34/06/17
تحمیل
الموضوع: الأصول العملية/ البراءة الشرعية
كان الكلام في المورد الثاني، في الثمرة بين الاحتمالين الثاني والثالث، وتطبيق ذلك على مسألة ترك السورة اضطراراً، أو نسياناً، أو إكراهاً، أو ترك شرطٍ، أو جزءٍ في العبادة، وأنّه هل يمكن الاستفادة من الحديث الشريف، وتطبيقه على هذا المورد، والخروج بنتيجة وجوب الإتيان بالباقي، وصحّته فيما لوجاء به المكلّف من دون ذلك الشرط، أو الجزء ؟ وتبيّن أنّه يمكن بيان الثمرة في هذا المورد أيضاً. فقط نشير إلى أنّ تطبيق الثمرة على مسألة ترك الجزء، أو الشرط في العبادة هو في الحقيقة موقوف على تسليم شمول الحديث للأمور العدميّة، وعدم اختصاصه بالأمور الوجوديّة، وقد تقدّم بحثه سابقاً، وتبيّن أنّ الحديث شامل للأمور الوجوديّة والعدميّة.
حينئذ يمكن أن تُطرح الثمرة في المقام بهذا الشكل: بناءً على الاحتمال الثاني لابدّ أنْ نلتزم بوجوب الإتيان بالباقي، وبصحّته فيما لوجاء به؛ لأنّ الشارع ــــــ على الاحتمال الثاني ــــــ يُنزّل المعدوم منزلة الموجود، يعني يُنزّل ترك السورة منزلة الإتيان بها، فيكون حاكماً على أدلة الأحكام الأوّليّة، ويثبت أنّ ما جاء به يقع صحيحاً؛ لأنّه جاء بالسورة تعبّداً، وتنزيلاً. بينما لا يمكن ذلك على الاحتمال الثالث؛ لأننّا لا نستفيد من الاحتمال الثالث إلاّ رفع الآثار والأحكام المترتبة على ما اضطر إليه، وما أكره عليه، وما نساه، فقط هذه الأحكام هي التي تُرفع، ولا يتضمّن الحديث حينئذٍ إثبات أحكام وآثار نقيض ما اضطر إليه.
لكنْ قد يُدّعى: بأنّه حتّى على الاحتمال الثالث يمكن تصحيح الصلاة من دون ذلك الجزء، أو الشرط الذي تركه اضطراراً، أو إكراهاً، أو نسياناً، وذلك بأنْ يُدّعى أنّ المكلّف إذا ترك السورة في الصلاة فقد ترك جزءاً؛ لأنّ الشارع حكم بجزئيّة السورة من الصلاة، سواء تركها المكلّف، أو جاء بها. وحكم بأنّ ترك السورة مبطل للصلاة، وهذا الحكم بجزئيّة السورة، أو الحكم بمُبطليّة ترك السورة للصلاة يرتفع عند ترك السورة اضطراراً، باعتباره من آثار ترك السورة في الصلاة، بلا حاجة إلى إثبات أحكام وآثار نقيض ما اضطر إليه. فكما أنّ المكلّف إذا ترك السورة اضطراراً، فأنّ الحرمة ترتفع، ولا يكون قد ارتكب حراماً إذا تركها اضطراراً، ووجوب الإتيان بالمركّب من السورة وغيرها أيضاً يرتفع إذا تركها اضطراراً، وكذلك مبطلية الترك، فهي أيضاً من آثار ترك السورة، فالحديث الشريف حتّى على الاحتمال الثالث هو يصلح لرفع آثار وأحكام ما اضطر إليه، وما اضطر إليه هو ترك السورة، فترتفع أحكام ترك السورة، ومعنى ارتفاع أحكام ترك السورة هو ارتفاع المبطليّة، وارتفاع المبطليّة يعني أنّ ترك السورة في حال الاضطرار ليس مبُطلاً، وهذا يعني أنّ الصلاة التي يأتي بها من دون ذلك الجزء الذي اضطر إلى تركه سوف تقع صحيحة، يعني أنّ ترك هذا الجزء، أو الشرط ليس مبطلاً، وليس جزءاً في حال الاضطرار.
أجابوا عن هذا الإشكال: بأنّ هذا الكلام ليس تامّاً، والسرّ في ذلك هو أنّ كل هذه العناوين، عنوان الجزئيّة، وعنوان المبطليّة، أو لو تصوّرنا عنواناً آخراً؛ بل حتّى لو فرضنا أنّ المرتفع ــــــ كما في كلماتهم ــــــ هو الوجوب الضمني للسورة، أي يمكن الاتيان بالباقي؛ لأنّ معناه أنّ السورة في حال الاضطرار ليست جزءاً، وليست واجبة وجوباً ضمنياً في حال الاضطرار، كل هذه الأمور هي في الحقيقة مرتبطة، ومرهونة بوجود أمرٍ بالمركّب؛ لأنّ الجزئيّة حكم وضعي يُنتزَع من الأمر بالمركّب، ومبُطليّة الترك أيضاً هي حكم وضعي يُنتزَع من الأمر بالمركّب، وكذلك الوجوب الضمني للجزء، فهو أيضاً يُنتزع من الأمر بالمركّب، وتابع للوجوب المتعلّق بالمركّب، فنحن إنّما نعرف أنّ هناك وجوباً ضمنيّاً يتعلّق بالركوع من وجود أمرٍ متعلّق بالمجموع المركب من الركوع، ومن سائر الأجزاء، فيقال أنّ الركوع واجب وجوباً ضمنيّاً، والسورة واجبة وجوباً ضمنيّاً، والوجوب الضمني ليس له استقلاليّة، وإنّما هو يتبع الأمر بالمركّب من الأجزاء، وهكذا جزئيّة السورة، فأننّا ننتزعها من الأمر بالمركّب، وكذلك ننتزع مبطليّة ترك السورة من الأمر بالمركّب من السورة وغيرها، فإذن: هي تابعة لمنشأ انتزاعها، فإذا فرضنا أنّ منشأ انتزاعها ارتفع، باعتبار الاضطرار؛ لأنّه مع الاضطرار إلى ترك السورة، لا إشكال في عدم حرمة تركها حينئذٍ، فالحرمة ترتفع، وعدم حرمة الترك يعنى أنّه ليس هناك أمر بالمجموع المركّب من السورة وغيرها؛ إذ لا يعقل أنّ يكون هناك أمر بالمجموع المركّب من السورة التي هو مضطر إلى تركها، أو مكره على تركها، ومن سائر الأجزاء. إذن: الأمر بالمركب من السورة وغيرها يسقط، ويرتفع بالاضطرار، وحرمة ترك السورة أيضاً ترتفع بالاضطرار، وبالإكراه، وبالنسيان، وبسائر العناوين الأخرى، فإذا ارتفع وجوب الإتيان بالمركب من السورة وغيرها؛ فحينئذٍ لا تكون هناك جزئيّة، ولا تكون هناك شرطيّة، ولا يكون هناك وجوب ضمني حتّى يقال بأنّ حديث الرفع يرفع هذه الأمور.
وبعبارة أخرى: أنّ الذي يرتفع بالاضطرار إلى ترك السورة هو عبارة عن الوجوب المتعلّق بالمجموع المركب من السورة وغيرها، فإذا ارتفع؛ فحينئذٍ لا يوجد منشأ لانتزاع جزئيّة السورة، ولا يوجد منشأ لانتزاع مبُطليّة تركها، حتّى نقول بأنّ الحديث يجري في الصلاة التي يضطر إلى ترك السورة فيها لرفع الجزئيّة، ولرفع مبُطليّة الترك، ولرفع الوجوب الضمني للسورة، هذا لا معنى له، ولا يصح؛ لأنّه بمجرّد الاضطرار إلى ترك السورة يشمله الحديث بلا إشكال على كل الاحتمالات، ويرفع عنه حرمة ترك السورة، وعدم حرمة ترك السورة يعني عدم وجود أمرٍ بالمركب من السورة ومن غيرها. فإذن: لا أمر بالمركب، وإذا لم يكن هناك أمر بالمركب؛ فلا يوجد منشأ لانتزاع الجزئيّة، كي نقول أنّ السورة في حال الاضطرار هي جزء، ونريد أنْ نرفع هذه الجزئيّة بحديث الرفع. أو نقول أنّ ترك السورة في حال الاضطرار مبُطل للصلاة، ونريد أنْ نرفع هذه المبُطليّة بحديث الرفع، فهذا إنّما يكون عندما يكون هناك أمر بالمجموع المركّب من السورة ومن غيرها، بينما بعد الاضطرار وشمول الحديث لترك السورة يرتفع هذا الأمر بالمجموع المركب، فلا تبقى جزئيّة، ولا تبقى مبطليّة، ولا يبقى وجوب ضمني للسورة في الصلاة.
ومن هنا يتبيّن: أنّ ما تقدّم سابقاً هو الصحيح، وهو أنّ الثمرة تظهر في المورد الثاني. وخلاصة الثمرة هي:
أنّه على الاحتمال الثاني يمكن ترتيب آثار وأحكام نقيض ما اضطر إليه، ففي مثال جواز الائتمام يمكن إثبات جواز الائتمام عندما يضطر المكلّف إلى شرب الخمر. بينما على الاحتمال الثالث لا يمكن إثبات جواز الائتمام. وتُطبق نفس الفكرة على مسألة ترك الجزء، أو ترك الشرط في الصلاة، فعلى الاحتمال الثاني يمكن تصحيح الصلاة، بينما لا يمكن تصحيحها على الاحتمال الثالث. هذا بناءً على شمول الحديث للأمور العدميّة كما يشمل الأمور الوجوديّة، وهو الصحيح على ما تقدّم. هذا كلّه في المقام الأوّل الذي هو بيان الثمرة بين هذه الاحتمالات الثلاثة.
المقام الثاني: تشخيص أيّ هذه الاحتمالات الثلاثة هو الصحيح، والأقرب؟ فالاحتمال الأوّل هو احتمال التقدير، والاحتمال الثاني هو أنْ تكون العناية في جانب الرفع دون المرفوع، والاحتمال الثالث هو أنْ تكون العناية في جانب المرفوع دون الرفع. فأيّ هذه الاحتمالات هو الأقرب؟
الذي يبدو أنّ الاحتمالين الثاني والثالث أقرب من الاحتمال الأوّل الذي هو احتمال التقدير، وذلك تمسّكاً بأصالة عدم التقدير، باعتبار أننّا عندما نشكّ في التقدير، فالأصل هو عدم التقدير. وفي المقام أسند الرفع إلى هذه الأمور، والاحتمال الأوّل يقول أنّ الرفع قد أسند إلى محذوف مقدّر، وهذا خلاف الظاهر، ويحتاج إلى دليلٍ، أو قرينة. فأصالة عدم التقدير تقتضي استبعاد الاحتمال الأوّل الذي هو احتمال التقدير، دون الاحتمالين الثاني والثالث، باعتبار أنّ الاحتمالين الثاني والثالث ليس فيهما تقدير. نعم، فيهما إعمال عنايةٍ في الرفع، أو إعمال عنايةٍ في المرفوع، لكنْ ليس فيهما تقدير. فإذن: عندما تجري أصالة عدم التقدير، فأنّها تكون في صالح الاحتمالين الثاني والثالث في مقابل الاحتمال الأوّل.
حينئذٍ قد يُعترَض: بأنّه كما أنّ التقدير خلاف الظاهر، وخلاف أصالة عدم التقدير، فكذلك الاحتمالين الثاني والثالث أيضاً هما خلاف الظاهر، أو بعبارة أكثر وضوحاً: هو خلاف أصالة الظهور، فيحصل تعارض بين أصلين؛ لأنّه في كلا الاحتمالين أعملنا عنايةً، إمّا في الرفع، بأنْ نحمله على الرفع التشريعي، التنزيلي، التعبّدي، وإمّا في المرفوع، بأنْ نحمل العناوين لا على وجوداتها الحقيقية، وإنّما على وجوداتها التشريعيّة. إذن: العناية موجودة في الاحتمالين الثاني والثالث، والعناية خلاف الظاهر، حيث أنّ لدينا رفع أُسند لهذه الأمور المذكورة في الحديث الشريف، والظهور الأوّلي لهذا الرفع هو أنّه رفع حقيقي أسند إلى وجود حقيقي، بينما في الاحتمال الثاني نحن تصرّفنا في الرفع، فقلنا أنّ الرفع هو رفع تشريعي وليس رفعاً حقيقيّاً، أمّا في الاحتمال الثالث فقد تصرّفنا في المرفوع، فقلنا بأنّ الوجود الذي أسند إليه الرفع ليس هو الوجود الحقيقي، وإنّما هو الوجود التشريعي، وكلا التصرّفين خلاف الظاهر، فنستطيع أنْ نقول أنّ الاحتمالين الثاني والثالث على خلاف أصالة الظهور، كما أنّ الاحتمال الأوّل على خلاف أصالة عدم التقدير. إذن: بالنتيجة سوف يقع هناك تنافٍ بين أصالة عدم التقدير التي تقتضي استبعاد الاحتمال الأوّل، وتعيين أحد الاحتمالين الثاني والثالث، وبين أصالة الظهور التي تقتضي استبعاد الاحتمالين الثاني والثالث. وبعبارة أكثر وضوحاً: أنّ كل هذه الاحتمالات الثلاثة هي خلاف الظهور.
وجواب هذا الاعتراض هو: أنّ هذا كلام متين وصحيح، لكنْ عندما يصدر الكلام من متكلّمٍ عادي، أي غير الشارع، ولا يُعمِل مولويته، وسلطنته التشريعيّة عندما يتكلّم بهذا الكلام؛ حينئذٍ يكون هذا الكلام صحيحاً، وتكون كل هذه الاحتمالات فيها مخالفة للظهور، فالتقدير خلاف الظاهر عندما يصدر من إنسانٍ عادي، وإعمال العناية في الرفع بحمله على الرفع التشريعي، أو في المرفوع بحمله على الوجود التشريعي أيضاً خلاف الظاهر، فيصحّ هذا الكلام. لكنْ المفروض في محل كلامنا أنّ حديث الرفع صدر من شارعٍ بما هو شارع؛ فحينئذٍ حمل الرفع على الرفع التشريعي ليس مخالفاً للظهور، وحمل المرفوع على الوجود التشريعي عندما يصدّر هذا الكلام من الشارع نفسه بما هو شارع، أيضاً ليس فيه مخالفة للظهور، ولو تنزّلنا، فأننا نقول ليست مخالفته للظهور كمخالفة التقدير للظهور، حتّى لو صدر من المشرّع، فالتقدير خلاف الظاهر في كل كلامٍ، سواء صدر من مشرّع، أو من غير مشرّع، بينما إعمال العناية في الرفع بأنْ يقال أنّ الشارع عندما تكلّم بما هو شارع، فأنّه رفع هذه الأمور رفعاً تشريعيّاً، هذا ليس فيه مخالفة للظاهر، أو لا أقل أنّ مخالفته للظاهر ليست كمخالفة حمل الكلام على وجود أمرٍ محذوفٍ ومقدّر، فمن هنا يصحّ أنْ يقال بأنّ استبعاد الاحتمال الأوّل في مقابل الاحتمالين الثاني والثالث يمكن أن يُستند فيه إلى أصالة عدم التقدير، والاحتمالان الأخيران فيهما مخالفة للظهور، لكنّها ليست كمخالفة افتراض التقدير؛ ولذا فأنّ أصالة عدم التقدير تجري في المقام، ولا تُعارض بأصالة الظهور، ونتيجة هذا أننّا عندما نوازن بين هذه الاحتمالات الثلاثة فأنّ الاحتمالين الأخيرين يكونان أظهر، وأرجح من الاحتمال الأوّل.
ومن جهة أخرى: الموازنة بين الاحتمالين الثاني والثالث تقتضي ترجيح الاحتمال الثالث على الاحتمال الثاني، وظاهر المحقق النائيني، والسيّد الخوئي(قدّس سرّهما) هو الاحتمال الثالث، وإنْ كانت تعابيرهم فيها تشويش، وفيها ما يظهر منه اختيار الاحتمال الثاني، حيث توجد تعبيرات في كلمات المحقق النائيني، والسيد الخوئي(قدّس سرّهما) في الرفع التشريعي، فقد يقال بأنهما يقولان بالاحتمال الثاني، وليس بالاحتمال الثالث، لكن يبدوا أنّهما يقولان بالاحتمال الثالث، ويمكن أنْ يُجعل دليلاً على ذلك هو ما تقدّم في المسألة السابقة في المورد الثاني من الثمرة، حيث أنّهما اتفقا على أنّه لا يمكن التمسّك بحديث الرفع لإثبات صحّة الإتيان بالباقي في مسألة الاضطرار إلى ترك الجزء، حيث قالا أنّ حديث الرفع لا يمكن التمسّك به لإثبات ذلك، ولابدّ من التماس أدلّة أخرى لإثبات صحّة الباقي، وهذا معناه واضح بناءً على ما تقدّم في أنّهما يبنيان على الاحتمال الثالث؛ إذ أنّه بناءً على الاحتمال الثاني يمكن التمسّك بالحديث الشريف لإثبات صحّة الإتيان بالباقي، على ضوء ما تقدّم سابقاً من أنّ الشارع إمّا أنْ يُنزّل المعدوم منزلة الموجود، أو يعتبر المعدوم موجوداً، على كلا التقديرين يكون ترك السورة في حال الاضطرار، إمّا مُنزّلاً منزلة الإتيان بها، أو أنّ الشارع يعتبره إتياناً بالسورة، فتصحّ الصلاة من دونها.
فإذن: لازم البناء على الاحتمال الثاني هو أنّه لا يمكن تصحيح الإتيان بالباقي من دون السورة التي اضطرّ إلى تركها. بينما هم يتفقون على أنّه لا يمكن التمسّك بالحديث لإثبات صحّة الباقي.
أقول: يمكن أنْ يُجعل هذا قرينة على أنّهم يختارون الاحتمال الثالث، لا الاحتمال الثاني. على كل حالٍ، سواء كانوا يختارون الاحتمال الثاني، أو الثالث. الدليل على أرجحيّة الاحتمال الثالث على الاحتمال الثاني هو أنّه على الاحتمال الثاني لا يمكن تطبيق الرفع بهذا التفسير الموجود في الاحتمال الثاني على جميع الفقرات المذكورة في حديث الرفع بمعنىً واحد، بينما على الحديث الثالث يمكن تطبيق الحديث على جميع الفقرات، وهذا يُشكّل نقطة قوة للاحتمال الثالث في مقابل الاحتمال الثاني. أمّا أنّه لا يمكن تطبيق الرفع بهذا المعنى على الاحتمال الثاني على جميع الفقرات، فقد تقدّمت الإشارة إلى أنّه يمكن تطبيق فكرة الرفع التشريعي للوجود الحقيقي على فقرة(ما اضطروا إليه)، وفقرة(ما أكرهوا عليه) والفقرات الأخرى أيضاً، إلاّ أنّه من الصعب تطبيقه على فقرة(ما لا يطيقون)؛ لأنّ الاحتمال الثاني الذي معناه الرفع التشريعي للوجود الحقيقي لهذه الفقرات يتوقّف على ثبوت وجود حقيقي خارجي للشيء حتّى يرفعه الشارع رفعاً تشريعياً، بالضبط كالرفع الحقيقي للوجود الحقيقي؛ ففي الرفع الحقيقي لا يُعقل أنْ يُرفع الشيء حقيقةً من دون افتراض وجودٍ حقيقي له، فلابدّ من افتراض ثبوت وجودٍ حقيقي للشيء، حتّى يتوجّه إليه الرفع الحقيقي فيرفعه، والرفع التشريعي تماماً كالرفع الحقيقي، يتوقّف على ثبوت وجود حقيقي خارجي للشيء، وهذا المعنى يمكن تطبيقه على فقرة(ما اضطروا إليه)، حيث أنّ له وجود حقيقي خارجي، فيُعقل أنْ يكون المكلّف قد شرب الخمر اضطراراً، وترك السورة في الصلاة اضطراراً، فيتوجّه إليه الرفع، فيرفعه تشريعاً. أمّا في فقرة(ما لا يطيقون) فهو يستبطن عدم صدور الفعل من المكلّف، وعدم تحقق الوجود الخارجي لما لا يطيقون؛ لأنّ المفروض أنّ المكلّف لا يطيقه، أي هو غير قادر على ذلك الفعل، فيستبطن ذلك. وهكذا النسيان أيضاً هو من هذا القبيل إذا كان المقصود به هو الفعل المنسي، فلا وجود له في الخارج؛ لأنّ المفروض أنّ المكلّف قد نَسيَه، ولم يأت به. إذن: ليس هناك وجود حقيقي خارجي لما لا يطيقون، حتّى نقول أنّ الرفع هو رفع تشريعي للوجود الحقيقي، وهكذا النسيان إذا أريد به المنسي في الخارج، لا وجود له. فمن هنا يكون من الصعب تطبيق هذه الفكرة على كل الفقرات، بناءً على الاحتمال الثاني، فلابدّ أن نطبّق هذه الفكرة على بعض الفقرات دون البعض الآخر، وهذا خلاف الظاهر. بينما على الاحتمال الثالث يمكن تطبيقه على كل الفقرات بما فيها فقرة(ما لا يطيقون)؛ لأنّ الاحتمال الثالث يقول أنّ الرفع هو رفع حقيقي للوجود التشريعي للشيء، فما لا يطيقون لا وجود له في عالم التشريع، فالذي يُرفع هو الوجود التشريعي للشيء، وليس الوجود الحقيقي الخارجي له، فهذا الوجود التشريعي يرفعه الشارع حقيقة، بمعنى أنّ الشارع لا يجعله موضوعاً لأحكامه، فلا يجعل الشارع(ما لا يطيقون) موضوعاً لحكمه، وما اضطروا إليه أيضاً لا يجعله موضوعاً لحكمه.