34/08/20
تحمیل
الموضوع: الأصول العملية/ أدلّة البراءة الشرعية/ الاستصحاب
الاعتراض الثالث على إجراء الاستصحاب في المقام لإثبات البراءة: ما ذكره الشيخ(قدّس سرّه) في الرسائل. حيث ذكر(قدّس سرّه) جملة من الأدلة التي يمكن الاستدلال بها على البراءة، وبعد أنْ أكمل الكلام من الكتاب والسنّة والإجماع والعقل، قال: (وهناك أدلّة غير ناهضة)
[1]
وفي جملة الأدلّة الغير ناهضة لإثبات البراءة ذكر الاستدلال بالاستصحاب، وحاصل كلامه الذي له تفسيرات متعدّدة ــــــ كما سيأتي ــــــ هو: أنّ ما يثبت بالاستصحاب هو اللّوازم المجعولة الشرعية على المستصحب دون غيرها، والمستصحب في المقام هو عبارة عن البراءة عن التكليف، أو عدم المنع من الفعل، أو عدم استحقاق العقاب، هذه هي الأمور المتيقنة سابقاً قبل البلوغ، وقبل الجعل، وتحقق الشرائط الخاصّة بالتكليف، هذه أمور كانت ثابتة، ويُشك فيها فعلاً، ويُراد استصحابها، فيستصحب عدم المنع، ويستصحب البراءة عن التكليف، أو يستصحب عدم استحقاق العقاب، فالمستصحب هو عبارة عن ــــــ نركّز كلامنا في شيءٍ واحدٍ حتّى يتبيّن كلامه ــــــ عدم المنع من الفعل، المطلوب إثباته بالاستصحاب هو القطع بالتأمين، والقطع بعدم ترتب العقاب على الفعل، فإذا لم يحصل هذا القطع بالتأمين، أو القطع بعدم ترتب العقاب على الفعل؛ حينئذٍ يبقى احتمال العقاب موجوداً؛ وعندئذٍ نحتاج في التأمين عنه إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان، وإذا رجعنا إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان؛ حينئذٍ يلغو الرجوع إلى الاستصحاب؛ لأنّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان هي تؤمّن من ناحية العقاب، فلا معنى للرجوع إلى الاستصحاب.
إذن: لابدّ أنْ يكون ما يثبت بالاستصحاب هو عبارة عن التأمين الكامل المقطوع به، أي القطع بعدم ترتب العقاب على الفعل، هذا الذي نريد إثباته باستصحاب عدم التكليف، وباستصحاب عدم المنع من الفعل، وباستصحاب براءة الذمّة من التكليف وأمثال هذه الأمور المتيقّنة سابقاً، الغرض هو إثبات التأمين القطعي، والقطع بعدم ترتب العقاب على الفعل. إذن: صار عندنا شيء يجري فيه الاستصحاب هو المستصحب، وهناك غرض من إجراء هذا الاستصحاب؛ حينئذٍ يقول: (هذا المطلوب لا يترتب على هذه المستصحبات؛ لأنّ عدم استحقاق العقاب في الآخرة ليس من اللّوازم المجعولة حتّى يحكم به الشارع في الظاهر) يعني حتّى يجري فيه الاستصحاب، ويحكم به الشارع تعبّداً. ثمّ يقول:(وأمّا الأذن والترخيص في الفعل، فهو وإن كان أمراً قابلاً للجعل ويستلزم انتفاء العقاب واقعاً، إلاّ أنّ الأذن الشرعي ليس لازماً للمستصحبات المذكورة؛ بل هو من المقارنات ــــــ مقصوده بهذه العبارة يعني هو ليس من الآثار الشرعية للمستصحبات المذكورة؛ بل هو من اللّوازم العقلية ــــــ حيث أنّ عدم المنع من الفعل بعد العلم إجمالاً بعدم خلو فعل المكلّف عن أحد الأحكام الخمسة، لا ينفك عن كونه مرخّصاً فيه، فهو نظير إثبات وجود أحد الضدّين بنفي الآخر بأصالة العدم).
[2]
أي يستصحب عدم المنع من الفعل، أي أنّه ليس ممنوعاً من الفعل مع العلم إجمالاً أنّ الفعل لا يخلو من أحد الأحكام الخمسة، ولازم عدم المنع من الفعل مع هذا العلم الإجمالي هو أنّ هذا الفعل مرخّص فيه، فصار الترخيص من اللّوازم العقلية الثابتة لعدم المنع، وليس من الآثار الشرعية له، فهو نظير إثبات وجود أحد الضدّين بنفي الآخر بأصالة العدم. يريد أنْ يقول أنّ الاستصحاب بلحاظه يكون أصلاً مثبتاً.
إذن: عدم المنع من الفعل نفسه هو ليس من المجعولات، فلا معنى لجريان الاستصحاب فيه، والترخيص هو من المجعولات، لكنّه لا يثبت باستصحاب عدم المنع من الفعل؛ لأنّه من اللّوازم العقلية لعدم المنع من الفعل، وليس من الآثار الشرعية. هذا كلام الشيخ(قدّس سرّه).
هناك تفاسير متعدّدة لهذا الكلام، توقفه في إجراء الاستصحاب في المقام من أي ناحية ؟ بحيث جعل هذا الاستصحاب من الأدلّة غير الناهضة لإثبات البراءة:
التفسير الأوّل: احتمال أنْ يكون استشكال الشيخ(قدّس سرّه) في الاستصحاب في المقام ناظراً إلى مسألة تقدّمت الإشارة إليها، وهي أنّ هذه الأمور عدمية، والعدم غير قابل للجعل، وليس أمراً مجعولاً باعتبار أنّ العدم أمر أزلي، وليس داخلاً تحت القدرة والاختيار حتّى يتعلّق به الجعل والتشريع، وبهذا يختلف الأمر العدمي عن الأمر الوجودي، فالأمر الوجودي قابل للجعل والمنع والترخيص، أمّا عدم المنع وعدم الترخيص فهو أمر أزلي غير داخل تحت القدرة، فلا يُعقل تعلّق الجعل به، وحيث أنّ الاستصحاب الذي يُراد إجراءه في المقام هو استصحاب أمر عدمي ــــــ عدم المنع من الفعل، وعدم التكليف، وعدم استحقاق العقاب الثابت سابقاً قبل البلوغ ــــــ والأمور العدمية غير قابلة لتعلّق الجعل بها؛ لأنّها غير مقدورة، وخارجة عن الاختيار، وأزلية، فلا يعقل تعلّق الجعل بها. فجهة الإشكال هي أنّ الاستصحاب في المقام لا يجري؛ لأنّه يتعلّق بأمرٍ عدمي والأمور العدمية لا يُعقل تعلّق الجعل بها.
إذا فسّرنا كلام الشيخ (قدّس سرّه) بهذا التفسير، فيُلاحظ عليه:
أولاً: هذا مردود؛ لأنّ القدرة على الوجود تلازم القدرة على العدم، ولا يمكن التفكيك بينهما، بأن يُقال أنا قادر على الوجود، ولست قادراً على العدم، هذا معناه ليس هناك قدرة على الوجود، وإنّما الوجود يكون أمراً ضرورياً وواجباً، ولا يتخلّف، وليس أنّ هناك قدرة على الوجود، فالقدرة على الوجود هي ملازمة دائماً للقدرة على العدم.
ثانياً: بقطع النظر عن الملاحظة الأولى، هذا الإشكال إذا كان هو المقصود، فهو بروحه؛ بل بواقعه يرجع إلى الاعتراض الأوّل المتقدّم الذي هو أنّه يُشترَط في الاستصحاب أنْ يكون أمراً مجعولاً شرعاً، أو يترتب عليه أثر شرعي، والمستصحب في محل الكلام ليس أمراً مجعولاً؛ لأنّه عدمي أزلي، ولا يترتب عليه أثر شرعي حتّى يجري فيه الاستصحاب، فهذا الإشكال هو نفس الإشكال السابق الذي تقدّم الجواب عنه سابقاً بأنّه ليس لدينا قاعدة ولا رواية تقول بأنّ المستصحب لابدّ أنْ يكون إمّا مجعولاً شرعياً، أو يترتب عليه أثر شرعي؛ بل يكفي أنْ يكون له أثر في مقام التنجيز والتعذير.
التفسير الثاني: هو التفسير الذي ذكره السيّد الخوئي(قدّس سرّه)،
[3]
حيث فسّره بتفسيرٍ آخر غير التفسير السابق؛ ولذا ذكر اعتراضين، ذكر الاعتراض الأوّل على إجراء الاستصحاب، وذكر هذا الاعتراض ونسبه إلى الشيخ(قدّس سرّه)، والذي يبدو من كلام السيد الخوئي(قدّس سرّه) أنّه فسّره بهذا التفسير: أنّ المطلوب، يعني القطع بعدم العقاب لا يثبت بهذا الاستصحاب؛ لأنّه ليس من آثار عدم المنع من الفعل، أو عدم التكليف؛ بل هو من آثار الترخيص الظاهري الذي لا يثبت به إلاّ على القول بالأصل المثبت، وهذا نفس كلام الشيخ الذي نقلناه عنه.
إذن: احتمال العقاب موجود مع جريان الاستصحاب؛ لأنّ جريان الاستصحاب سوف لن يثبت القطع بعدم ترتب العقاب، يعني سوف لن يثبت التأمين المقطوع به، والسؤال هو: أنّ المطلوب هو التأمين القطعي، فهل الاستصحاب يثبت التأمين، أو لا ؟ إذا لا يثبت التأمين، فلا فائدة من جريانه؛ لأنّنا حينئذٍ لازلنا نحتاج إلى التمسّك بقاعدة قبح العقاب بلا بيان حتّى نثبت التأمين القطعي من ناحية العقاب، فأيّ فائدة حينئذٍ من إجراء الاستصحاب ؟
فإنْ قلت: فائدة إجراء الاستصحاب هي إثبات التأمين القطعي.
قلت: التأمين القطعي لا يترتب على هذه المستصحبات، القطع بعدم ترتّب العقاب على الفعل لا يترتب على استصحاب عدم المنع من الفعل، فكأنّ جهة الإشكال ـــــ بناءً على هذا التفسير ـــــ عند الشيخ(قدّس سرّه) هي أنّ الاستصحاب لا فائدة له، ولا يحقق المطلوب منه؛ لأنّه إنْ لم يوجب التأمين القطعي، فواضح؛ لأنّ المطلوب هو التأمين القطعي. فإنْ أبيت إلاّ أنّه يحقق التأمين القطعي؛ فحينئذٍ نقول: الصحيح هو أنّه لا يحقق التأمين القطعي؛ لأنّ القطع بعدم ترتب العقاب لا يترتب على استصحاب عدم المنع من الفعل، فبالتالي هذا لا يتحقق، فيكون بلا فائدة، فجهة الإشكال كانت أنّ إجراء الاستصحاب بلا فائدة، ولغو؛ لأنّه لا يحقق المطلوب الذي هو التأمين القطعي.
السيّد الخوئي(قدّس سرّه) فسّر كلام الشيخ(قدّس سرّه) بهذا التفسير، وأشكل عليه بإشكالين، نذكرهما لأنّهما لهما دخل في فهم المقصود:
الإشكال الأوّل: لماذا لا يترتب التأمين القطعي على استصحاب عدم المنع من الفعل ؟ القطع بعدم ترتب العقاب يترتب على استصحاب عدم المنع من الفعل، التأمين القطعي لا ينحصر ترتبه فقط على إثبات الترخيص حتّى يقول الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) بعدم إمكان إثبات الترخيص بهذا الاستصحاب؛ لأنّه ليس من الآثار الشرعية للمستصحب؛ بل من الآثار العقلية، وإثبات الترخيص لإثبات التأمين القطعي يكون الأصل بلحاظه أصلاً مثبتاً، السيد الخوئي(قدّس سرّه) يقول: ترتب التأمين القطعي ليس منحصراً فقط على إثبات الترخيص؛ بل يترتب أيضاً على عدم المنع من الفعل، وهو من آثار عدم المنع من الفعل، كما أنّ الترخيص الشرعي الواصل من الشارع، ولو كان ظاهرياً يثبت بلا إشكال التأمين القطعي، وعدم ترتب العقاب، وإحراز عدم العقاب، كذلك عدم المنع شرعاً من الفعل، ولو ظاهرياً، أيضاً يترتب عليه التأمين القطعي، باعتبار أنّ الاستصحاب حجّة، والقطع بحجيته تعني القطع بعدم ترتب العقاب، يعني القطع بالتأمين حتّى إذا كان مخالفاً للواقع.
فإذن: هو كما يترتب على الترخيص يترتب أيضاً على نفس المستصحب، بلا حاجة إلى طفرة حتّى يقال أنّه أصل مثبت، نفس المستصحب، وهو عدم المنع من الفعل، نستصحبه، ويترتب عليه التأمين القطعي من ناحية العقاب، فلا داعي للقول بعدم إمكان إثبات التأمين، إلاّ إذا اثبتنا الترخيص الذي هو لازم عقلي للمستصحب.
يُفهم من هذا الإشكال أنّ السيد الخوئي(قدّس سرّه) يريد أنْ يقول بأنّ عدم المنع من الفعل أمر مجعول كما هو الحال في الترخيص، فأنّه أمر مجعول؛ ولأنّه أمر مجعول يجري فيه الاستصحاب بلا حاجة إلى اشتراط أنْ يترتب عليه أثر شرعي، وهذه نقطة مهمّة؛ بل نرتب عليه لوازمه العقلية؛ لأنّ نفس المستصحب هو أمر مجعول للشارع، فما دام أمراً مجعولاً؛ فحينئذٍ يجري فيه الاستصحاب، وتترتب عليه لوازمه العقلية، فضلاً عن لوازمه الشرعية، نحن نشترط في جريان الاستصحاب ـــــ بناءً على هذا ــــــ إمّا أنْ يكون المستصحب أمراً مجعولاً، أو أنْ يكون أمراً تكوينياً، وليس مجعولاً، لكن نشترط في جريان الاستصحاب فيه أنْ يترتب عليه أثر مجعول، بالنتيجة لابدّ أنْ ترجع إلى الشارع. في المقام جوابه مبني على أنّ عدم المنع أمر مجعول، إذا كان أمراً مجعولاً؛ حينئذٍ تنتهي المشكلة، ولا نحتاج إلى أنْ نفتّش عن أثر شرعي لهذا المستصحب؛ بل نرتّب عليه حتّى لوازمه العقلية، كما هو الحال في الترخيص، فالاستصحاب يجري في الترخيص لأنّه أمر مجعول، فتترتب عليه لوازمه العقلية التي هي التأمين القطعي، فالقطع بعدم ترتب العقاب على الفعل هو من اللّوازم العقلية للترخيص الشرعي، وإذا جرى الاستصحاب في الترخيص يثبت هذا اللّازم. يريد أنْ يقول : أنّه إذا جرى الاستصحاب في عدم المنع من الفعل، وثبت عدم المنع من الفعل شرعاً بالاستصحاب؛ حينئذٍ هذا أمر مجعول، فيترتب عليه أثره العقلي الذي هو القطع بعدم ترتّب العقاب الذي هو التأمين القطعي. وأمّا إذا قلنا أنّ عدم المنع ليس أمراً مجعولاً، إمّا بالبيان المتقدّم الذي يرجع إلى أنّ العدم أمر أزلي، والأمر الأزلي ليس داخلاً تحت الاختيار والقدرة، فهو أمر غير مجعول، وإمّا لما سيأتي بيانه في التفسير الثالث. إذا قلنا أنّ عدم المنع ليس أمراً مجعولاً؛ حينئذٍ يكون عدم المنع حاله حال الموضوعات التكوينية، يعني أنّ إجراء الاستصحاب فيها مشروط بوجود أثر شرعي، وعدم المنع ليس له أثر شرعي، فالقطع بعدم العقاب ليس من الآثار الشرعية لعدم المنع، وإنّما هو من الآثار العقلية له، فكأنّ السيد الخوئي فرض أنّ عدم المنع أمر مجعول، فلا داعي لأنْ يفتش عن أثرٍ شرعي يترتب عليه عند إجراء الاستصحاب فيه؛ ولذا قال مباشرة بأنّ هذا يترتب عليه أثره العقلي الذي هو القطع بعدم ترتب العقاب كما يترتب على الترخيص، فهو مبني على هذا. وأمّا إذا قلنا أنّ عدم المنع ليس أمراً مجعولاً، وغنّما حاله حال الموضوعات التكوينية، فلا يجري فيه الاستصحاب إلاّ إذا ترتب عليه أثر شرعي، فإذا قلنا بعدم ترتب الأثر الشرعي عليه، وهو بنفسه غير مجعول، فلا يجري فيه الاستصحاب، وهذا هو التفسير الثالث لكلام الشيخ الأنصاري (قدّس سرّه)، إشكال الشيخ الأنصاري ليس من جهة أنّه يريد أنْ يقول أنّ عدم المنع، أو عدم استحقاق العقاب، أو عدم التكليف هي أمور ليست مجعولة، فلا يجري فيها الاستصحاب، باعتبار أنّها أزلية وغير مقدورة، نظره ليس إلى هذا، وإنّما يريد أن يقول أنّ عدم المنع، أو عدم التكليف هو أمر ليس مجعولاً، ولا يتعلّق به الجعل والتشريع؛ لأنّه لا حاجة إلى تعلّق الجعل والتشريع به؛ لأنّ عدم جعل المنع يتحققّ بمجرّد عدم وجود تشريع المنع، ولا يتوقف على تشريع وجعل يتعلّق به هو؛ بل يكفي فيه عدم وجود علّة للمنع، عدم جعل المنع يكفي في تحققّ عدم المنع، بلا حاجة إلى أنْ يتعلّق به التشريع والجعل، وإنّما يتحققّ بعدم تحققّ علّة المنع، عندما نقول بأنّ هذا المنع لم تتحقق علّته، وبعبارة أخرى: لم يُشرّع، ولم يجعل المنع، فعدم جعل المنع لعدم وجود علّة لهذا الجعل هو يكفي في تحققّ عدم المنع، من دون أن يحتاج عدم المنع بنفسه إلى جعل وتشريع، وهذا معناه أنّ عدم المنع لا يحتاج إلى جعل وتشريع، فهو غير قابل للجعل من هذه الجهة؛ لأنّه لا يحتاج إلى الجعل والتشريع. هذا هو وجه دعوى أنّ عدم المنع، أو عدم التكليف ليس أمراً مجعولاً الذي يشير إليه الشيخ في عبارته التي يقول فيها:(ليس أمراً مجعولاً حتّى يتعلّق به التعبّد الاستصحابي في الظاهر)، فيقول أنّه ليس أمراً مجعولاً لهذه النكتة؛ فحينئذٍ يكون الإشكال هو أنّ عدم المنع بنفسه هو ليس أمراً مجعولاً، فيبقى أنْ نفتش عن أثر شرعي يترتب عليه حتّى يُعقل أنْ يجري فيه الاستصحاب، وعدم المنع ليس له أثر شرعي. الذي نريد إثباته بالاستصحاب ليس أثراً شرعياً لعدم المنع، وإنّما هو أثر عقلي، وهو التأمين القطعي، حتّى لا نحتاج إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان، التأمين القطعي ليس من الآثار الشرعية لعدم المنع الشرعي، وإنّما هو من اللّوازم التكوينية له، ومن الآثار العقلية له، فكيف نثبت التأمين القطعي باستصحاب عدم المنع ؟ فلا يجري الاستصحاب في عدم المنع؛ لأنّ عدم المنع ليس مجعولاً للشارع، وغير قابل للجعل، ولا هو ممّا يترتب عليه أثر شرعي، فلا يجري فيه الاستصحاب، فهذه هي جهة الإشكال. ومن هنا يظهر أنّ هذه العبارة للشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) إذا فُسرّت بالتفسير الأوّل؛ فحينئذٍ هي ترجع إلى الاعتراض الأوّل، وإذا فسّرناها بأحد التفسيرين الأخيرين؛ حينئذٍ تكون اعتراضاً آخراً غير الاعتراض الأوّل. يعني جهة منع كون عدم المنع أمراً مجعولاً تختلف، فمرّة نقول هو ليس أمراً مجعولاً باعتبار أنّه أمر أزلي ولا تتعلّق به القدرة والاختيار، ومرّة نقول ليس من هذه الجهة، وإنّما باعتبار أنّه لا يحتاج إلى الجعل؛ إذ لا معنى لأنْ يجعل الشارع عدم المنع؛ بل يكفي فيه عدم وجود علّة للمنع، ويكفي عدم تشريع الحرمة في ثبوت وعدم تحقق الحرمة، يعني عدم وجود علّة للحرمة يكفي في تحققّ عدم الحرمة.
إذن: المهم أنّه ليس أمراً مجعولاً، فيصير حاله حال الموضوعات الخارجية التكوينية التي لا يجري فيها الاستصحاب إلاّ بشرطٍ واحدِ، وهو أنْ يترتب على استصحابها أثر شرعي، وعدم المنع المستصحب في المقام لا يترتب عليه أثر شرعي، فجهة الإشكال تكون من هذه الجهة.
[1] فرائد الأصول، الشيخ الأنصاري، ج 2، ص 59.
[2] فرائد الأصول، الشيخ الأنصاري، ج 2، ص 60.
[3] دراسات في علم الأصول، تقرير بحث السيد الخوئي للسيد الشاهرودي، ج 3، 265.