليس تجارة عن تراضٍ ، كما في أكل المارّة على الثمرة فهذا ليس تجارة ولا عن تراضٍ ولكن مادام قد أَذِنَ المالك الحقيقي فحينئذٍ يجوز الأكل ، فالآية الكريمة فيها تقييد جزمي ، يعني حينما قالت ﴿ إلا أن تكون تجارة عن تراض ﴾ يعني أنت تقول ( أو إذا أذن المالك الحقيقي وهو الله عزّ وجل فيجوز الأكل بلا إشكال ) ولا كلام في هذا.
إذن الآية الكريمة جزماً فيها تحصيص ، وإذا كان فيها تخصيص جزماً - يعني ( أو إذا أَذِنَ المالك الحقيقي ) - فحينئذٍ نقول في مقامنا إننا نحتمل أن المالك الحقيقي قد أَذِنَ في الفسخ ، لأننا نحتمل أنَّ المعاملة جائزة ولست لازمة قطعاً ، فإذن نحتمل أنها جائزة وقد أَذِنَ المالك الحقيقي ومعه يكون التمسّك بعموم الآية تمسّكاً بالعام في الشبهة الموضوعية وهو لا يجوز.إذن الآية الكريمة لا يصح التمسّك بها لإثبات اللزوم بكلي تقريبيها والتقريب الثاني قد اتضح أنه يمكن أن يناقش بمناقشتين.الدليل الثالث:- قاعدة السلطنة ( الناس مسلطون على أموالهم ) ، بتقريب:- أنَّ هذا المبيع قد صار للمشتري جزماً وقبل أن يفسخ البائع ويقول فسخت نقول إنَّ هذا المبيع هو ملك المشتري ومقتضى حديث السلطنة أنَّ المشتري مسلّط عليه ، وحينئذٍ لا يجوز للبائع أن يفسخ ويأخذه من دون رضاه فإن هذا خلاف السلطنة الثابتة للمشتري ، ونحن نطبّق قاعدة السلطنة قبل أن يفسخ البائع ، فهنا تأتي قاعدة السلطنة وتقول مادام هذا المبيع ملكك أيها المشتري فأنت مسلّط عليه ، يعني لا يجوز لأحدٍ غيرك أن يأخذه منك من دون رضاك بما في ذلك البائع ، فمن دون رضاك لو جاء البائع وقال فسخت فالمفروض أننا نشك هل له حق الفسخ أو لا فقاعدة السلطنة تقول له لا حق لك في الفسخ.
وبهذه الطريقة دفع إشكال أنَّ هذا من موارد التمسّك بالعام في الشبهة الموضوعية ، قال(قده):- ( إنَّ مقتضى السلطنة الثابتة له قبل أن يقول البائع فسخت أن لا يخرج عن ملكه بغير اختياره فجواز تملّكه بالرجوع فيه من دون رضاه منافٍ للسلطنة المطلقة )[1] .
أما كيف يأتي الاشكال إذا أردنا أن نذكره ؟وتقريب الاشكال بأن يقال:- إنَّ السلطنة فرع الملك ، فإنَّ المالك هو المسلّط ، وحيث نحتمل أنَّ البائع بقوله فسخت صار مالكاً ، لأننا نحتمل أنَّ المعاملة جائزة فعلى هذا الأساس لا تكون هناك سلطنة للمشتري بل تكون السلطنة ثابتة للبائع ، فتطبيق قاعدة السلطنة على المشتري يكون من باب التمسّك بالعام في الشبهة الموضوعية ، فإنه من المحتمل أن يكون صاحب السلطنة هو البائع كما أوضحنا.
وجوابه قد اتضح:- وهو أننا لا نطبّق قاعدة السلطنة حين يقول البائع فسخت ، فإنه إذا كنا نطبقها حين قول البائع فسخت فهذا صحيح فإنه يحتمل أن يكون صاحب السلطنة هو البائع ويحتمل أن يكون صاحب السلطنة هو المشتري فيكون من التمسّك بالعام في الشبهة الموضوعية ، وإنما نطبّق حديث السلطنة قبل أن يقول البائع فسخت فهنا المبيع هو ملك المشتري جزماً ، وجزماً هو صاحب السلطنة عليه ، فنطبّق الحديث ونقول إنَّ مقتضى السلطنة أنه مسلّط عليه بحيث لا يجوز لأحدٍ أن يأخذه ومنهم البائع بأن يفسخ من دون رضا المشتري ويأخذه فإنَّ هذا تصرف منافٍ للسلطنة.
وما ذكره الشيخ الأعظم(قده) شيء ظريف.وفي المناقشة نقول:-أوّلاً:- إنَّ حديث السلطنة قد تقدم الكلام عنه عند البحث في أنَّ المعاطاة تفيد الملك أو لا ، وفي ذلك البحث ذكرنا عدّة أدلة على أنها تفيد الملك ، وكان الدليل الخامس منها هو قاعدة السلطنة ، وقد بّينا سندها كما بيّنا دلالتها.
وهنا مجملاً نقول:- إنَّ رواية ( الناس مسلطون على أموالهم ) لم تثبت بسندٍ معتبر ، وإنما رواها صاحب عوالي اللآلي عن الفاضل المقداد وغيره ، وطريق الفاصل المقداد إلى الامام عليه السلام غير معلوم ، فالسند كما ترى ، فإذن قد يقال هي لم يثبت كونها رواية من الأساس ، فلا معنى لدعوى أنها منجبرة بالشهرة الرواية أو الفتوائية.
وبقطع النظر عن السند نقول:- نحن ذكرنا هنا أربع احتمالات في المقصود من قاعدة ( الناس مسلّطون على أموالهم ) وأرجح الاحتمالات هو الثالث وهو ما ذكره الشيخ الخراساني(قده) وكان مضمونه هو أنَّ كل تصرف جائز شرعاً وممضىً شرعاً لا يتوقف تحققه من المالك على كسب الاجازة من الآخرين ، كالزوجة لديها أموال وتريد أن تتصدق بقسمٍ منها أو تهديه فلو قال الزوج أنا لا أقبل بهذا التصرف فهذا مرفوض منه ، لأنَّ هذه الأموال ملكها وهي مسلّطة عليها فإنَّ الناس مسلّطون على أموالهم ، فلا تحتاج إلى كسب الاذن ، وكذلك الأدب إذا أراد أن يعطي أمواله لهذا أو ذاك فلو قال الأبناء نحن لا نرضى بذلك فهذا لا اعتبار له ، لأنهم لم يصبحوا ملّاكاً لهذه الأموال ، فقاعدة ( الناس مسلّطون على أموالهم ) تنطبق على الوالد ، فإنَّ من الاحتمال الوجيه أنَّ هذه القاعدة ناظرة إلى هذا المعنى ، يعني أنَّ التصّرف الجائز من قبل المالك لا تتوقف صحته على كسب الاجازة من الغير.
وأما ما يراد أن يذكر الآن فهو احتمال خامس لم نذكره فيما سبق ، وهو أنَّ الانسان مسلّط على إزالة الملك عنه من دون عقدٍ من العقود أو غير ذلك ، فهو مسلّط على ابقاء السلطنة وازالة السلطنة ، فاستفادة إبقاء السلطنة وازالتها من الحديث شيءٌ صعب ، نعم له الحق أن يبيعه أو يهديه ، أما أنه لا يبيعه ولا يهديه ولكن يريد أن يزيل سلطنة نفسه عليه بالإعراض عنه ، مثلاً كأن يقول أعرضت عنه - مجرّد إعراض - فكيف تثبت أنَّ الإعراض من مزيلات الملك فإنه يوجد كلام بين الفقهاء في ذلك ؟!! فهم يتمسّكون عادةً بالسيرة ، فيقال جرت السيرة على أنَّ الإعراض يزيل الملكية ، أما أنَّ الشيء باقٍ في داري ولكني وضعته في زاوية من الدار وأعرضت عنه فهل هذا يزيل سلطنتي وملكي عنه ؟ إنَّ هذا أوّل الكلام.فإذن الحديث مجمل ويصعب أن يستفاد منه أنك تتمكن أن تبقي السلطنة وتتمكن أن تزيلها ، فعلى هذا الأساس نقول المشتري له سلطنة على أن يبقي سلطنته ويمنع من فسخ الفاسخ بحيث تزول بذلك سلطنة المشتري ، فالمشتري له سلطنة على إبقاء سلطنته ، فإنَّ استفادة هذا من الحديث شيء صعب ، فهو ليس من أحد الاحتمالات الأربعة التي ذكرناها ، بل استفادته من الحديث إن لم يكن مرفوضاً جزماً فلا أقل دلالة الحديث عليه محل تأمل.فإذن التمسّك بحديث السلطنة قابل للإشكال لما أشرنا إليه ، رغم أن الشيخ الأعظم(قده) تمسّك به ولم يناقش فيه.