34/11/14
تحمیل
الموضوع: الأصول العملية/ أدلّة البراءة الشرعية/ الاستصحاب
قلنا أنّ الكلام يقع في بعض الأمور المرتبطة بالبحث السابق، وهو بحث الاستدلال على البراءة بالاستصحاب. وقد تكلّمنا عن الأمر الأوّل وأنهينا الكلام عنه.
الأمر الثاني: هناك قضيّة طرحها السيّد الخوئي(قدّس سرّه)،
[1]
وهي أنّ هذا الاستصحاب، بناءً على جريانه لإثبات البراءة في الشبهات الحكميّة، كما تقدّم، هل يجري في الشبهات الموضوعيّة، أو لا ؟ ما كنّا نتكلّم عنه هو جريانه في الشبهات الحكميّة، لو شككنا في حرمة أكل لحم الأرنب، هل يمكن إثبات البراءة بالاستصحاب بأحدّ تقريباته الثلاثة السابقة، أو لا؟
أمّا إذا كان الشكّ في شبهة موضوعية حكميّة، كما لو شككنا في أنّ هذا المايع المُعيّن، هل هو خمر، أو لا ؟ فهل يمكن إثبات البراءة بالاستصحاب، أو لا ؟ هذا هو محل الكلام.
أصل التوقّف، أو الإشكال في الاستصحاب في الشبهات الموضوعيّة ناشئ من أنّ الاستصحاب الذي يُراد إجراءه، هو الاستصحاب بالتقريب الثاني المتقدّم، وهو استصحاب عدم الجعل، ومنشأ الإشكال هو أنّ استصحاب عدم الجعل لا يجري في الشبهات الموضوعيّة؛ لأنّ الجعل ليس مشكوكاً في الشبهات الموضوعيّة، والمكلّف ليس لديه شكّ فيما يرتبط بما يجعله الشارع، بخلاف الشكّ في حرمة أكل لحم الأرنب، فالمكلّف يشك في أنّ الشارع جعل الحرمة، أو لا ؟ بينما هنا عندما تشكّ في أنّ هذا المائع هل هو خمر، أو ماء ؟ هنا لا يوجد عندي شكّ في الجعل، فيما يرتبط بالشارع أنا أعلم بأنّ الشارع جعل حرمة شرب الخمر، وجعل إباحة شرب الماء، ولا شكّ فيه، وإنّما الشك يكون في أنّ هذا المائع المعيّن هل هو مصداق للخمر، حتّى تثبت له الحرمة ؟ أو هو ماء حتّى لا تثبت له الحرمة، وتثبت له الإباحة ؟ هذا هو الشكّ في الشبهة الموضوعية.
إذن: ليس هناك شك في الجعل. وبعبارة أكثر وضوحاً: أنّ الحكم لشخص المشكوك ليس فيه جعل، على تقدير أنْ يكون هذا خمر، الشارع لا يجعل له حرمة بخصوصه، وإنّما يجعل الحرمة على طبيعي الخمر، فإذن: هناك حرمة مجعولة على الطبيعي، وهناك حرمة تتعلّق بخصوص المشكوك، الحرمة المتعلّقة بالطبيعي لا شكّ فيها حتّى يجري فيها الاستصحاب، الحرمة المتعلّقة بخصوص هذا المورد المشكوك نقطع بعدمها؛ لأنّ الشارع لا يجعل حرمة لخصوص هذا الفرد، فإذن: في أيّ شيءٍ يجري الاستصحاب ؟ يجري الاستصحاب بلحاظ الحرمة المتعلّقة بالطبيعي ؟ لكننّا قلنا أنّ هذه الحرمة لا شكّ فيها، لا يوجد هناك شكّ في الجعل في الشبهات الموضوعيّة؛ فحينئذٍ لا مانع من استصحاب عدم الجعل في الشبهات الموضوعيّة، بخلاف الشبهات الحكميّة؛ لأنّ الشك هو في الجعل الزائد، لو كان أكل لحم الأرنب حرام، فهذا معناه أنّ هناك جعل للحرمة من قِبل الشارع أزيد ممّا نعلمه؛ وحينئذٍ حيث أنّه مسبوق بالعدم يمكن إجراء استصحاب عدم جعل الحرمة في هذا، وهو المسمّى بـــ (استصحاب عدم الجعل) وهو يثبت البراءة. هذا هو الإشكال في إجراء الاستصحاب في الشبهات الموضوعيّة، وحاصله: أنّ الجعل ليس مشكوكاً في الشبهات الموضوعيّة، فلا معنى لإجراء الاستصحاب بلحاظ الجعل. هذا تقريب الإشكال.
السيّد الخوئي(قدّس سرّه) عندما طرح هذا الإشكال في الدراسات أجاب عنه بهذا الجواب: قال بأنّ الأحكام مجعولة بنحو القضيّة الحقيقيّة، وليس بنحو القضيّة الخارجيّة، يُفرض موضوع، ثمّ يُجعَل الحكم على ذلك الموضوع المفترض الوجود، وعندما نفترض أنّ الأحكام مجعولة على نهج القضيّة الحقيقيّة لازم ذلك الانحلال، بمعنى أنّ الحكم المجعول على نهج القضيّة الحقيقيّة ينحلّ إلى أحكامٍ متعدّدةٍ بعدد أفراد موضوعه، فكلّما تحققّ فرد ومصداق من موضوعه في الخارج ثبت له الحكم، وإذا تحققّ مصداق آخر ثبت له الحكم أيضاً.....وهكذا. (لله على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلا)
[2]
هذه قضيّة حقيقيّة، على تقدير الاستطاعة، وتوفر سائر الشروط الأخرى يجب الحج، هذا الحكم المجعول على نهج القضية الحقيقية يتكثّر بتكثّر أفراد موضوعه في الخارج، فإذا وجد مستطيع يثبت له وجوب الحج، وإذا وجد مستطيع آخر يثبت له وجوب الحج أيضاً.....وهكذا. ويقول أنّ هذا هو مبنى جريان البراءة في الشبهات الموضوعيّة، وجريان البراءة في الشبهات الموضوعيّة هي قضيّة مسلّمة، ولكن عندما نفترض جريان البراءة في الشبهات الموضوعيّة، فلابدّ من فرض أنّ هناك شكّاً في التكليف؛ لأنّ مورد البراءة هو الشك في التكليف. إذن: لابدّ أنْ يكون في الشبهة الموضوعية تكليف مشكوك؛ ولذا تجري فيه البراءة. ما هو التكليف المشكوك في الشبهة الموضوعيّة ؟ من الواضح أنّه ليس هو الجعل؛ لأنّ الجعل متيّقن في الشبهة الموضوعيّة، ولا يوجد شكّ فيه، التكليف المشكوك في الشبهة الموضوعيّة والذي سمح لنا بإجراء البراءة في الشبهة الموضوعية بلا إشكال هو مبني على فكرة الانحلال، أي أنّ الحكم المجعول على نهج القضيّة الحقيقيّة ينحل إلى أحكام جزئية متعدّدة بعدد ما للموضوع من أفراد. إذن: هناك حكم جزئي متعلّق بهذا الفرد، فالحكم ينحل بعدد أفراد موضوعه، فإذا كان أفراد موضوعه مائة ينحل إلى مائة حكم، ثمّ يقول: فإذا شككنا في أنّ هذا فرد من الموضوع، أو لا ــــــ وهو معنى الشبهة الموضوعيّة ــــــ فهذا عبارة أخرى عن أننّا نشك في حكمه الشخصي، هل ثبتت له حرمة شخصيّة انحلاليّة، باعتبار أنّ الحكم مجعول على نهج القضيّة الحقيقيّة، أو لا ؟ هذا هو معناه بالنتيجة، عندما أعلم أنّ هذا خمر، أعلم بثبوت حرمة له، لكن هذه الحرمة حرمة انحلاليّة، هي التي نسميها بالمجعول، فتثبت حرمة لشخصه عندما أعلم بأنّه مصداق للموضوع، وعندما أشكّ بأنّه مصداق للموضوع يعني أشكّ في ثبوت هذه الحرمة له.
إذن: يوجد شكّ في التكليف حتّى في الشبهة الموضوعيّة؛ ولذا جرت البراءة كما قال، وعلى هذا الأساس نقول بأنّ الاستصحاب يجري في المقام، استصحاب عدم الجعل في الشبهة الموضوعيّة؛ لأنّه من الواضح أنّ تكثّر الأفراد يعني سعة الجعل، وقلة الأفراد تعني نقص الجعل، وعدم سعته، هذا الجعل على نهج القضية الحقيقية هو يتكثّر وينقص بتكثّر ونقصان عدد أفراده، فإذا علمنا أنّ هذا الموضوع للحكم المجعول على نهج القضية الحقيقية قطعاً له عشرة مصاديق، وشككنا في مصداقٍ آخر، وشكّنا في الحقيقية يرجع إلى الشكّ في أنّ الجعل هل له سعة بحيث ينحل ويشمل أحد عشر فرداً، أو ليست له هذه السعة، وإنّما هو ينحل إلى عشرة أحكام تثبت لعشرة أفراد. إذن: شكّ في سعة الجعل وضيقه، فإذا أرجعناه إلى الشك في سعة الجعل وضيقه، فمن الممكن إجراء الاستصحاب في الجعل، فيقال: أنّ جعل الحكم بنحوٍ يشمل هذا الفرد المشكوك متيّقن العدم سابقاً، فنستصحب عدم الجعل.
وبهذا دفع الإشكال، وانتهى إلى هذه النتيجة، وهي أنّ الاستصحاب الذي نثبت به البراءة كما يجري في الشبهات الحكميّة يجري أيضاً في الشبهات الموضوعيّة بلا فرقٍ بينهما، مع كونه نفس الاستصحاب، لا نستصحب المجعول؛ بل نستصحب عدم الجعل، لكن بالبيان الذي ذكره. هذا أصل الإشكال وجوابه الذي ذكره السيّد الخوئي(قدّس سرّه).
لكنّ هذا الجواب فيه مشكلة ترتبط برأيٍ للسيّد الخوئي(قدّس سرّه) هو يتبناه، ونقلناه عنه سابقاً، وسيأتي تحقيقه في باب الاستصحاب، وهو أنّه لا يرى جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة؛ لأنّه مُعارَض باستصحاب عدم الجعل. هذا إشكال معروف، ويمثّلون له بمسألة وطء المرأة بعد النقاء وقبل الغسل، الاستصحاب الحكمي الذي يجري في المقام هو استصحاب الحرمة المتيّقنة قبل النقاء، حيث قبل النقاء قطعاً كانت حرمة ـــــ هذا استصحاب المجعول، والحرمة بمعنى فعليّة التكليف ـــــ وبعد النقاء، وقبل الغسل نشكّ في أنّه هل ارتفعت الحرمة، أو لا ؟ فنستصحب الحرمة المتيّقنة سابقاً. هذا الاستصحاب في الشبهات الحكميّة في هذا المورد، وهكذا في غيره.
هو يقول بأنّ هذا الاستصحاب لا يجري؛ لأنّه مُعارَض باستصحاب عدم الجعل؛ لأننّا متيقنين بأنّ الشارع قد جعل حرمةً قبل النقاء، لكن هل جعل الشارع حرمةً تمتد إلى ما بعد النقاء ؟ هذا مشكوك بالنسبة إلينا. إذن: شكنّا هو في الجعل الزائد، وحيث أنّ هذا الجعل الزائد مسبوق بالعدم، فنستصحب عدمه، وهذا الاستصحاب ــــــ استصحاب عدم الجعل الزائد ــــــ يُعارض استصحاب المجعول، يعني يعارض استصحاب الحرمة المتيّقنة قبل النقاء؛ لأنّ مقتضى هذا الاستصحاب هو إثبات الحرمة والتنجيز، بينما استصحاب عدم الجعل الزائد يقتضي التعذير، وعدم الحرمة بعد النقاء، فيكون معارضاً له؛ ولذا ذهب إلى عدم جريان استصحاب المجعول؛ لأنّه معارض باستصحاب عدم الجعل الزائد.
هذا الكلام الذي يقوله(قدّس سرّه) هنا في مقام توجيه بيان استصحاب عدم الجعل في الشبهات الموضوعيّة يوقعه في هذا الإشكال: أنّ إشكال المعارضة المانع من إجراء استصحاب المجعول سوف يسري من الشبهات الحكميّة إلى الشبهات الموضوعيّة أيضاً؛ لأنّه أيضاً يجري استصحاب عدم الجعل الزائد، حيث أنّه وجّه جريان استصحاب عدم الجعل في الشبهات الموضوعيّة، فإذا كان استصحاب عدم الجعل يجري في الشبهات الموضوعيّة؛ حينئذٍ يكون معارِضاً لاستصحاب المجعول في الشبهات الموضوعيّة. هذا المايع الذي أشك في كونه خمراً، أو ماءً لنفترض أنّ حالته السابقة كانت هي الخمريّة، فإذا كانت حالته السابقة هي الخمرية، فالمجعول الذي هو الحرمة الفعلية تثبت له. بعد ذلك شككت في أنّه هل هو حرام، أو لا ؟ بنحو الشبهة الموضوعيّة، لا أعلم هل أنّه خرج عن كونه خمراً وصار ماءً، أو لا زال خمراً، هنا يجري استصحاب الحرمة المتيّقنة سابقاً، وهذا نُعبّر عنه باستصحاب المجعول، الحرمة المتيّقنة سابقاً قبل التحوّل الذي أوجب الشكّ، وهذا الاستصحاب يُعارَض باستصحاب عدم الجعل الزائد؛ لأنّ استصحاب عدم الجعل على ضوء ما ذكره لا يختّص بالشبهات الحكميّة؛ بل يجري حتّى في الشبهات الموضوعيّة، أنّ الشارع هل جعل الحرمة بنحوٍ تنحلّ حتّى إلى هذا الفرد، أو لا ؟ الأصل عدمه، فيكون معارَضاً باستصحاب عدم الجعل الزائد، وهذا يؤدي إلى أنْ يلتزم ـــــ ولا أظنّه يلتزم بذلك ــــــ بأنّ استصحاب المجعول لا يجري في الشبهات الحكميّة، ولا في الشبهات الموضوعيّة، ومن المؤكّد أنّه لا يلتزم بهذا؛ لأنّ المتيّقن من روايات الاستصحاب هو إجراء الاستصحاب في الشبهات الموضوعيّة، والأمثلة التي ذُكرت في روايات زرارة هي الشك في الطهارة وأمثالها بنحو الشبهة الموضوعيّة، وهي القدر المتيّقن من روايات زرارة. بقطع النظر عن هذا الإشكال لا تواجهنا مشكلة في الشبهات الحكمية، حيث نخرجها من روايات زرارة، ونقول أنّ روايات زرارة مختصّة بالشبهات الموضوعيّة، ويجري استصحاب الحكم في الشبهات الموضوعيّة، لكن بعد هذا لابدّ أنْ نخرج منها أيضاً الشبهات الموضوعيّة، ولا اعتقد أنّه يلتزم بذلك. هذا من جهة.
ومن جهة أخرى: اصل المطلب هو غير واضح، فكأنّه يريد أنْ يفترض أنّ التكثّر يكون بلحاظ عالم الجعل، وهذا الافتراض غير صحيح، حيث ليس لدينا تكثّر بلحاظ عالم الجعل، الجعل لا يتكثّر بتكثّر أفراد موضوعه، الجعل أمر واقعي، وهو شيء واحد، وحالة خاصّة قائمة في نفس الجاعل، ولا تتكثّر بتحققّ فرد، أو تنقص بعدم تحققّه، يعني لا تعرض عليها الزيادة والنقيصة بحيث أنّ تحقق أفراد في الخارج يؤثر في زيادة الجعل، وعدم تحققّها يؤثر في نقيصة الجعل، أصلاً لا معنى لأنْ نفترض أنْ يتكثّر الجعل بتكثّر أفراد موضوعه، وإنّما هذا التكثر، والتعدّد قائم في عالم المجعول، والفعليّة، في المجعول يوجد تكثّر بلا إشكال؛ يعني عندما يوجد فرد مستطيع يثبت له وجوب الحج فعلاً، والذي نعبّر عنه بالمجعول، وهذا ليس معناه أنّ الشارع جعل فيه وجوباً خاصّاً به، فأنّ الشارع قال:(للّه على الناس حجّ البيت) وليس أكثر من هذا، ولا ينتظر بعد ذلك كلّما تحققّ موضوع في الخارج، فيجعل له حكماً ووجوباً، وإنّما نحن بالتحليل نقول أنّ الحكم مجعول على نهج القضيّة الحقيقيّة كهذا المثال، عندما يتحققّ مصداق لموضوعه يصبح الحكم فعليّاً في حقّه، هذه الفعلية ليست جعلاً، وهذه نقطة مهمّة، وهي أنّ التكثّر لا يرتبط بعالم الجعل، وإنّما يرتبط بعالم المجعول، فالجعل شيء واحد ليس فيه تكثّر، ولا يتعدّد بتعدّد أفراد موضوعه. هذا الجعل الواحد، الأمر الواقعي الواحد إذا كنّا شاكّين به؛ حينئذٍ تكون الشبهة حكميّة، وقلنا أنّه لا مشكلة في إجراء البراءة، ولا مشكلة في إجراء استصحاب عدم الجعل؛ لأننّا شاكّين في الجعل، والحالة السابقة هي العدم، فنستصحب عدم الجعل. أمّا إذا كنّا عالمين بالجعل، ولا نشكّ فيه، وإنّما نشكّ في المجعول، أي نشك في الأحكام التي عبّر عنها هو بـــ(الأحكام الجزئيّة)، والتي تثبت لأفراد الموضوع عندما تتحققّ، والتي نعبّر عنها بالمجعول، الذي هو أمر تحليلي ليس له واقع، ما له واقع هو الجعل الصادر من المولى، شكّنا إنّما هو في المجعول، وليس في الجعل، الشك في كون هذا مصداق للموضوع لا يعني تكثّر وتعدّد في الجعل حتّى نقول أنّ هذا الشكّ في التكثّر مسبوق بالعدم، فيجري استصحاب العدم، وإنّما الشكّ في المجعول، وهذا يعني أنّ استصحاب عدم الجعل لا يجري في الشبهات الموضوعيّة لسببٍ بسيط وهو أنّه بلحاظ الجعل لا يوجد تكثّر، لا الأفراد التي نتيّقن أنّها داخلة في الموضوع توجب تكثّر في الجعل، ولا الأفراد التي نشكّ في دخولها في الموضوع توجب الشكّ في سعة الجعل وضيقه، الجعل أمر واحد لا يتكثّر، وإنّما الذي يتكثّر هو المجعول. وعليه: فاستصحاب عدم الجعل لا يجري في الشبهات الموضوعيّة، وإنّما يجري في الشبهات الحكميّة، والذي يجري في الشبهات الموضوعيّة هو استصحاب المجعول عندما تتوفّر أركانه، هذا الشيء كان حراماً سابقاً وأشك في بقاء الحرمة، أو أنّه كان مباحاً سابقاً، وأشك في بقاء الإباحة، فاستصحب إباحته سابقاً، هذا استصحاب المجعول، ومن هنا لا يكون معارَضاً باستصحاب عدم الجعل في الشبهات الموضوعيّة، حتّى لو تمّ إشكاله ـــــ إشكال المعارَضة ــــــ في الشبهات الحكميّة، فهو لا يرد في الشبهات الموضوعيّة.
وأمّا المسألة التي طرحها هو(قدّس سرّه) من أنّه لولا الشك في التكليف لما جرت البراءة في الشبهات الموضوعيّة، وهي جارية بلا إشكال؛ لأنّ مبنى جريان البراءة في الشبهات الموضوعيّة هو أنّ هناك شكّ في التكليف. هذا مطلب صحيح، لكن الشكّ في التكليف لا يعني الشكّ في الجعل، وإنّما يعني الشك في المجعول، ففي الشبهات الموضوعيّة يجري الاستصحاب، لكن الذي يجري فيه هو استصحاب المجعول، وتجري البراءة؛ لأنّ الشك في المجعول، أي في التكليف الفعلي المتيّقن سابقاً، فالبراءة تجري في الشبهات الموضوعيّة، واستصحاب المجعول يجري في الشبهات الموضوعيّة، ولا يجري فيه استصحاب عدم الجعل؛ ولذا لا إشكال فيه من جهة المعارضة على ما ذكر.
[1] دراسات في علم الأصول، تقرير بحث السيّد الخوئي للسيّد الشاهرودي، جزء 3، صفحة 271.
[2] آل عمران/سوره3، آیه97