34/05/19
تحمیل
الموضوع: الأصول العملية/ البراءة الشرعية
انتهى الكلام إلى أنّ العلاّمة(قدّس سرّه) أيضاً ذكر هذا المطلب في الخلاصة، ولم يُعلّق عليه، فقد يقال بأنّ ظاهر ذلك هو الموافقة على ما ذكره يونس.
أقول: هذا أيضاً ليس واضحاً، باعتبار أنّ العلاّمة(قدّس سرّه) كما هو مُلاحظ في الخلاصة أنّه ينقل نفس الكلام الذي يذكره النجاشي حرفيّاً، ولا يظهر منه تبنّي هذا الرأي، ومن الصعب القول بتبنّي العلاّمة(قدّس سرّه) لهذا الرأي لمجرّد ذكره؛ بل القرائن قائمة على أنّه لا يتبنّى هذا الرأي، والمقصود بالقرينة هو ملاحظة كتبه الاستدلاليّة، فكثيراً ما يستدلّ على الفروع الفقهيّة بهذه الروايات التي يرويها حريز عن الإمام الصادق(عليه السلام). وبعد مراجعة كتاب التذكرة للعلاّمة(قدّس سرّه) في كتاب الحج فقط، ولعلّه في كتاب الصلاة يعثر المتتبّع على عددٍ أكثر من الروايات التي يستدلّ بها العلاّمة(قدّس سرّه) بروايات حريز، فقط في كتاب الحج يوجد موارد كثيرة، منها قوله(قدّس سرّه):(ومن طريق الخاصّة ما رواه حريز في الصحيح، عن الصادق(عليه السلام)
[1]
. أو(ويدلّ على الأرجحية ما رواه حريز بن عبد الله في الصحيح عن أبي عبد الله "عليه السلام").
[2]
وأمثال هذه التعبيرات الواضحة في أنّه يستدل بالروايات التي يذكرها حريز عن الإمام الصادق(عليه السلام) بهذا الشكل، فإذا راجعنا كل كتب العلاّمة(قدّس سرّه) الاستدلاليّة، فأننّا يمكن أنْ نعثر على كثير من الموارد التي يستدلّ بها بروايات حريز عن الإمام الصادق(عليه السلام)، وهي واردة في المصادر بعنوان(حريز، عن الإمام الصادق "عليه السلام").
إذن: العلاّمة(قدّس سرّه) لا يتبنّى هذا الرأي، وإنّما هو يبني على أنّ الروايات التي يرويها حريز عن الإمام الصادق(عليه السلام) هي روايات يمكن اعتبارها والاستدلال بها. هذا بالنسبة إلى كلام العلاّمة(قدّس سرّه).
ننتقل الآن إلى المؤيد الآخر لما ذكره يونس، وهو: الروايات التي رويت بالواسطة في مصادر أخرى. يعني أنّ هناك روايات مرويّة في بعض المصادر عن حريز، عن الإمام الصادق(عليه السلام)، وقلنا أنّها ظاهرة ظهوراً أوليّاً في أنّه يروي عنه مباشرةً، لكن نفس هذه الروايات مرويّة في مصادر أخرى مع واسطة، أي أنّ حريز يروي عن الإمام الصادق(عليه السلام) بواسطة، لا مباشرةً. وهذا الأمر حاصل في عدّة موارد ـــــ مثلاً ـــــ في الكافي ينقل رواية عن حريز، عن الإمام الصادق(عليه السلام)، لكنّ الشيخ(قدّس سرّه) في التهذيب، أو الشيخ الصدوق(قدّس سرّه) في الفقيه ينقل نفس الرواية عنه بواسطة، وعدد هذه الروايات ليس كبيراً جدّاً بحيث يؤثر على النتيجة التي نقولها مهما كثرت، فهي لا تتجاوز اعداد الأصابع، وعلى أفضل التقادير هي تنتج أنّ هذه الرواية التي كنّا نتخيّل أنّ حريزاً يرويها عن الإمام الصادق(عليه السلام) مباشرةً، ثبت أنّها ليست كذلك، وإنّما هو يرويها عنه بالواسطة، وهذا بالنتيجة يعني أنّ العدد الذي قلناه، وهو مائتان وخمسة عشر، سوف ينقص بمقدار هذه الرواية. وهذا لا يؤثر على النتيجة، ولا يؤثر على ما يُراد إثباته.
وبعبارة أكثر وضوحاً: في هذه الموارد نحن أمام احتمالات ثلاثة:
الاحتمال الأوّل: أنْ نفترض أننّا بعد التأمّل والمراجعة، وإعمال المرجّحات سوف نبني على صحّة أحد النقلين، إمّا نقل الكافي، أو نقل التهذيب، من دون فرقٍ بين ما نُشخّص كونه صحيحاً، سواء كان هو نقل رواية حريز بلا واسطة، أو أنّه نقلها بواسطة.
الاحتمال الثاني: أنْ لا نتمكّن من إعمال المرجّحات، فلا نستطيع أنْ نشخّص ما هو الصحيح من هذين النقلين، لكنْ نفترض هنا إمكان الالتزام بصحّة كلا النقلين، بدعوى أنّه لا ضير في أنْ يروي حريز الرواية مرة بلا واسطة، وأخرى يرويها مع الواسطة.
فإذن: هنا لا يوجد مرجّح، لكنْ لا مانع من الالتزام بصحّة كلا النقلين، بدعوى أنّه لا مانع، ولا محذور في أنْ يروي حريز رواية عن الإمام الصادق(عليه السلام) مرة بلا واسطة، وأخرى يرويها مع الواسطة.
الاحتمال الثالث: أنْ نقول بعدم وجود مرجّحٍ ثابت لأحد النقلين على الآخر، ونلتزم بعدم إمكان صحّة كلا النقلين، فيحصل التعارض بينهما.
فالنتيجة التي نصل إليها هي واحد من هذه الاحتمالات الثلاثة. فعلى الاحتمال الأوّل لا مشكلة؛ لأنّه إذا كان الصحيح والمرجّح من النقلين هي الرواية التي تنقل لنا رواية حريز عن الإمام الصادق(عليه السلام) مباشرةً، فمن الواضح أنّه سوف لن يؤثر على النتيجة، وكذلك الحال على التقدير الآخر، فأنّه أيضاً سوف لن يؤثر على النتيجة، غايته أنّه يُنقص من عدد الروايات التي التزمنا بأنّ ظاهرها هو الرواية المباشرة عن الإمام الصادق(عليه السلام).
أمّا على الاحتمال الثاني فأيضاً واضح، حيث نلتزم بصحّة هذا النقل، ونلتزم بصحّة النقل الآخر، ومعناه بالنتيجة أنّ هناك روايتين لحريز، أحداهما رواها عن الإمام الصادق(عليه السلام) مباشرةً، والأخرى رواها عنه مع الواسطة، وهذا لا مشكلة فيه، فما أكثر الروايات التي يرويها حريز عن الإمام الصادق(عليه السلام) مع الواسطة؛ بل قلنا أنّ رواياته عن الإمام الصادق(عليه السلام) مع الواسطة أكثر بكثير من رواياته بدون واسطة.
وأمّا على الاحتمال الثالث، فيحصل تعارض بين النقلين، فأحدهما يقول أنّ هذه الرواية قد رواها حريز عن الإمام الصادق(عليه السلام) مباشرةً، والآخر يقول أنّه رواها مع الواسطة؟ فيتعارضان، ومع عدم وجود المرجّح يتساقطان. فالنتيجة هي أنّه لا يثبت عندنا أنّ هذه الرواية رواها حريز عن الإمام الصادق(عليه السلام) مباشرةً. ونتيجة هذا كما قلنا هو أنّ العدد ينقص بمقدار هذه الروايات التي ثبت حصول التعارض فيها بين النقلين، وهذا سوف لن يؤثر على النتيجة؛ لأنّ العدد ليس كبيراً جدّاً، فأعداد الروايات التي يرويها حريز عن الإمام الصادق(عليه السلام) كثيرة قد تبلغ مائتان وخمسة عشر رواية، فإذا أنقصنا منها خمسة عشر رواية، أو أكثر، أو أقل بقليل، فأنّه سوف لن يؤثر، حيث تبقى لدينا مجموعة كبيرة من الروايات ظاهرة في رواية حريز مباشرة عن الإمام الصادق(عليه السلام). فليس هناك موجب لرفع اليد عن روايات ظاهرها الأوّلي هو الرواية المباشرة؛ لمجرّد أنّه قد ثبت بالقرائن ـــــ على أفضل التقادير ـــــ أنّها مرويّة بالواسطة، مع أنّ تلك الروايات لم تقم فيها القرائن سوى حديث يونس، ولا يجبرنا هذا على الالتزام بأنّها هي أيضاً مرويّة بالواسطة، فمجرّد ثبوت أنّ بعض الروايات التي كنّا نتخيّل أنّها مروية بلا واسطة، ثبت بالقرائن أنّها مرويّة بالواسطة، هذا لا يؤثر في استظهارنا من سائر الروايات بأنّها روايات مرويّة عن الإمام الصادق(عليه السلام) مباشرةً، وبلا واسطة، ولا داعي للتوقف في هذا، مع أنّ هذا كلّه نفترضه على أفضل التقادير، وإلاّ، فأن الأمر في بعضٍ من هذه الموارد ليس كذلك، يعني ليس كما ذكرناه من أنّ نفس هذه الروايات ثبت في مصادر أخرى أنّها مرويّة عنه(عليه السلام) بالواسطة ـــــ مثلاً ـــــ قال الشيخ الطوسي(قدّس سرّه) في التهذيب (لقد مضى فيما تقدّم ما يدلّ عليه، ويزيده بياناً ما أخبرني به الشيخ أيده الله تعالى، عن أبي جعفر محمد بن علي، عن محمد بن الحسن، عن احمد بن إدريس، عن محمد بن احمد بن يحيى، عن علي بن إسماعيل، عن حمّاد، عن عيسى، عن حريز، قال: سألت أبا عبد الله(عليه السلام) عن الكلب يصيب شيئاً من جسد الرجل، قال: يغسل المكان الذي أصابه).
[3]
وهي رواية صريحة في الرواية المباشرة عن الإمام الصادق(عليه السلام)؛ لأنّه يقول فيها: سألت أبا عبد الله(عليه السلام). لكن في الكافي يروي نفس الرواية، يقول:(حمّاد بن عيسى، عن حريز، عن محمّد بن مسلم، قال: سألت أبا عبد الله(عليه السلام) عن الكلب يصيب شيئاً من جسد الرجل، قال: يغسل المكان الذي أصابه ).
[4]
فهذه نفس الرواية التي في التهذيب، لكنّ حريز هنا يروي عن محمد بن مسلم، لا عن الإمام الصادق(عليه السلام) مباشرةً. فهذا مورد من الموارد التي ثبت فيها أنّ الرواية في بعض المصادر ليست مرويّة عن الإمام الصادق(عليه السلام) مباشرة، وإنّما بالواسطة.
أقول: في هذا المورد يظهر أنّ الصحيح هو ما في الكافي، يعني أنّ ما ذكره الشيخ في التهذيب فيه تصحيف أو تحريف؛ لأنّ هذه الرواية أصلاً ليست من الروايات التي يرويها مباشرةً عن الإمام الصادق(عليه السلام)، وإنّما حالها حال سائر الروايات الكثيرة جدّاً، فهو يرويها بواسطة محمد بن مسلم، والقرينة على ذلك هي أنّ الشيخ الطوسي نفسه(قدّس سرّه) في أكثر من موضعٍ ينقل الرواية عن محمد بن مسلم، نقلها في التهذيب قال:(ما أخبرني به الشيخ أيدّه الله ، عن احمد بن محمد، عن أبيه، عن الحسين بن الحسن بن أبان، عن الحسين بن سعيد، عن حمّاد، عن حريز، عن محمد بن مسلم، قال: سألت أبا عبد الله(عليه السلام) عن الكلب يصيب شيئاً من جسد الرجل، قال: يغسل المكان الذي أصابه).
[5]
فهذه نفس الرواية يرويها عن حريز، لكن مع الواسطة، لا بدون واسطة كما ذكرها هو في موضعٍ آخر من التهذيب. وهكذا ذكر الحديث نفسه مع الواسطة في موضعٍ آخر، قال:(وبهذا الأسناد، عن حمّاد، عن حريز، عن محمد بن مسلم، قال: سألت أبا عبد الله(عليه السلام) عن الكلب يصيب شيئاً من جسد الرجل، قال: يغسل المكان الذي أصابه).
[6]
وهذه موافقة لما في الكافي. وكذلك صاحب الوسائل(قدّس سرّه) يروي الرواية عن الشيخ الطوسي(قدّس سرّه)، عن حمّاد، عن حريز، عن محمد بن مسلم، قال:(سألت أبا عبد الله(عليه السلام) عن الكلب يصيب شيئاً من جسد الرجل، قال: يغسل المكان الذي أصابه).
[7]
ولعلّ المتتبع يعثر على هذا في سائر الموارد الأخرى. ومن خلال ذكر الشيخ الطوسي نفسه(قدّس سرّه) هذه الرواية في أكثر من موضعٍ في التهذيب مع الواسطة، أي(حريز، عن محمد بن مسلم، عن الإمام الصادق "عليه السلام")، كما هو في الكافي، فيظهر من ذلك أنّ ما ذكره في أحد المواضع في التهذيب عرض عليه التحريف، أو التصحيف، أو ما شابه ذلك، فالاعتماد يكون على هذا الطريق. هذا مرجّح لصحّة ما ذكره الشيخ الكليني من أنّ الرواية هي أساساً ليست ممّا يرويه حريز مباشرة، وإنّما هي ممّا يرويه حريز بالواسطة عن الإمام الصادق(عليه السلام).
ومورد آخر كنموذج هو: ما رواه في الكافي، وما رواه في التهذيب، في الكافي ينقل رواية يرويها حريز، عن الإمام الصادق(عليه السلام) مباشرةً، عن محمد بن يحيى، عن احمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن عبد الله بن بحر، عن حريز، قال:(قلت لأبي عبد الله "عليه السلام" الجنب يدهن ثم يغتسل ، قال: لا).
[8]
بينما في التهذيب يروي نفس الرواية بأسناده عن حريز بن عبد الله ، قال:(قيل لأبي عبد الله "عليه السلام" الجنب يدهن ثم يغتسل، قال: لا).
[9]
فهنا توجد واسطة في المقام، فليس هو من قال للإمام(عليه السلام)، وإنّما (قيل للإمام "عليه السلام") فمن هنا يظهر أنّ الرواية التي رواها في الكافي عن حريز، عن الإمام الصادق(عليه السلام) مباشرةً، رويت في مصدر آخرٍ مع وجود الواسطة. في هذه الرواية أيضاً يوجد مرجّح لصحّة ما في الكافي من كون حريز يروي الرواية مباشرةً عن الإمام الصادق(عليه السلام) ومن دون واسطة، وقوله:(سألت) أي أنّ حريز نفسه سأل الإمام الصادق(عليه السلام)، والمرجّح هو أنّ الشيخ الطوسي روى في التهذيب، عن الحسين بن سعيد، عن عبد الله بن بحر، عن حريز، قال:(قلت لأبي عبد الله(عليه السلام) الجنب يدهن ثم يغتسل، قال: لا).
[10]
أيضاً يروي الرواية عن حريز مباشرة عن الإمام الصادق(عليه السلام)، وفي الاستبصار أيضاً يرويها،
[11]
وفي الوسائل أيضاً نقلها عن الكافي والتهذيب محمد بن يعقوب، عن محمد بن يحيى .....عن عبد الله بن بحر، عن حريز، قال:(قلت لأبي عبد الله "عليه السلام": الجنب يدهن ثم يغتسل، قال: لا).
[12]
ورواه الشيخ بأسناده، عن الحسين بن سعيد، ورواه أيضاً بأسناده عن احمد بن محمّد، يعني أنّ الشيخ الطوسي(قدّس سرّه) في أكثر من موضع روى عن حريز، عن الإمام الصادق(عليه السلام) مباشرة. نعم، في موضعٍ واحدٍ من التهذيب رواها بصيغة(قال: قيل له). يظهر أيضاً هنا أنّ هناك تصحيفاً، يعني أنّ القرائن تقتضي أنّ هناك تصحيفاً، أو تحريفاً في هذا النقل.
إذن: هناك مرجح لصحّة ما في الكافي، وأنّ هذه الرواية هي من الروايات التي لم يثبت أنّها نفسها قد رويت بالواسطة، وإنّما الصحيح أنّها رويت بدون واسطة.
[1] تذكرة الفقهاء، العلاّمة الحلّي، ج 1، ص 337.
[2] مختلف الشيعة، العلاّمة الحلّي، ج 4، ص 55.
[3] تهذيب الأحكام، الشيخ الطوسي، ج 1، ص 262.
[4] الكافي، الشيخ الكليني، ج 3، ص 60، باب الكلب يصيب الثوب والجسد وغيره، ح 2.
[5] تهذيب الأحكام، الشيخ الطوسي، ج 1، ص 23.
[6] تهذيب الأحكام، الشيخ الطوسي، ج 1، ص 260.
[7] وسائل الشيعة(آل البيت)، الحر العاملي، ج 1، ص 275، باب إنّ لمس الكلب والكافر لا ينقض الوضوء، ح 3.
[8] الكافي، الشيخ الكليني، ج3، ص51.
[9] تهذيب الأحكام، الشيخ الطوسي، ج1، ص372.
[10] تهذيب الأحكام، الشيخ الطوسي، ج1، ص129.
[11] الاستبصار، الشيخ الطوسي، ج1، ص117.
[12] وسائل الشيعة(آل البيت)، الحر العاملي، ج2، ص220.