34/12/14
تحمیل
الموضوع: الأصول العمليّة/ الاحتياط/
الاحتياط الشرعي
كان الكلام في الرواية الأولى من الطائفة الثالثة وهي رواية جميل بن صالح، وقد بيّنا كيفية الاستدلال بها، وذكرنا المناقشة في الاستدلال بها، وكان حاصل المناقشة هو أنّ الرواية أجنبيّة عن محل الكلام، أو لا أقل من احتمال ذلك، باعتبار أنّه من المحتمل أنْ تكون الرواية ناظرة إلى المستقلات العقليّة وليس لها علاقة بالحرمة والحلّيّة، باعتبار أنّ الرشد والغيّ يناسبان المستقلات وغير المستقلات، ما يستقل العقل بقبحه، وما يستقل العقل بحسنه، ولا يناسبان الحرمة الواقعية والحلّيّة الواقعية كحكمين شرعيين واقعيين، فتكون أجنبيّة عن محل الكلام.
بعضهم حاول أنْ يردّ هذه المناقشة، الردّ الأوّل تقدّم في الدرس السابق، وبيّنّا أنّه لا يلزم من هذه المناقشة أنْ تُحمل الرواية على أنّها في مقام الإرشاد، وإنّما واضح فيها إعمال المولوية، ولو باعتبار النهي عن الرجوع إلى غير الشارع في غير المستقلات العقليّة، في غير المستقلات العقليّة أُمر بالردّ إلى الله(عزّ وجل)، وقلنا أنّ هذا معناه بناءً على هذه المناقشة، يعني لا يجوز إعمال الرأي والاستحسان والذوق وتحكيم هذه الأمور في ما لا يدرك العقل حسنه ولا قبحه؛ بل لابدّ من ردّه إلى الشارع، وهذا فيه إعمال مولويةٍ بلا إشكال.
الردّ الثاني الذي ذُكر، حاصله: أنّ حمل الرواية على المستقلات العقليّة وغيرها لا ينسجم مع قوله(عليه السلام) في ذيل الرواية(أو أمر اُختلف فيه)؛ إذ لا موضوع للاختلاف في المستقلات العقليّة؛ لأنّ العقل العملي إمّا أنْ يُدرك أنّ هذا الشيء حسن وعدل، وذاك قبيح وظلم، أو لا يُدرك، ولا رابع في البين، في باب المستقلات العقليّة لا يوجد أمر اختلف فيه العقل، فقوله(وأمر اخُتلف فيه) لا ينسجم مع حمل الرواية على المستقلات العقليّة وغيرها، بخلاف ما إذا حملنا الرواية على معناها المتقدّم وهو الحلّيّة الشرعيّة، والحرمة الشرعيّة، ويكون القسم هو أمر اُختلف فيه، هل هو حلال، أو هو حرام ؟ أمّا أنّه اختلف فيه العقل أنّه يدرك حسنه، أو لا يدرك حسنه، هذا لا وجه له في باب العقليات.
أقول: الظاهر أنّ هذا الردّ الثاني أيضاً غير واردٍ على المناقشة، وذلك باعتبار أنّ المراد من قوله(عليه السلام) (أو أمر اُختلف فيه) ليس هو ما يختلف فيه العقل نفسه حتّى يقال بأنّ العقل إمّا أن يُدرك حسن الشيء، أو يدرك قبحه، أو لا يدرك، ولا معنى لفرض الاختلاف في إدراك العقل؛ بل المراد من (أمر اُختلف فيه) بناءً على هذه المناقشة عدم إدراك العقل حسن شيء ولا قبحه، بمعنى أنّ العقل يدرك حسن شيءٍ فيتّبعه، وأخرى يدرك قبح شيءٍ، فيجتنبه، وأخرى لا يدرك لا حسنه ولا قبحه، عُبّر عن هذا بأنّه أمر اُختلِف فيه، يعني ليس واضح المعالم، وليس واضحاً بنظر العقل، لا هو يدرك حسنه بشكلٍ جازمٍ، ولا يدرك قبحه بشكلٍ جازمٍ، وهذا لا بأس به، أنْ نفترض قسماً ثالثاً بهذا المعنى؛ بل هو في كلامه افترض هذا القسم الثالث؛ لأنّه قال: إمّا أنْ يدرك العقل حُسنه، أو يدرك العقل قبحه، أو لا يدرك حُسنه ولا قُبحه، ولا رابع. نحن نقول أنّ الغرض منه هو هذا القسم الثالث، بمعنى أنّ العقل لا يُدرك حُسن الشيء، ولا قبحه؛ فحينئذٍ في هذا القسم الثالث عُبّر عنه في الرواية بمقتضى المناقشة ـــــ إذا تمّت ـــــ بأنّه أمر اختُلف فيه، بمعنى أنّ العقول تختلف فيه، بعضهم يقول هذا شيء حسن، والآخر يقول هذا قبيح، فلا يوجد شيء جزمي بنظر العقل، وإنّما اختلف فيه الناس، فيمكن تفسيره بهذا التفسير؛ وحينئذٍ لا يوجد عندنا اختلاف في نفس العقل، أنّ العقل يختلف في الشيء، هذا صحيح، لا مجال لأنْ نقول أنّ العقل يختلف في إدراك قُبح شيء، أو إدراك حُسنه، وإنّما المقصود بأمرٍ اُختُلف فيه، يعني لم يدرك العقل حُسنه ولا قُبحه؛ وحينئذٍ لا يرد هذا الإيراد على المناقشة.
الردّ الثالث الذي ذكره:هو أنّه قال: بأنّ نسبة الرشد والغيّ إلى المخاطب في هذه الشريعة(أمر تبيّن لك رشده)، و(أمر تبيّن لك غيّه)، أنّ ضمير(لك) يعود إلى مسلمٍ مخاطَبٍ ملتزمٍ بهذه الشريعة، هذه النسبة تدلّ على أنّ الرشد والغيّ أمران نسبيّان لا مطلقان، نسبة الرشد والغيّ إلى المسلم المخاطب الملتزم بهذه الشريعة تدلّ على أنّ الرشد والغيّ أمران نسبيان لا مطلقان، وإذا كان المراد من الرشد والغيّ العقل العملي المستقل؛ فحينئذٍ هذا لا يناسب أنْ يكون الرشد والغيّ أمرين نسبيّين؛ لأنّه لا يمكن أنْ يكون الرشد والغي في باب المستقلات العقليّة أمرين نسبيّين، يعني يثبت حُسن شيءٍ في هذه الشريعة، ولا يثبت في شريعةٍ أخرى، أو يثبتعند هذه الطائفة ولا يثبت عند هذه الطائفة، الحُسن والقُبح في المستقلات العقليّة أمران مطلقان، فما يكون حسناً يكون حسناً عند الجميع، وما يدرك العقل قبحه كالظلم يكون قبيحاً عند الجميع، لا أنْ يقال أنّ الضمير(لك) في قوله(تبيّن لك رشده) لا يناسب حمل الرواية على المستقلات العقليّة، وإنّما يناسب الرشد النسبي، والغي النسبي، وفي باب المستقلات العقليّة الرشد والغي، أي الحسن والقبح أمران مطلقان لا نسبيّان لا يثبتان عند المخاطب فقط دون الباقين، لا يثبتان عند هذه الشريعة دون الشرائع الأخرى، وعند هذه الطائفة دون الطائفة الأخرى. فإذن: هذا لا يناسب حمل الرواية على المستقلات العقليّة.
أقول: هذا أيضاً ليس واضحاً، باعتبار أنّ استفادة أنّ الرشد والغيّ امران نسبيان من قوله(عليه السلام)(تبيّن لك رشده)، أو(تبيّن لك غيّه) هذه الاستفادة غير ظاهرة؛ بل لعلّها غير صحيحة، باعتبار أنّ المخاطب بهذا الخطاب لا يُلحظ بما هو مسلم، وإنّما يُلحظ بما هو عاقل، الخطاب ـــــ بحسب المناقشة ـــــ في باب المستقلات العقليّة، فعندما يقال(تبيّن لك) يعني بما أنت عاقل، لا بما أنت مسلم، صحيح أنّ الخطاب هو(تبيّن لك رشده، أو تبيّن لك غيّه) لكنّ الملحوظ في هذا المخاطَب هو كونه عاقلاً لا كونه متعبّداً بشريعةٍ معيّنةٍ في قبال سائر الشرائع، أو كونه منتمياً إلى طائفةٍ في قبال سائر الطوائف، وإنّما المقصود به خطابه بما هو إنسان عاقل، أمور ثلاثة: أمر تبيّن لك بما أنت عاقل رشده، فاتّبِعه، وأمر تبيّن لك غيّه، فاجتنبه، كل منهما يدخل في باب المستقلات العقليّة التي يدرك العاقل بما هو عاقل أنّها حسنة، أو قبيحة، بيّنة الرشد، أو بيّنة الغيّ، المقصود هذا، من قبيل أنْ تخاطب إنساناً(إذا أدركت حُسن شيءٍ، فاتّبعه، وإذا أدركت قُبح شيءٍ، فاجتنبه) المقصود بهذا الخطاب هو أنّك تخاطبه بما هو إنسان عاقل لا بما هو من أصحاب شريعةٍ حتّى يُفهم منها النسبيّة، أنّ الرشد والغيّ أمران نسبيان ثابتان في هذه الشريعة دون سائر الشرائع، لا يُفهم منها هذا، وإنّما الخطاب يوجّه إلى الإنسان بما هو عاقل، فلا نسبيّة في البين؛ بل يثبت الإطلاق، وهذا يناسب حمل الرواية على المستقلات العقليّة.
الصحيح أنّ هذه الردود على المناقشة غير تامّة، أمّا أصل المناقشة للاستدلال، فهي ـــــ إنصافاً ـــــ محتملة، يعني أنْ تكون الرواية ناظرة إلى باب المستقلات العقليّة، وغير المستقلات العقليّة، كما أنّه يُحتمَل في الرواية أنْ تكون ناظرة إلى الأمور العقائديّة فقط، فتقول: هذه المسائل العقائديّة إذا كانت واضحة الرشد، فاتّبعها، أو واضحة الغيّ، فاجتنبها، أمّا الأمور العقائديّة المُختلَف فيها، فلا تُحكّم فيها عقلك الناقص، وإنّما أرجع فيها إلى الله(عزّ وجل)، وإلى رسوله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فيمكن أنْ تكون ناظرةً إلى المسائل العقائديّة. وعلى كلا التقديرين، سواء كانت ناظرة إلى المستقلات العقليّة، أو ناظرة إلى المسائل الاعتقاديّة، تكون أجنبيّة عن محل الكلام، ولا يصحّ الاستدلال بها على وجوب الاحتياط عند الشكّ في حرمة شيءٍ، أو حلّيته. وأمّا حملها على محل الكلام فهذا خلاف الظاهر.
هذا كلّه بالنسبة إلى الأمر الأوّل الذي يتوقّف عليه الاستدلال، حيث قلنا أنّ الاستدلال بهذه الرواية يتوقّف على أمورٍ ثلاثة:
الأمر الأوّل: هو أنْ يكون المقصود بـــ(تبيّن لك رشده) هو تبيّن لك حلّيته، والمقصود بــــ (تبيّن لك غيّه) هو تبيّن لك حرمته، فبيّن الرشد يعني بيّن الحلّيّة، وبيّن الغيّ يعني بيّن الحرمة. وقلنا أنّ هذا الأمر الأوّل خلاف الظاهر، وأنّ المناقشة فيه تامّة.
الأمر الثاني: هو أنْ يُراد من الأمر المُختلَف فيه ـــــ القسم الثالث في الرواية ـــــ الأمر المشكوك المشتبَه الدائر بين الحلّيّة والحرمة(وأمرٌ اختُلف فيه) يعني المشتبهات. فتكون الأقسام ثلاثة، معلوم الحلّيّة، ومعلوم الحرمة ــــ بناءً على تماميّة الأمر الأوّل ــــ والثالث أمر اختُلف فيه، يعني أمر مردّد مشكوك لا نعلم أنّه حلال، أو حرام، فيُفسّر(أمر اختُلف فيه) بالأمر المشكوك من حيث الحلّيّة والحرمة، حتّى ينطبق على محل الكلام، حيث أنّ كلامنا هو في الشكّ في حرمة شيءٍ، أو إباحته، أي في الشبهة التحريميّة. هل يمكن أنْ نستفيد من هذه العبارة (وأمر اُختلف فيه) يعني أمرٌ شُكّ فيه ؟ هذا صعب، فإثبات الأمر الثاني مشكل؛ لأنّ القول بأنّ المقصود من(أمر اختُلف فيه) يعني أمر شُكّ فيه، هو خلاف الظاهر، إلاّ بعناية، بأنْ نقول: حيث أنّ الشكّ في حرمة شيءٍ، أو إباحته يوجب الاختلاف عادةً، فعُبّر عن هذا الشيء المشكوك بما هو لازمه، وهو حصول الاختلاف عادةً، فقيل(أمر اختُلف فيه)، يعني أمر شُك في حلّيّته وحرمته، لكن حيث أنّ الشكّ في ذلك عادةً يكون موجباً للاختلاف، فعُبّر عنه بأمرٍ اختُلف فيه، والمقصود به هو أمر شُكّ فيه.
أقول: هذه العناية تحتاج إلى قرينةٍ، وبذل هذه العناية ليس أولى من أنْ نقول شيئاً آخراً يجعل الرواية أجنبيّة عن محل الكلام، وذلك بأنْ نبقي القسم الثالث ـــــ أمر اختُلف فيه ـــــعلى ظاهره، يعني هناك اختلاف فيه، أو هناك أقوال فيه، أنْ نبقي هذا على ظاهره، ونحمل قوله(تبيّن لك رشده)، أو(تبيّن لك غيّه) على الاتّفاق على الحلّيّة، والاتّفاق على الحرمة ــــــ بعد التنزّل عن مناقشة الأمر الأوّل ــــــ فتكون الرواية ناظرةً إلى الأمر المتّفق على حرمته، ونفسّر(الأمر الذي تبيّن لك غيّه) بالأمر المتّفق على حرمته على أساس نفس النكتة السابقة، وهو أنْ نقول: أنّ الاتّفاق على حرمة شيءٍ يكون موجباً لتبيّن الحرمة، والاتّفاق على حلّيّة شيءٍ يكون موجباً لتبيّن الحلّيّة، كما أننّا قلنا هناك بأنّ الشكّ في حرمة شيءٍ وإباحته يكون موجباً للاختلاف، هنا أيضاً نقول: الاتّفاق على حلّيّة شيءٍ يكون موجباً لتبيّن الحلّيّة، كما أنّ الاتّفاق على حرمة شيءٍ يكون موجباً لتبيّن الحرمة، فبدل التعبير بالاتّفاق عُبّر في الرواية بنتيجة الاتّفاق، وهي تبيّن الحلّيّة وتبيّن الحرمة، فتكون النتيجة هي أنّ الرواية تقول: أنّ الشيء المتفّق على حلّيّته، الذي عُبّر عنه بتبيّن الحلّيّة، أو المُتّفق على حرمته، الذي عُبّر عنه بتبيّن حرمته، هذا اعملْ به على أساس ذلك، تبيّن الحلّيّة اعملْ به على أنّه حلال، وإذا اتّفق على حرمته، تعامل معه على أساس ذلك؛ لأنّ الاتّفاق والإجماع حُجّة، وامّا الأمر المُختلَف فيه، فنبقيه على ظاهره، فلا يجوز لك أنْ تعمل بقول هذا، أو بقول هذا؛ لأنّه أمر مختلَف فيه لابدّ من ردّه إلى الله(عزّ وجل)، وإلى رسوله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وبهذا تكون الرواية أجنبيّةً عن محل الكلام، ولا علاقة لها بالشبهة الحكميّة التحريميّة، وإنّما هي ناظرة إلى الاتّفاق والاختلاف في المسألة الشرعيّة الفرعيّة، الحرمة المتّفق عليها اعملْ بها على أساس الاتفاق على الحرمة، والحلّيّة المتّفق عليها أيضاً اعملْ بها على أساس الحلّيّة المتّفق عليها، والأمر المختلَف فيه لابدّ من ردّه إلى الله(عزّ وجل)، وإلى رسوله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وهذا شيء لا علاقة له بمحل الكلام، فنحن لا نتكلّم عن حجّيّة الاتّفاق وعدم حجّيّته، وإنّما نتكلّم في أنّ مكلّفاً يشكّ في أنّ هذا الشيء حرام، أم حلال، شبهة حكميّة، هذا هل يجب عليه الاحتياط، أم لا ؟ بناءً على هذا التفسير تكون الرواية أجنبيّةً عن محل الكلام، ولا يُستفاد منها وجوب الاحتياط في الشبهة الحكميّة التحريميّة.
الغرض هو: أنّ حمل (أمر اختُلف فيه) على أنّه شُكّ فيه كما هو مبنى الاستدلال هو خلاف الظاهر، إلاّ بإعمال عنايةٍ، وهي أنّ الاختلاف في الحرمة والحلّيّة عادةً يوجب الشكّ، فعُبّر عن الشكّ في الحرمة والحلّيّة بالاختلاف، فقيل أمر اختُلف فيه، والمقصود هو أمر شُكّ في حلّيّته وحرمته؛ حينئذٍ نقول: أنّ إعمال هذه العناية ليس أولى من أنْ نُعمِل العناية في جانب تبيّن الغيّ وتبيّن الرشد، نفس العناية، بأنْ نبقي(أمر اختُلف فيه) على ظهوره، يعني أمر اختلفوا فيه، بعضهم يقول حلال، وبعضهم يقول حرام، و(تبيّن لك غيّه) يعني أمر اتّفق على حرمته ـــــ بعد التنزّل والتسليم بالأمر الأوّل ـــــ يعني أمر اتّفق على حرمته، أو أمر اتّفق على حلّيّته، وعُبّر عن الاتّفاق عن الحرمة والحلّيّة بتبيّن الحرمة والحلّيّة؛ لأنّ الاتّفاق على الحلّيّة عادةً يكون موجباً لتبيّن الحلّيّة، كما أنّ الاتّفاق على الحرمة يكون موجباّ عادةً لتبيّن الحرمة، فعُبِّر عن الاتّفاق على الحلّيّة بتبيّن الحلّيّة، وعن الاتّفاق على الحرمة بتبيّن الحرمة، فتكون الرواية ناظرةً إلى الإجماع والاتّفاق، أمّا إذا تعدّدت الأقوال في المسألة، ففي هذه الحالة لا يجوز أنْ تعمل بقول هذا، أو بقول هذا، وإنّما لابدّ من استنباط حكم المسألة من الأدلّة الشرعيّة الواردة عن الشارع، وبهذا تكون الرواية أجنبيّةً عن محل الكلام. على كل حالٍ، حمل(أمر اُختلف فيه) على أنّه أمر شُكّ فيه من حيث الحلّيّة والحرمة هو خلاف الظاهر. هذا بالنسبة إلى الأمر الثاني.
وأمّا الأمر الثالث الذي يتوقّف عليه الاستدلال: والذي هو أنّ قوله(فردّه إلى الله) يعني احتط فيه، يعني يجب عليك الاحتياط، فهو أيضاً ليس واضحاً بذاك الشكل؛ بل لعلّ قوله(فردّه إلى الله) يعني خُذ حكمه من الله (عزّ وجل)، في قِبال أخذ الحكم من أحكام العقول الظنّيّة والعقول الناقصة.
إذن: الظاهر أنّ كل الأمور التي يتوقّف عليها الاستدلال بالرواية على وجوب الاحتياط في محل الكلام ليست تامّة، ومن هنا يظهر عدم صحّة الاستدلال بهذه الرواية.
الرواية الثانية من الطائفة الثالثة: الرواية المعروفة المرويّة بصيّغ متعدّدة، ورواياتها أيضاً متعدّدة، وكل رواياتها ضعيفة سنداً حسب الظاهر. صاحب الوسائل(قُدّس سرّه) ينقل هذه الرواية عن، ابن الشيخ الطوسي في أماليه، الحسن بن محمد بن الحسن الطوسي في أماليه، عن أبيه، عن علي بن احمد بن الحمامي، عن احمد بن محمد القطّان، عن إسماعيل بن أبي كثير، عن علي بن إبراهيم، عن السري بن عامر، عن النعمان بن بشير.
الظاهرأنّ المقصود بالنعمان بن بشير هو الصحابي الأنصاري المعروف، وكان منحرفاً، والسرّ في كون النعمان بن بشير هو الصحابي المعروف هو أنّ هذه الرواية موجودة في كتب العامّة، وأيضاً ينسبوها إلى النعمان بن بشير، ولا يوجد غيره من الصحابة من يُسمّى ظاهراً بالنعمان بن بشير غيره.
قال:(سمعت رسول الله "صلّى الله عليه وآله وسلّم" يقول:إنّ لكل ملكٍ حمى، وإنّ حما الله حلاله وحرامه، والمشتبهات بين ذلك، كما لو أنّ راعياً رعى إلى جانب الحمى لم يثبت غنمه أنْ تقع في وسطه، فدعوا المشتبهات).[1]
الاستدلال بالرواية: الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ـــــ بناءً على تماميّة الرواية ـــــ يأمر بترك المشتبِهات، وهو يصرّح بأنّ المشتبِهات بين ذلك، حلال وحرام، هذا حمى الله(عزّ وجل) والمشتبهات بين ذلك، مرددّة بين أنْ تكون حلالاً، أو حراماً، وهي الشبهة الحكميّة التحريميّة التي هي محل الكلام، فيُفهم من هذا وجوب ترك الشبهة، والذي يعني بعبارةٍ أخرى وجوب الاحتياط في الشبهة الحكميّة التحريميّة .
مضمون هذه الرواية موجود في كثيرٍ من الروايات:
منها: مرسلة الصدوق(قُدّس سرّه) ، لا بأس بقراءتها لأنّ لسانها يختلف، قال الشيخ الصدوق(قُدّس سرّه) في الفقيه:(إنّ أمير المؤمنين(عليه السلام) خطب الناس، فقال في كلامٍ ذكره: حلالٌ بيّن، وحرامٌ بيّن، وشبهات بين ذلك، فمن ترك ما اشتبه عليه من الإثم، فهو لما استبان له أترك، والمعاصي حمى الله، فمن يرتع حولها يوشك أنْ يدخلها).[2][3]
ومنها: رواية سلام بن المستنير، وهي رواية طويلة عن الإمام الباقر(عليه السلام)، قال:(قال جدّي رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم: أيّها الناس حلالي حلالٌ إلى يوم القيامة، وحرامي حرامٌ إلى يوم القيامة، إلا وقد بيّنهما الله(عزّ وجل) في الكتاب، وبيّنتها لكم في سُنّتي وسيرتي، وبينهما شبهات من الشيطان وبِدع بعدي من تركها صلح له أمر دينه، وصلحت له مروته وعرضه، ومن تلبّس بها وقع فيها واتّبعها، كان كمن رعى غنمه قرب الحمى، ومن رعى ماشيته قرب الحمى نازعته نفسه أنْ يرعاها في الحمى، إلا وإنّ لكل ملكٍ حمى، إلا وإنّ حمى الله(عزّ وجل) محارمه، فتوقّوا حمى الله ومحارمه.....الحديث).[4]
هذه الروايات بأجمعهاغير تامّة سنداً للإرسال، أو لضعف الرواة، أو لكونها عامّيّة...الخ، لكنّ المضمون متكررّ، خصوصاً في كتب العامّة موجود نفس هذا المضمون، وإنْ كانت في كتب العامّة هي أيضاً مرويّة عن النعمان بن بشير، وكون الروايات المتعددّة تنتهي إلى راوٍ واحدٍ يمنع من تحققّ حتّى الاستفاضة بالشكل المطلوب. روايات عديدة بهذا المضمون قد يمكن للإنسان أنْ يفحص أكثر، ويحققّ الاستفاضة بهذا المضمون.،أأ
كان الكلام في الرواية الأولى من الطائفة الثالثة وهي رواية جميل بن صالح، وقد بيّنا كيفية الاستدلال بها، وذكرنا المناقشة في الاستدلال بها، وكان حاصل المناقشة هو أنّ الرواية أجنبيّة عن محل الكلام، أو لا أقل من احتمال ذلك، باعتبار أنّه من المحتمل أنْ تكون الرواية ناظرة إلى المستقلات العقليّة وليس لها علاقة بالحرمة والحلّيّة، باعتبار أنّ الرشد والغيّ يناسبان المستقلات وغير المستقلات، ما يستقل العقل بقبحه، وما يستقل العقل بحسنه، ولا يناسبان الحرمة الواقعية والحلّيّة الواقعية كحكمين شرعيين واقعيين، فتكون أجنبيّة عن محل الكلام.
بعضهم حاول أنْ يردّ هذه المناقشة، الردّ الأوّل تقدّم في الدرس السابق، وبيّنّا أنّه لا يلزم من هذه المناقشة أنْ تُحمل الرواية على أنّها في مقام الإرشاد، وإنّما واضح فيها إعمال المولوية، ولو باعتبار النهي عن الرجوع إلى غير الشارع في غير المستقلات العقليّة، في غير المستقلات العقليّة أُمر بالردّ إلى الله(عزّ وجل)، وقلنا أنّ هذا معناه بناءً على هذه المناقشة، يعني لا يجوز إعمال الرأي والاستحسان والذوق وتحكيم هذه الأمور في ما لا يدرك العقل حسنه ولا قبحه؛ بل لابدّ من ردّه إلى الشارع، وهذا فيه إعمال مولويةٍ بلا إشكال.
الردّ الثاني الذي ذُكر، حاصله: أنّ حمل الرواية على المستقلات العقليّة وغيرها لا ينسجم مع قوله(عليه السلام) في ذيل الرواية(أو أمر اُختلف فيه)؛ إذ لا موضوع للاختلاف في المستقلات العقليّة؛ لأنّ العقل العملي إمّا أنْ يُدرك أنّ هذا الشيء حسن وعدل، وذاك قبيح وظلم، أو لا يُدرك، ولا رابع في البين، في باب المستقلات العقليّة لا يوجد أمر اختلف فيه العقل، فقوله(وأمر اخُتلف فيه) لا ينسجم مع حمل الرواية على المستقلات العقليّة وغيرها، بخلاف ما إذا حملنا الرواية على معناها المتقدّم وهو الحلّيّة الشرعيّة، والحرمة الشرعيّة، ويكون القسم هو أمر اُختلف فيه، هل هو حلال، أو هو حرام ؟ أمّا أنّه اختلف فيه العقل أنّه يدرك حسنه، أو لا يدرك حسنه، هذا لا وجه له في باب العقليات.
أقول: الظاهر أنّ هذا الردّ الثاني أيضاً غير واردٍ على المناقشة، وذلك باعتبار أنّ المراد من قوله(عليه السلام) (أو أمر اُختلف فيه) ليس هو ما يختلف فيه العقل نفسه حتّى يقال بأنّ العقل إمّا أن يُدرك حسن الشيء، أو يدرك قبحه، أو لا يدرك، ولا معنى لفرض الاختلاف في إدراك العقل؛ بل المراد من (أمر اُختلف فيه) بناءً على هذه المناقشة عدم إدراك العقل حسن شيء ولا قبحه، بمعنى أنّ العقل يدرك حسن شيءٍ فيتّبعه، وأخرى يدرك قبح شيءٍ، فيجتنبه، وأخرى لا يدرك لا حسنه ولا قبحه، عُبّر عن هذا بأنّه أمر اُختلِف فيه، يعني ليس واضح المعالم، وليس واضحاً بنظر العقل، لا هو يدرك حسنه بشكلٍ جازمٍ، ولا يدرك قبحه بشكلٍ جازمٍ، وهذا لا بأس به، أنْ نفترض قسماً ثالثاً بهذا المعنى؛ بل هو في كلامه افترض هذا القسم الثالث؛ لأنّه قال: إمّا أنْ يدرك العقل حُسنه، أو يدرك العقل قبحه، أو لا يدرك حُسنه ولا قُبحه، ولا رابع. نحن نقول أنّ الغرض منه هو هذا القسم الثالث، بمعنى أنّ العقل لا يُدرك حُسن الشيء، ولا قبحه؛ فحينئذٍ في هذا القسم الثالث عُبّر عنه في الرواية بمقتضى المناقشة ـــــ إذا تمّت ـــــ بأنّه أمر اختُلف فيه، بمعنى أنّ العقول تختلف فيه، بعضهم يقول هذا شيء حسن، والآخر يقول هذا قبيح، فلا يوجد شيء جزمي بنظر العقل، وإنّما اختلف فيه الناس، فيمكن تفسيره بهذا التفسير؛ وحينئذٍ لا يوجد عندنا اختلاف في نفس العقل، أنّ العقل يختلف في الشيء، هذا صحيح، لا مجال لأنْ نقول أنّ العقل يختلف في إدراك قُبح شيء، أو إدراك حُسنه، وإنّما المقصود بأمرٍ اُختُلف فيه، يعني لم يدرك العقل حُسنه ولا قُبحه؛ وحينئذٍ لا يرد هذا الإيراد على المناقشة.
الردّ الثالث الذي ذكره:هو أنّه قال: بأنّ نسبة الرشد والغيّ إلى المخاطب في هذه الشريعة(أمر تبيّن لك رشده)، و(أمر تبيّن لك غيّه)، أنّ ضمير(لك) يعود إلى مسلمٍ مخاطَبٍ ملتزمٍ بهذه الشريعة، هذه النسبة تدلّ على أنّ الرشد والغيّ أمران نسبيّان لا مطلقان، نسبة الرشد والغيّ إلى المسلم المخاطب الملتزم بهذه الشريعة تدلّ على أنّ الرشد والغيّ أمران نسبيان لا مطلقان، وإذا كان المراد من الرشد والغيّ العقل العملي المستقل؛ فحينئذٍ هذا لا يناسب أنْ يكون الرشد والغيّ أمرين نسبيّين؛ لأنّه لا يمكن أنْ يكون الرشد والغي في باب المستقلات العقليّة أمرين نسبيّين، يعني يثبت حُسن شيءٍ في هذه الشريعة، ولا يثبت في شريعةٍ أخرى، أو يثبتعند هذه الطائفة ولا يثبت عند هذه الطائفة، الحُسن والقُبح في المستقلات العقليّة أمران مطلقان، فما يكون حسناً يكون حسناً عند الجميع، وما يدرك العقل قبحه كالظلم يكون قبيحاً عند الجميع، لا أنْ يقال أنّ الضمير(لك) في قوله(تبيّن لك رشده) لا يناسب حمل الرواية على المستقلات العقليّة، وإنّما يناسب الرشد النسبي، والغي النسبي، وفي باب المستقلات العقليّة الرشد والغي، أي الحسن والقبح أمران مطلقان لا نسبيّان لا يثبتان عند المخاطب فقط دون الباقين، لا يثبتان عند هذه الشريعة دون الشرائع الأخرى، وعند هذه الطائفة دون الطائفة الأخرى. فإذن: هذا لا يناسب حمل الرواية على المستقلات العقليّة.
أقول: هذا أيضاً ليس واضحاً، باعتبار أنّ استفادة أنّ الرشد والغيّ امران نسبيان من قوله(عليه السلام)(تبيّن لك رشده)، أو(تبيّن لك غيّه) هذه الاستفادة غير ظاهرة؛ بل لعلّها غير صحيحة، باعتبار أنّ المخاطب بهذا الخطاب لا يُلحظ بما هو مسلم، وإنّما يُلحظ بما هو عاقل، الخطاب ـــــ بحسب المناقشة ـــــ في باب المستقلات العقليّة، فعندما يقال(تبيّن لك) يعني بما أنت عاقل، لا بما أنت مسلم، صحيح أنّ الخطاب هو(تبيّن لك رشده، أو تبيّن لك غيّه) لكنّ الملحوظ في هذا المخاطَب هو كونه عاقلاً لا كونه متعبّداً بشريعةٍ معيّنةٍ في قبال سائر الشرائع، أو كونه منتمياً إلى طائفةٍ في قبال سائر الطوائف، وإنّما المقصود به خطابه بما هو إنسان عاقل، أمور ثلاثة: أمر تبيّن لك بما أنت عاقل رشده، فاتّبِعه، وأمر تبيّن لك غيّه، فاجتنبه، كل منهما يدخل في باب المستقلات العقليّة التي يدرك العاقل بما هو عاقل أنّها حسنة، أو قبيحة، بيّنة الرشد، أو بيّنة الغيّ، المقصود هذا، من قبيل أنْ تخاطب إنساناً(إذا أدركت حُسن شيءٍ، فاتّبعه، وإذا أدركت قُبح شيءٍ، فاجتنبه) المقصود بهذا الخطاب هو أنّك تخاطبه بما هو إنسان عاقل لا بما هو من أصحاب شريعةٍ حتّى يُفهم منها النسبيّة، أنّ الرشد والغيّ أمران نسبيان ثابتان في هذه الشريعة دون سائر الشرائع، لا يُفهم منها هذا، وإنّما الخطاب يوجّه إلى الإنسان بما هو عاقل، فلا نسبيّة في البين؛ بل يثبت الإطلاق، وهذا يناسب حمل الرواية على المستقلات العقليّة.
الصحيح أنّ هذه الردود على المناقشة غير تامّة، أمّا أصل المناقشة للاستدلال، فهي ـــــ إنصافاً ـــــ محتملة، يعني أنْ تكون الرواية ناظرة إلى باب المستقلات العقليّة، وغير المستقلات العقليّة، كما أنّه يُحتمَل في الرواية أنْ تكون ناظرة إلى الأمور العقائديّة فقط، فتقول: هذه المسائل العقائديّة إذا كانت واضحة الرشد، فاتّبعها، أو واضحة الغيّ، فاجتنبها، أمّا الأمور العقائديّة المُختلَف فيها، فلا تُحكّم فيها عقلك الناقص، وإنّما أرجع فيها إلى الله(عزّ وجل)، وإلى رسوله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فيمكن أنْ تكون ناظرةً إلى المسائل العقائديّة. وعلى كلا التقديرين، سواء كانت ناظرة إلى المستقلات العقليّة، أو ناظرة إلى المسائل الاعتقاديّة، تكون أجنبيّة عن محل الكلام، ولا يصحّ الاستدلال بها على وجوب الاحتياط عند الشكّ في حرمة شيءٍ، أو حلّيته. وأمّا حملها على محل الكلام فهذا خلاف الظاهر.
هذا كلّه بالنسبة إلى الأمر الأوّل الذي يتوقّف عليه الاستدلال، حيث قلنا أنّ الاستدلال بهذه الرواية يتوقّف على أمورٍ ثلاثة:
الأمر الأوّل: هو أنْ يكون المقصود بـــ(تبيّن لك رشده) هو تبيّن لك حلّيته، والمقصود بــــ (تبيّن لك غيّه) هو تبيّن لك حرمته، فبيّن الرشد يعني بيّن الحلّيّة، وبيّن الغيّ يعني بيّن الحرمة. وقلنا أنّ هذا الأمر الأوّل خلاف الظاهر، وأنّ المناقشة فيه تامّة.
الأمر الثاني: هو أنْ يُراد من الأمر المُختلَف فيه ـــــ القسم الثالث في الرواية ـــــ الأمر المشكوك المشتبَه الدائر بين الحلّيّة والحرمة(وأمرٌ اختُلف فيه) يعني المشتبهات. فتكون الأقسام ثلاثة، معلوم الحلّيّة، ومعلوم الحرمة ــــ بناءً على تماميّة الأمر الأوّل ــــ والثالث أمر اختُلف فيه، يعني أمر مردّد مشكوك لا نعلم أنّه حلال، أو حرام، فيُفسّر(أمر اختُلف فيه) بالأمر المشكوك من حيث الحلّيّة والحرمة، حتّى ينطبق على محل الكلام، حيث أنّ كلامنا هو في الشكّ في حرمة شيءٍ، أو إباحته، أي في الشبهة التحريميّة. هل يمكن أنْ نستفيد من هذه العبارة (وأمر اُختلف فيه) يعني أمرٌ شُكّ فيه ؟ هذا صعب، فإثبات الأمر الثاني مشكل؛ لأنّ القول بأنّ المقصود من(أمر اختُلف فيه) يعني أمر شُكّ فيه، هو خلاف الظاهر، إلاّ بعناية، بأنْ نقول: حيث أنّ الشكّ في حرمة شيءٍ، أو إباحته يوجب الاختلاف عادةً، فعُبّر عن هذا الشيء المشكوك بما هو لازمه، وهو حصول الاختلاف عادةً، فقيل(أمر اختُلف فيه)، يعني أمر شُك في حلّيّته وحرمته، لكن حيث أنّ الشكّ في ذلك عادةً يكون موجباً للاختلاف، فعُبّر عنه بأمرٍ اختُلف فيه، والمقصود به هو أمر شُكّ فيه.
أقول: هذه العناية تحتاج إلى قرينةٍ، وبذل هذه العناية ليس أولى من أنْ نقول شيئاً آخراً يجعل الرواية أجنبيّة عن محل الكلام، وذلك بأنْ نبقي القسم الثالث ـــــ أمر اختُلف فيه ـــــعلى ظاهره، يعني هناك اختلاف فيه، أو هناك أقوال فيه، أنْ نبقي هذا على ظاهره، ونحمل قوله(تبيّن لك رشده)، أو(تبيّن لك غيّه) على الاتّفاق على الحلّيّة، والاتّفاق على الحرمة ــــــ بعد التنزّل عن مناقشة الأمر الأوّل ــــــ فتكون الرواية ناظرةً إلى الأمر المتّفق على حرمته، ونفسّر(الأمر الذي تبيّن لك غيّه) بالأمر المتّفق على حرمته على أساس نفس النكتة السابقة، وهو أنْ نقول: أنّ الاتّفاق على حرمة شيءٍ يكون موجباً لتبيّن الحرمة، والاتّفاق على حلّيّة شيءٍ يكون موجباً لتبيّن الحلّيّة، كما أننّا قلنا هناك بأنّ الشكّ في حرمة شيءٍ وإباحته يكون موجباً للاختلاف، هنا أيضاً نقول: الاتّفاق على حلّيّة شيءٍ يكون موجباً لتبيّن الحلّيّة، كما أنّ الاتّفاق على حرمة شيءٍ يكون موجباً لتبيّن الحرمة، فبدل التعبير بالاتّفاق عُبّر في الرواية بنتيجة الاتّفاق، وهي تبيّن الحلّيّة وتبيّن الحرمة، فتكون النتيجة هي أنّ الرواية تقول: أنّ الشيء المتفّق على حلّيّته، الذي عُبّر عنه بتبيّن الحلّيّة، أو المُتّفق على حرمته، الذي عُبّر عنه بتبيّن حرمته، هذا اعملْ به على أساس ذلك، تبيّن الحلّيّة اعملْ به على أنّه حلال، وإذا اتّفق على حرمته، تعامل معه على أساس ذلك؛ لأنّ الاتّفاق والإجماع حُجّة، وامّا الأمر المُختلَف فيه، فنبقيه على ظاهره، فلا يجوز لك أنْ تعمل بقول هذا، أو بقول هذا؛ لأنّه أمر مختلَف فيه لابدّ من ردّه إلى الله(عزّ وجل)، وإلى رسوله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وبهذا تكون الرواية أجنبيّةً عن محل الكلام، ولا علاقة لها بالشبهة الحكميّة التحريميّة، وإنّما هي ناظرة إلى الاتّفاق والاختلاف في المسألة الشرعيّة الفرعيّة، الحرمة المتّفق عليها اعملْ بها على أساس الاتفاق على الحرمة، والحلّيّة المتّفق عليها أيضاً اعملْ بها على أساس الحلّيّة المتّفق عليها، والأمر المختلَف فيه لابدّ من ردّه إلى الله(عزّ وجل)، وإلى رسوله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وهذا شيء لا علاقة له بمحل الكلام، فنحن لا نتكلّم عن حجّيّة الاتّفاق وعدم حجّيّته، وإنّما نتكلّم في أنّ مكلّفاً يشكّ في أنّ هذا الشيء حرام، أم حلال، شبهة حكميّة، هذا هل يجب عليه الاحتياط، أم لا ؟ بناءً على هذا التفسير تكون الرواية أجنبيّةً عن محل الكلام، ولا يُستفاد منها وجوب الاحتياط في الشبهة الحكميّة التحريميّة.
الغرض هو: أنّ حمل (أمر اختُلف فيه) على أنّه شُكّ فيه كما هو مبنى الاستدلال هو خلاف الظاهر، إلاّ بإعمال عنايةٍ، وهي أنّ الاختلاف في الحرمة والحلّيّة عادةً يوجب الشكّ، فعُبّر عن الشكّ في الحرمة والحلّيّة بالاختلاف، فقيل أمر اختُلف فيه، والمقصود هو أمر شُكّ في حلّيّته وحرمته؛ حينئذٍ نقول: أنّ إعمال هذه العناية ليس أولى من أنْ نُعمِل العناية في جانب تبيّن الغيّ وتبيّن الرشد، نفس العناية، بأنْ نبقي(أمر اختُلف فيه) على ظهوره، يعني أمر اختلفوا فيه، بعضهم يقول حلال، وبعضهم يقول حرام، و(تبيّن لك غيّه) يعني أمر اتّفق على حرمته ـــــ بعد التنزّل والتسليم بالأمر الأوّل ـــــ يعني أمر اتّفق على حرمته، أو أمر اتّفق على حلّيّته، وعُبّر عن الاتّفاق عن الحرمة والحلّيّة بتبيّن الحرمة والحلّيّة؛ لأنّ الاتّفاق على الحلّيّة عادةً يكون موجباً لتبيّن الحلّيّة، كما أنّ الاتّفاق على الحرمة يكون موجباّ عادةً لتبيّن الحرمة، فعُبِّر عن الاتّفاق على الحلّيّة بتبيّن الحلّيّة، وعن الاتّفاق على الحرمة بتبيّن الحرمة، فتكون الرواية ناظرةً إلى الإجماع والاتّفاق، أمّا إذا تعدّدت الأقوال في المسألة، ففي هذه الحالة لا يجوز أنْ تعمل بقول هذا، أو بقول هذا، وإنّما لابدّ من استنباط حكم المسألة من الأدلّة الشرعيّة الواردة عن الشارع، وبهذا تكون الرواية أجنبيّةً عن محل الكلام. على كل حالٍ، حمل(أمر اُختلف فيه) على أنّه أمر شُكّ فيه من حيث الحلّيّة والحرمة هو خلاف الظاهر. هذا بالنسبة إلى الأمر الثاني.
وأمّا الأمر الثالث الذي يتوقّف عليه الاستدلال: والذي هو أنّ قوله(فردّه إلى الله) يعني احتط فيه، يعني يجب عليك الاحتياط، فهو أيضاً ليس واضحاً بذاك الشكل؛ بل لعلّ قوله(فردّه إلى الله) يعني خُذ حكمه من الله (عزّ وجل)، في قِبال أخذ الحكم من أحكام العقول الظنّيّة والعقول الناقصة.
إذن: الظاهر أنّ كل الأمور التي يتوقّف عليها الاستدلال بالرواية على وجوب الاحتياط في محل الكلام ليست تامّة، ومن هنا يظهر عدم صحّة الاستدلال بهذه الرواية.
الرواية الثانية من الطائفة الثالثة: الرواية المعروفة المرويّة بصيّغ متعدّدة، ورواياتها أيضاً متعدّدة، وكل رواياتها ضعيفة سنداً حسب الظاهر. صاحب الوسائل(قُدّس سرّه) ينقل هذه الرواية عن، ابن الشيخ الطوسي في أماليه، الحسن بن محمد بن الحسن الطوسي في أماليه، عن أبيه، عن علي بن احمد بن الحمامي، عن احمد بن محمد القطّان، عن إسماعيل بن أبي كثير، عن علي بن إبراهيم، عن السري بن عامر، عن النعمان بن بشير.
الظاهرأنّ المقصود بالنعمان بن بشير هو الصحابي الأنصاري المعروف، وكان منحرفاً، والسرّ في كون النعمان بن بشير هو الصحابي المعروف هو أنّ هذه الرواية موجودة في كتب العامّة، وأيضاً ينسبوها إلى النعمان بن بشير، ولا يوجد غيره من الصحابة من يُسمّى ظاهراً بالنعمان بن بشير غيره.
قال:(سمعت رسول الله "صلّى الله عليه وآله وسلّم" يقول:إنّ لكل ملكٍ حمى، وإنّ حما الله حلاله وحرامه، والمشتبهات بين ذلك، كما لو أنّ راعياً رعى إلى جانب الحمى لم يثبت غنمه أنْ تقع في وسطه، فدعوا المشتبهات).[1]
الاستدلال بالرواية: الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ـــــ بناءً على تماميّة الرواية ـــــ يأمر بترك المشتبِهات، وهو يصرّح بأنّ المشتبِهات بين ذلك، حلال وحرام، هذا حمى الله(عزّ وجل) والمشتبهات بين ذلك، مرددّة بين أنْ تكون حلالاً، أو حراماً، وهي الشبهة الحكميّة التحريميّة التي هي محل الكلام، فيُفهم من هذا وجوب ترك الشبهة، والذي يعني بعبارةٍ أخرى وجوب الاحتياط في الشبهة الحكميّة التحريميّة .
مضمون هذه الرواية موجود في كثيرٍ من الروايات:
منها: مرسلة الصدوق(قُدّس سرّه) ، لا بأس بقراءتها لأنّ لسانها يختلف، قال الشيخ الصدوق(قُدّس سرّه) في الفقيه:(إنّ أمير المؤمنين(عليه السلام) خطب الناس، فقال في كلامٍ ذكره: حلالٌ بيّن، وحرامٌ بيّن، وشبهات بين ذلك، فمن ترك ما اشتبه عليه من الإثم، فهو لما استبان له أترك، والمعاصي حمى الله، فمن يرتع حولها يوشك أنْ يدخلها).[2][3]
ومنها: رواية سلام بن المستنير، وهي رواية طويلة عن الإمام الباقر(عليه السلام)، قال:(قال جدّي رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم: أيّها الناس حلالي حلالٌ إلى يوم القيامة، وحرامي حرامٌ إلى يوم القيامة، إلا وقد بيّنهما الله(عزّ وجل) في الكتاب، وبيّنتها لكم في سُنّتي وسيرتي، وبينهما شبهات من الشيطان وبِدع بعدي من تركها صلح له أمر دينه، وصلحت له مروته وعرضه، ومن تلبّس بها وقع فيها واتّبعها، كان كمن رعى غنمه قرب الحمى، ومن رعى ماشيته قرب الحمى نازعته نفسه أنْ يرعاها في الحمى، إلا وإنّ لكل ملكٍ حمى، إلا وإنّ حمى الله(عزّ وجل) محارمه، فتوقّوا حمى الله ومحارمه.....الحديث).[4]
هذه الروايات بأجمعهاغير تامّة سنداً للإرسال، أو لضعف الرواة، أو لكونها عامّيّة...الخ، لكنّ المضمون متكررّ، خصوصاً في كتب العامّة موجود نفس هذا المضمون، وإنْ كانت في كتب العامّة هي أيضاً مرويّة عن النعمان بن بشير، وكون الروايات المتعددّة تنتهي إلى راوٍ واحدٍ يمنع من تحققّ حتّى الاستفاضة بالشكل المطلوب. روايات عديدة بهذا المضمون قد يمكن للإنسان أنْ يفحص أكثر، ويحققّ الاستفاضة بهذا المضمون.،أأ