34/12/15
تحمیل
الموضوع: الأصول العمليّة/ الاحتياط/
الاحتياط الشرعي
كان الكلام في الرواية الثانية من روايات التثليث وهي رواية النعمان بن بشير، وقلنا أنّ مضمون هذه الرواية موجود في رواياتٍ أخرى ذكرنا بعضها.
الكلام يقع في الاستدلال بهذه الروايات على وجوب الاحتياط في محل الكلام. في الواقع الاستدلال بهذه الرواية وما كان بمضمونها على وجوب الاحتياط في محل الكلام يواجه مشكلة في الدلالة، وذلك لأنّ المستفاد من هذه الرواية وما كان بمضمونها هو أنّ ارتكاب الشبهات يوجب اقتراب الإنسان من الوقوع في الحرام، مفادها أنّ مرتكب الشبهة ـــــ كما في بعض الروايات ـــــ مشرف على الوقوع في المحرّمات. الواضح من خلال التمثيل بالحمى (وراعي الغنم يوشك أنْ يقع فيه)، أو(كان لما استبان له من الإثم أترك)، وأمثال هذه العبارات، يُفهم منها أنّ ارتكاب الشبهة يوجب أنْ يقترب الإنسان من المحرمات بحيث يكون مشرفاً على الدخول في المحرّمات؛ وحينئذٍ من يستدل بهذه الروايات على وجوب الاحتياط لابدّ أنْ يثبت بأنّ الإشراف على المحرّمات والاقتراب منها حرام، وأنّه يجب عدم الاقتراب من المحرّمات حتّى يكون بإمكانه أنْ يستدل بهذه الروايات على وجوب اجتناب الشبهة والاحتياط في الشبهات؛ لأنّ مفاد هذه الروايات هو أنّ ارتكاب الشبهة يوجب الاقتراب من المحرّمات، لكن من قال أنّ الاقتراب من المحرّمات والإشراف عليها حرام يجب تركه ؟ إذا ثبت وجوب تركه؛ حينئذٍ يمكن الاستدلال بهذه الروايات على وجوب ترك الشبهة؛ لأنّ ارتكاب الشبهة يوجب الاقتراب من الحرام، والاقتراب من الحرام حرام، لكن من الواضح أنّ هذا يتوقّف على إثبات أنّ الاقتراب من المحرّمات حرام، وأنّ ترك الاقتراب من المحرّمات واجب. أمّا إذا لم نقل بوجوب ترك الاقتراب من المحرّمات، وقلنا بجواز الاقتراب، ولو على نحو الكراهة؛ حينئذٍ لا يمكن إثبات وجوب الاحتياط وحرمة ارتكاب الشبهة، وإنّما غاية ما يثبت هو الجواز على نحو الكراهة، وهذا ليس هو المقصود للأخباريين، الأخباريون يريدون أنْ يثبتوا حرمة ارتكاب الشبهة، ووجوب الاجتناب عن الشبهة، بينما لا يُستفاد هذا المعنى من لسان هذه الروايات، وإنّما يُستفاد منه أنّ ارتكاب الشبهات يوجب الاقتراب من المحرّمات.
يمكن صياغة هذا المطلب بصياغةٍ أخرى: أنّ الروايات واضحة في أنّها تقول هناك أمور ثلاثة(حلال بيّن، وحرام بيّن، وشبهات لا يُعلم حرمتها ولا حلّيتها) والذي يُفهم من هذه الروايات(لو أنّ راعياً رعى حول الحمى أوشك أنْ يقع فيها)، أو(فمن ترك ما اشتبه له من الإثم كان لما استبان له أترك) وأمثال هذه العبارات، الذي يُستفاد منها هذا المعنى الذي قلناه من أنّ ارتكاب الشبهات ليس فيه محذور ومانع نفسي، وإنّما محذوره هو أنّه يقرّب الإنسان من المحرّمات بحيث من يرتكب الشبهات يوشك أنْ يقع في المحرّمات، باعتبار أنّ جرأة الإنسان على ارتكاب محتمل الحرمة قد تُجرّئه على أنْ يرتكب ما استبان له من الإثم كما في بعض الروايات، ومن هنا يظهر أنّ ملاك النهي عن ارتكاب الشبهة، أو الترغيب في ترك الشبهة المستفاد من هذه الرواية هو أنّ ارتكاب الشبهات يجرّأ الإنسان على ارتكاب ما يعلم حرمته، إذا ارتكب الشبهات سوف يتجرّأ على ارتكاب المحرّمات المعلومة لديه. هذا مفاد الروايات، وهذا شيء آخر غير ما يريده الأخباريون، ما يريده الأخباريون هو أنّ ارتكاب الشبهة حرام، يجب الاحتياط في الشبهات، ليس من باب أنّه يُجرّأ الإنسان على ارتكاب المحرّمات المعلومة لديه، هذا هو ملاك النهي في هذه الروايات، بينما هم يثبتون حرمة الإقدام، ووجوب الاحتياط بملاكٍ آخر، وهو ملاك أنّ هذا فيه احتمال الحرمة الواقعيّة، احتمال أنْ يقع في الحرام يمنعه من ارتكاب تلك الشبهة، وإنْ لم يكن الحرام معلوماً لديه. هذا ملاك آخر غير ذاك الملاك، هناك فرق بينهما، مرّة نقول له لا ترتكب الشبهة لأنّه يجرّئك على ارتكاب المحرّمات المعلومة لديك، ما تكون حرمته معلومة لديك، ارتكاب الشبهات يجرّئك على ارتكابه(كان لما استبان له من الإثم أترك)، بينما إذا ارتكب الشبهات لا يكون أترك لما استبان له من الإثم؛ بل يكون أقرب إلى أنْ يرتكب ما استبان له من الإثم. هذا ليس هو المقصود للأخباريين، الأخباريون غير ناظرين إلى هذا عندما يقولون بوجوب الاحتياط في الشبهات، أو حرمة ارتكاب الشبهات، وإنّما الملاك عندهم هو أنّ ارتكاب الشبهة يُحتمل فيه الوقوع في الحرام الواقعي، احتمال أنْ يكون ما يرتكبه حراماً واقعياً، هذا يمنع من ارتكاب الشبهة. هذا لسان آخر وملاك آخر لا يكاد يستفاد من هذه الأخبار، مفاد هذه الأخبار هو أنّ ارتكاب الشبهات يقرّب الإنسان من العصيان ومن التمرّد على الله(سبحانه وتعالى) وارتكاب المحرّمات المعلومة لديه، وقلنا سابقاً بأنّ هذا لا يمكن الاستدلال به على حرمة ارتكاب الشبهة إلاّ إذا اثبتنا أنّ الاقتراب من المحرّمات، وأنْ يوشك على ارتكاب الحرام يكون محرّماً، وإلاّ إذا قلنا أنّه غير محرم، أو افترضنا أنّه مكروه، فلا يثبت حينئذٍ إلاّ الجواز، ولو على نحو الكراهة، ولا يكاد يثبت به حرمة الارتكاب ووجوب الاحتياط، وهذا يُستفاد من كل هذه الأخبار التي قرأناها، وحتّى الأخبار التي لم نقرأها.
الرواية الثالثة والأخيرة: مقبولة عمر بن حنظلة المعروفة الواردة في الخبرين المتعارضين. الرواية طويلة، السائل يسأل فيها الإمام(عليه السلام) عن الخبرين المتعارضين. الإمام(عليه السلام) في البداية ذكر مرّجحات باب التعارض، الأصدقيّة، والأورعيّة.....الخ، وفي الأخير ذكر الترجيح بالشهرة، والمقصود بالشهرة على ما ذكروا واتّفقوا عليه هو الشهرة الروائية، خبران متعارضان لم تتم فيهما مرجّحات باب التعارض ووصلت النوبة إلى الشهرة، فيقول له هذا الخبران المتعارضان إذا كان أحدهما مشهوراً شهرة روائيّة، وعُبّر عنه في الرواية بــــ(إذا كان مجمعاً عليه من أصحابك) إذا كان مشهوراً، والآخر بطبيعة الحال في حالة التعارض يكون غير مشهور، يكون شاذاً ونادراً كما عبّرت الرواية(ودع الشاذ النادر) يعني الذي لا يكون مشهوراً ولا مجمعاً عليه من اصحابك. الإمام(عليه السلام) أمره بطرح الشاذ النادر، وعللّ الترجيح بالشهرة، ولزوم الأخذ بالرواية المشهورة، وترك الخبر الشاذ النادر، بقوله(عليه السلام):(أنّ المجمع عليه لا ريب فيه) وذُكر في محلّه أنّ المقصود بالمجمع عليه هو المشهور، ولم يقل بعد ذلك أنّ الشاذ النادر ما هو ؟ هل الشاذ النادر هو ممّا لا ريب في بطلانه ؟ أو هو ممّا فيه الريب ؟ الرواية لم تصرّح بذلك، لكن الذي يُفهم من الرواية، وبقرائن سيأتي ذكرُها أنّ الشاذ النادر هو ممّا فيه الريب، وليس أنّه ممّا لا ريب في بطلانه، يعني معلوم البطلان، وإنّما هو ممّا فيه الريب.
الإمام(عليه السلام) في هذا المقام ذكر حديث التثليث، قال:(يُنظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه من أصحابك، فيؤخذ به من حكمنا ويُترك الشاذ الذي ليس بمشهورٍ عند أصحابك، فأنّ المجمع عليه لا ريب فيه، وإنّما الأمور ثلاثة، أمر بيّن رشده، فيُتّبع، وأمر بيّن غيّه فيُجتنب، وأمر مشكل يُرَدّ علمه إلى الله ورسوله، قال رسول الله "صلّى اللّه عليه وآله وسلّم" :حلالٌ بيّن، وحرام بيّن، وشبهات بين ذلك، فمن ترك الشبهات نجا من المحرّمات، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرّمات وهلك من حيث لا يعلم).[1] هذا ما ذُكر في هذه الروايات.
ذكر الشيخ الأنصاري في الرسائل جملة من القرائن على أنّ الشاذ النادر هو ممّا فيه الريب، لا أنّه معلوم البطلان، والغرض من الاهتمام بهذا الشيء هو أنْ ندخل الشاذ النادر في القسم الثالث الذي ذكره الإمام(عليه السلام) وهو الأمر المشكل، وإلاّ إذا كان الشاذ النادر ممّا لا ريب في بطلانه، فسوف يدخل في القسم الثاني، يعني في بيّن الغي الذي حكم الإمام(عليه السلام) بوجوب اجتنابه. نحن نقول لا يُفهم من الرواية أنّ الشاذ النادر هو ممّا لا ريب في بطلانه حتّى يدخل في القسم الثاني، وإنّما هو ممّا فيه الريب، فيدخل في القسم الثالث الذي هو(الأمر المشكل).
القرينة الأولى: أنّ الترجيح بالشهرة في الرواية ذُكر بعد أمورٍ أخرى كالترجيح بالأصدقيّة والأعدليّة، وبعد أنْ استنفذ مرجّحات باب التعارض ذكر أخيراً الترجيح بالشهرة. يقول(قدّس سرّه):( والمراد أنّ الشاذ فيه ريب لا أنّ الشهرة تجعل الشاذ ممّا لا ريب في بطلانه، وإلاّ لم يكن معنى لتأخير الترجيح بالشهرة عن الترجيح بالأصدقيّة والأعدليّة، والأورعيّة، ولا لفرض الراوي الشهرة في كلا الخبرين، ولا لتثليث الأمور، ثمّ الاستشهاد بتثليث النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم)[2]
إذن: الشهرة لا توجب العلم ببطلان ما يعارض الخبر المشهور، وإنّما يكون ما يعارض الخبر المشهور ممّا فيه الريب، وهذا يناسب تقديم الترجيح بالأصدقيّة والأعدليّة وغيرها على الترجيح بالشهرة.
القرينة الثانية: أنّ الراوي بعد أنْ أكمل الإمام(عليه السلام) كلامه افترض الشهرة في كلا الخبرين، بعد أنْ قال الإمام(عليه السلام) رجّح بالشهرة، واعمل بالمشهور، ودع الشاذ النادر، قال الراوي في مقام التفريع: فإذا كان كل منهما مشهوراً، يعني افترض الشهرة في الخبرين المتعارضين. ومن الواضح أنّ هذا لا ينسجم مع افتراض أنّ الشهرة توجب العلم ببطلان ما يقابل المشهور، فكيف تُفرض الشهرة في كليهما ؟ هذا غير معقول، أنْ نفترض الشهرة في هذا الحديث وفي هذا الحديث معاً مع افتراض تعارضهما، والحال أنّ كون أحد الخبرين مشهوراً يوجب العلم ببطلان الآخر، فيسقط عن الاعتبار، فلا معنى لافتراض الشهرة في كلٍ منهما، هذا لا ينسجم إلاّ مع افتراض ما قاله الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) وقالوه كلّهم من أنّ ما يقابل المشهور هو ممّا فيه الريب؛ فحينئذٍ يقال: أنّ هذا يدخل في القسم الثالث الذي هو عبارة عن الأمر المشكل.
القرينة الثالثة: أنّ الشيخ(قدّس سرّه) قال: أنّه على تقدير أنْ يكون الشاذ وغير المشهور ممّا لا ريب في بطلانه؛ حينئذٍ تكون الأمور اثنين لا ثلاثة؛ لأنّه سوف يكون لدينا أمر بيّن الرشد، وأمر بيّن الغي، وما يقابل المشهور يدخل في بيّن الغي، فتكون الأمور اثنين لا ثلاثة، ولا داعي حينئذٍ لذكر أنّ الأمور ثلاثة في كلام الإمام(عليه السلام)؛ إذ في مورد الرواية ليس لدينا أمور ثلاثة، وإنّما لدينا أمران أمر بيّن الرشد الذي هو المشهور المجمع عليه، وأمر بيّن الغيّ الذي هو الخبر الشاذ النادر إذا كان موجباً للعلم ببطلانه، فيدخل في بيّن الغيّ، فلا داعي لتثليث الأمور في كلام الإمام(عليه السلام)، ولا داعي لاستشهاده بكلام النبي(صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) أيضاً الوارد في التثليث، كل هذا لا داعي له؛ لأنّ الأمور تكون اثنين لا ثلاثة، بينما إذا قلنا أنّ الشهرة لا توجب العلم بالبطلان؛ فحينئذٍ تكون الأمور ثلاثة، أمر بيّن الرشد، وأمر بيّن الغي، وأمر مشكل؛ وحينئذٍ ينطبق عنوان المشكل على الخبر الشاذ الذي فيه ريب، لا أنّه معلوم البطلان.
الذي يمكن أنْ يقال: بقطع النظر عن أنّ هذه القرائن تامّة، أو لا، أنّ طبيعة القضيّة أيضاً تقتضي أنْ يكون ما يقابل المشهور ما فيه الريب، لا أنّه ممّا لا ريب في بطلانه؛ لأنّ غاية ما تقتضي الشهرة هو أنْ يقطع الإنسان نتيجة الشهرة، بصدور هذه الرواية المشهورة والمجمع عليها من المعصوم(عليه السلام)، لكن بالرغم من هذا، هذا لا يوجب القطع ببطلان ما يقابلها؛ لأنّ هناك أموراً أخرى غير مسألة الصدور، هناك مسألة جهة الصدور، ومسألة الدلالة، هذه أمور ليست قطعيّة، الشهرة توجب القطع بالصدور، لكن هذه الرواية ما هي جهة الدلالة فيها، أو ما هي الدلالة في هذه الرواية ؟ هذا يوجب أنْ لا نقطع ببطلان ما يقابلها، كيف نقطع ببطلانه ؟ والحال أنّه من الممكن أنْ يكون ما يقابلها صحيح وصادر من المعصوم (عليه السلام)، باعتبار أنّ الدلالة في المشهور ليست واضحة، أي أنّ جهة الصدور فيه ليست واضحة، فلا نستطيع بمجرّد أنّ رواية مشهورة، حتّى لو قطعنا بصدورها أنْ نجزم بفساد ما يقابلها؛ بل من الممكن أنْ تكون هذه صادرة وهذه صادرة، ويُحلّ التعارض عن طريق افتراض التقيّة، أو عن طريق الجمع الدلالي بين الروايتين.
إذن: مجرّد الشهرة لا يقتضي الجزم ببطلان ما يقابها. نعم، يمكن أنْ نقول فيه ريب، أو ليس حجّة، أو لا يجوز العمل به، كل هذا صحيح، لكن هذا شيء، والجزم بالبطلان والفساد، والجزم بأنّه ممّا لا ريب في بطلانه، هذا لا تقتضيه طبيعة الشهرة، بقطع النظر عن القرائن التي ذكرها الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه).
إلى هنا وصلنا إلى أنّ كل هذا هو محاولة في مقام الاستدلال بالرواية على إدخال الخبر الشاذ النادر في القسم الثالث الذي هو الأمر المشكل. إذن: الخبر الشاذ النادر داخل في الأمر المشكل، وفي الأمر المشكل أُمرَ بردّه كما في الرواية إلى الله(سبحانه وتعالى)، وإلى الرسول(صلّى اللّه عليه وآله وسلّم)، والمقصود بذلك هو الاحتياط ووجوب الاجتناب.
كان الكلام في الرواية الثانية من روايات التثليث وهي رواية النعمان بن بشير، وقلنا أنّ مضمون هذه الرواية موجود في رواياتٍ أخرى ذكرنا بعضها.
الكلام يقع في الاستدلال بهذه الروايات على وجوب الاحتياط في محل الكلام. في الواقع الاستدلال بهذه الرواية وما كان بمضمونها على وجوب الاحتياط في محل الكلام يواجه مشكلة في الدلالة، وذلك لأنّ المستفاد من هذه الرواية وما كان بمضمونها هو أنّ ارتكاب الشبهات يوجب اقتراب الإنسان من الوقوع في الحرام، مفادها أنّ مرتكب الشبهة ـــــ كما في بعض الروايات ـــــ مشرف على الوقوع في المحرّمات. الواضح من خلال التمثيل بالحمى (وراعي الغنم يوشك أنْ يقع فيه)، أو(كان لما استبان له من الإثم أترك)، وأمثال هذه العبارات، يُفهم منها أنّ ارتكاب الشبهة يوجب أنْ يقترب الإنسان من المحرمات بحيث يكون مشرفاً على الدخول في المحرّمات؛ وحينئذٍ من يستدل بهذه الروايات على وجوب الاحتياط لابدّ أنْ يثبت بأنّ الإشراف على المحرّمات والاقتراب منها حرام، وأنّه يجب عدم الاقتراب من المحرّمات حتّى يكون بإمكانه أنْ يستدل بهذه الروايات على وجوب اجتناب الشبهة والاحتياط في الشبهات؛ لأنّ مفاد هذه الروايات هو أنّ ارتكاب الشبهة يوجب الاقتراب من المحرّمات، لكن من قال أنّ الاقتراب من المحرّمات والإشراف عليها حرام يجب تركه ؟ إذا ثبت وجوب تركه؛ حينئذٍ يمكن الاستدلال بهذه الروايات على وجوب ترك الشبهة؛ لأنّ ارتكاب الشبهة يوجب الاقتراب من الحرام، والاقتراب من الحرام حرام، لكن من الواضح أنّ هذا يتوقّف على إثبات أنّ الاقتراب من المحرّمات حرام، وأنّ ترك الاقتراب من المحرّمات واجب. أمّا إذا لم نقل بوجوب ترك الاقتراب من المحرّمات، وقلنا بجواز الاقتراب، ولو على نحو الكراهة؛ حينئذٍ لا يمكن إثبات وجوب الاحتياط وحرمة ارتكاب الشبهة، وإنّما غاية ما يثبت هو الجواز على نحو الكراهة، وهذا ليس هو المقصود للأخباريين، الأخباريون يريدون أنْ يثبتوا حرمة ارتكاب الشبهة، ووجوب الاجتناب عن الشبهة، بينما لا يُستفاد هذا المعنى من لسان هذه الروايات، وإنّما يُستفاد منه أنّ ارتكاب الشبهات يوجب الاقتراب من المحرّمات.
يمكن صياغة هذا المطلب بصياغةٍ أخرى: أنّ الروايات واضحة في أنّها تقول هناك أمور ثلاثة(حلال بيّن، وحرام بيّن، وشبهات لا يُعلم حرمتها ولا حلّيتها) والذي يُفهم من هذه الروايات(لو أنّ راعياً رعى حول الحمى أوشك أنْ يقع فيها)، أو(فمن ترك ما اشتبه له من الإثم كان لما استبان له أترك) وأمثال هذه العبارات، الذي يُستفاد منها هذا المعنى الذي قلناه من أنّ ارتكاب الشبهات ليس فيه محذور ومانع نفسي، وإنّما محذوره هو أنّه يقرّب الإنسان من المحرّمات بحيث من يرتكب الشبهات يوشك أنْ يقع في المحرّمات، باعتبار أنّ جرأة الإنسان على ارتكاب محتمل الحرمة قد تُجرّئه على أنْ يرتكب ما استبان له من الإثم كما في بعض الروايات، ومن هنا يظهر أنّ ملاك النهي عن ارتكاب الشبهة، أو الترغيب في ترك الشبهة المستفاد من هذه الرواية هو أنّ ارتكاب الشبهات يجرّأ الإنسان على ارتكاب ما يعلم حرمته، إذا ارتكب الشبهات سوف يتجرّأ على ارتكاب المحرّمات المعلومة لديه. هذا مفاد الروايات، وهذا شيء آخر غير ما يريده الأخباريون، ما يريده الأخباريون هو أنّ ارتكاب الشبهة حرام، يجب الاحتياط في الشبهات، ليس من باب أنّه يُجرّأ الإنسان على ارتكاب المحرّمات المعلومة لديه، هذا هو ملاك النهي في هذه الروايات، بينما هم يثبتون حرمة الإقدام، ووجوب الاحتياط بملاكٍ آخر، وهو ملاك أنّ هذا فيه احتمال الحرمة الواقعيّة، احتمال أنْ يقع في الحرام يمنعه من ارتكاب تلك الشبهة، وإنْ لم يكن الحرام معلوماً لديه. هذا ملاك آخر غير ذاك الملاك، هناك فرق بينهما، مرّة نقول له لا ترتكب الشبهة لأنّه يجرّئك على ارتكاب المحرّمات المعلومة لديك، ما تكون حرمته معلومة لديك، ارتكاب الشبهات يجرّئك على ارتكابه(كان لما استبان له من الإثم أترك)، بينما إذا ارتكب الشبهات لا يكون أترك لما استبان له من الإثم؛ بل يكون أقرب إلى أنْ يرتكب ما استبان له من الإثم. هذا ليس هو المقصود للأخباريين، الأخباريون غير ناظرين إلى هذا عندما يقولون بوجوب الاحتياط في الشبهات، أو حرمة ارتكاب الشبهات، وإنّما الملاك عندهم هو أنّ ارتكاب الشبهة يُحتمل فيه الوقوع في الحرام الواقعي، احتمال أنْ يكون ما يرتكبه حراماً واقعياً، هذا يمنع من ارتكاب الشبهة. هذا لسان آخر وملاك آخر لا يكاد يستفاد من هذه الأخبار، مفاد هذه الأخبار هو أنّ ارتكاب الشبهات يقرّب الإنسان من العصيان ومن التمرّد على الله(سبحانه وتعالى) وارتكاب المحرّمات المعلومة لديه، وقلنا سابقاً بأنّ هذا لا يمكن الاستدلال به على حرمة ارتكاب الشبهة إلاّ إذا اثبتنا أنّ الاقتراب من المحرّمات، وأنْ يوشك على ارتكاب الحرام يكون محرّماً، وإلاّ إذا قلنا أنّه غير محرم، أو افترضنا أنّه مكروه، فلا يثبت حينئذٍ إلاّ الجواز، ولو على نحو الكراهة، ولا يكاد يثبت به حرمة الارتكاب ووجوب الاحتياط، وهذا يُستفاد من كل هذه الأخبار التي قرأناها، وحتّى الأخبار التي لم نقرأها.
الرواية الثالثة والأخيرة: مقبولة عمر بن حنظلة المعروفة الواردة في الخبرين المتعارضين. الرواية طويلة، السائل يسأل فيها الإمام(عليه السلام) عن الخبرين المتعارضين. الإمام(عليه السلام) في البداية ذكر مرّجحات باب التعارض، الأصدقيّة، والأورعيّة.....الخ، وفي الأخير ذكر الترجيح بالشهرة، والمقصود بالشهرة على ما ذكروا واتّفقوا عليه هو الشهرة الروائية، خبران متعارضان لم تتم فيهما مرجّحات باب التعارض ووصلت النوبة إلى الشهرة، فيقول له هذا الخبران المتعارضان إذا كان أحدهما مشهوراً شهرة روائيّة، وعُبّر عنه في الرواية بــــ(إذا كان مجمعاً عليه من أصحابك) إذا كان مشهوراً، والآخر بطبيعة الحال في حالة التعارض يكون غير مشهور، يكون شاذاً ونادراً كما عبّرت الرواية(ودع الشاذ النادر) يعني الذي لا يكون مشهوراً ولا مجمعاً عليه من اصحابك. الإمام(عليه السلام) أمره بطرح الشاذ النادر، وعللّ الترجيح بالشهرة، ولزوم الأخذ بالرواية المشهورة، وترك الخبر الشاذ النادر، بقوله(عليه السلام):(أنّ المجمع عليه لا ريب فيه) وذُكر في محلّه أنّ المقصود بالمجمع عليه هو المشهور، ولم يقل بعد ذلك أنّ الشاذ النادر ما هو ؟ هل الشاذ النادر هو ممّا لا ريب في بطلانه ؟ أو هو ممّا فيه الريب ؟ الرواية لم تصرّح بذلك، لكن الذي يُفهم من الرواية، وبقرائن سيأتي ذكرُها أنّ الشاذ النادر هو ممّا فيه الريب، وليس أنّه ممّا لا ريب في بطلانه، يعني معلوم البطلان، وإنّما هو ممّا فيه الريب.
الإمام(عليه السلام) في هذا المقام ذكر حديث التثليث، قال:(يُنظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه من أصحابك، فيؤخذ به من حكمنا ويُترك الشاذ الذي ليس بمشهورٍ عند أصحابك، فأنّ المجمع عليه لا ريب فيه، وإنّما الأمور ثلاثة، أمر بيّن رشده، فيُتّبع، وأمر بيّن غيّه فيُجتنب، وأمر مشكل يُرَدّ علمه إلى الله ورسوله، قال رسول الله "صلّى اللّه عليه وآله وسلّم" :حلالٌ بيّن، وحرام بيّن، وشبهات بين ذلك، فمن ترك الشبهات نجا من المحرّمات، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرّمات وهلك من حيث لا يعلم).[1] هذا ما ذُكر في هذه الروايات.
ذكر الشيخ الأنصاري في الرسائل جملة من القرائن على أنّ الشاذ النادر هو ممّا فيه الريب، لا أنّه معلوم البطلان، والغرض من الاهتمام بهذا الشيء هو أنْ ندخل الشاذ النادر في القسم الثالث الذي ذكره الإمام(عليه السلام) وهو الأمر المشكل، وإلاّ إذا كان الشاذ النادر ممّا لا ريب في بطلانه، فسوف يدخل في القسم الثاني، يعني في بيّن الغي الذي حكم الإمام(عليه السلام) بوجوب اجتنابه. نحن نقول لا يُفهم من الرواية أنّ الشاذ النادر هو ممّا لا ريب في بطلانه حتّى يدخل في القسم الثاني، وإنّما هو ممّا فيه الريب، فيدخل في القسم الثالث الذي هو(الأمر المشكل).
القرينة الأولى: أنّ الترجيح بالشهرة في الرواية ذُكر بعد أمورٍ أخرى كالترجيح بالأصدقيّة والأعدليّة، وبعد أنْ استنفذ مرجّحات باب التعارض ذكر أخيراً الترجيح بالشهرة. يقول(قدّس سرّه):( والمراد أنّ الشاذ فيه ريب لا أنّ الشهرة تجعل الشاذ ممّا لا ريب في بطلانه، وإلاّ لم يكن معنى لتأخير الترجيح بالشهرة عن الترجيح بالأصدقيّة والأعدليّة، والأورعيّة، ولا لفرض الراوي الشهرة في كلا الخبرين، ولا لتثليث الأمور، ثمّ الاستشهاد بتثليث النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم)[2]
إذن: الشهرة لا توجب العلم ببطلان ما يعارض الخبر المشهور، وإنّما يكون ما يعارض الخبر المشهور ممّا فيه الريب، وهذا يناسب تقديم الترجيح بالأصدقيّة والأعدليّة وغيرها على الترجيح بالشهرة.
القرينة الثانية: أنّ الراوي بعد أنْ أكمل الإمام(عليه السلام) كلامه افترض الشهرة في كلا الخبرين، بعد أنْ قال الإمام(عليه السلام) رجّح بالشهرة، واعمل بالمشهور، ودع الشاذ النادر، قال الراوي في مقام التفريع: فإذا كان كل منهما مشهوراً، يعني افترض الشهرة في الخبرين المتعارضين. ومن الواضح أنّ هذا لا ينسجم مع افتراض أنّ الشهرة توجب العلم ببطلان ما يقابل المشهور، فكيف تُفرض الشهرة في كليهما ؟ هذا غير معقول، أنْ نفترض الشهرة في هذا الحديث وفي هذا الحديث معاً مع افتراض تعارضهما، والحال أنّ كون أحد الخبرين مشهوراً يوجب العلم ببطلان الآخر، فيسقط عن الاعتبار، فلا معنى لافتراض الشهرة في كلٍ منهما، هذا لا ينسجم إلاّ مع افتراض ما قاله الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) وقالوه كلّهم من أنّ ما يقابل المشهور هو ممّا فيه الريب؛ فحينئذٍ يقال: أنّ هذا يدخل في القسم الثالث الذي هو عبارة عن الأمر المشكل.
القرينة الثالثة: أنّ الشيخ(قدّس سرّه) قال: أنّه على تقدير أنْ يكون الشاذ وغير المشهور ممّا لا ريب في بطلانه؛ حينئذٍ تكون الأمور اثنين لا ثلاثة؛ لأنّه سوف يكون لدينا أمر بيّن الرشد، وأمر بيّن الغي، وما يقابل المشهور يدخل في بيّن الغي، فتكون الأمور اثنين لا ثلاثة، ولا داعي حينئذٍ لذكر أنّ الأمور ثلاثة في كلام الإمام(عليه السلام)؛ إذ في مورد الرواية ليس لدينا أمور ثلاثة، وإنّما لدينا أمران أمر بيّن الرشد الذي هو المشهور المجمع عليه، وأمر بيّن الغيّ الذي هو الخبر الشاذ النادر إذا كان موجباً للعلم ببطلانه، فيدخل في بيّن الغيّ، فلا داعي لتثليث الأمور في كلام الإمام(عليه السلام)، ولا داعي لاستشهاده بكلام النبي(صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) أيضاً الوارد في التثليث، كل هذا لا داعي له؛ لأنّ الأمور تكون اثنين لا ثلاثة، بينما إذا قلنا أنّ الشهرة لا توجب العلم بالبطلان؛ فحينئذٍ تكون الأمور ثلاثة، أمر بيّن الرشد، وأمر بيّن الغي، وأمر مشكل؛ وحينئذٍ ينطبق عنوان المشكل على الخبر الشاذ الذي فيه ريب، لا أنّه معلوم البطلان.
الذي يمكن أنْ يقال: بقطع النظر عن أنّ هذه القرائن تامّة، أو لا، أنّ طبيعة القضيّة أيضاً تقتضي أنْ يكون ما يقابل المشهور ما فيه الريب، لا أنّه ممّا لا ريب في بطلانه؛ لأنّ غاية ما تقتضي الشهرة هو أنْ يقطع الإنسان نتيجة الشهرة، بصدور هذه الرواية المشهورة والمجمع عليها من المعصوم(عليه السلام)، لكن بالرغم من هذا، هذا لا يوجب القطع ببطلان ما يقابلها؛ لأنّ هناك أموراً أخرى غير مسألة الصدور، هناك مسألة جهة الصدور، ومسألة الدلالة، هذه أمور ليست قطعيّة، الشهرة توجب القطع بالصدور، لكن هذه الرواية ما هي جهة الدلالة فيها، أو ما هي الدلالة في هذه الرواية ؟ هذا يوجب أنْ لا نقطع ببطلان ما يقابلها، كيف نقطع ببطلانه ؟ والحال أنّه من الممكن أنْ يكون ما يقابلها صحيح وصادر من المعصوم (عليه السلام)، باعتبار أنّ الدلالة في المشهور ليست واضحة، أي أنّ جهة الصدور فيه ليست واضحة، فلا نستطيع بمجرّد أنّ رواية مشهورة، حتّى لو قطعنا بصدورها أنْ نجزم بفساد ما يقابلها؛ بل من الممكن أنْ تكون هذه صادرة وهذه صادرة، ويُحلّ التعارض عن طريق افتراض التقيّة، أو عن طريق الجمع الدلالي بين الروايتين.
إذن: مجرّد الشهرة لا يقتضي الجزم ببطلان ما يقابها. نعم، يمكن أنْ نقول فيه ريب، أو ليس حجّة، أو لا يجوز العمل به، كل هذا صحيح، لكن هذا شيء، والجزم بالبطلان والفساد، والجزم بأنّه ممّا لا ريب في بطلانه، هذا لا تقتضيه طبيعة الشهرة، بقطع النظر عن القرائن التي ذكرها الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه).
إلى هنا وصلنا إلى أنّ كل هذا هو محاولة في مقام الاستدلال بالرواية على إدخال الخبر الشاذ النادر في القسم الثالث الذي هو الأمر المشكل. إذن: الخبر الشاذ النادر داخل في الأمر المشكل، وفي الأمر المشكل أُمرَ بردّه كما في الرواية إلى الله(سبحانه وتعالى)، وإلى الرسول(صلّى اللّه عليه وآله وسلّم)، والمقصود بذلك هو الاحتياط ووجوب الاجتناب.